لعل أخطر ملامح التحول الأيديولوجي والإستراتيجي لأحمد الشرع (أبي محمد الجولاني)، من قائد جهادي تقليدي إلى رئيس دولة، ما يرتبط بنيّته التطبيع مع إسرائيل من خلال خطوات مكثفة كشفتها الأيام القليلة الماضية، بدايةً من التصريحات المهادنة للتقارب مع تل أبيب، وإصرار أحمد الشرع -في معظم خطاباته- على عدم استعداء إسرائيل، مرورًا بمخرجات الاجتماع الاستثنائي بين الرئيس السوري والرئيس الأمريكي دونالد ترمب وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بمشاركة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان غير المباشرة خلال الجولة الأمريكية الأخيرة لدول الخليج، وما أثارته بنود صفقة القرن السورية من تساؤلات عن مستقبل التطبيع السوري الإسرائيلي، فضلًا عن التشكيك الدائر بشأن تسليم الحكومة السورية الملف السري للجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، والتسريبات الأخيرة عن سنوات الدعم والتأهيل الغربي لقائد هيئة تحرير الشام سابقًا والرئيس الحالي لسوريا أحمد الشرع، بالتزامن مع المحادثات السرية التي تجرى بين الجانب السوري والإسرائيلي والتركي في أذربيجان.
وفي هذا السياق، تدفع تلك التحركات نحو إشكاليات جوهرية في مستقبل السردية الجهادية، وتطرح تساؤلات عدة عما إذا كان تطبيع العلاقات المحتمل بين سوريا وإسرائيل سيسفر عن تحول إستراتيجي داخل الحركات الجهادية السورية وتغيير لأولوياتها العملياتية؟ وهل سيؤدي التطبيع إلى نهاية حلم السلفية الجهادية بتطبيق الشريعة في بلاد الشام، أم أنه يُشير إلى إستراتيجية مدروسة نحو حركة سياسية براغماتية؟ وكيف سيفسر الشرع أي شكل من أشكال التطبيع السوري الإسرائيلي؟ وما المبررات التي يقدمها لإنقاذ الرواية الجهادية من التآكل، ولإنقاذ نفسه من فقدان شرعيته الرمزية والأيديولوجية؟
يحاول هذا التحليل تفنيد الجدل القائم عما إذا كان الجولاني بتطبيعه مع إسرائيل منخرطًا في مناورة إستراتيجية، أم هو تراجع أيديولوجي جذري يتخلى فيه عن المبادئ الجهادية التي كانت ركيزة صورته بوصفه زعيمًا للمقاومة؟
يُعد الفصل بين “العدو القريب” و”العدو البعيد” إطارًا أساسيًّا في الفكر الجهادي ضد إسرائيل، وفي هذا النموذج يشمل العدو القريب الأنظمة المحلية المرتدة، والحكومات العربية العلمانية، والقوات العسكرية الوطنية التي تقمع الإسلام داخليًّا، في حين يتمثل العدو البعيد في القوى العالمية -وعلى رأسها الولايات المتحدة والدول الأوروبية وإسرائيل- التي تدعم الأنظمة المحلية، ويُنظر إليها على أنها معتدٍ خارجي على الإسلام.
ومن هذا، تُصنف إسرائيل -باستمرار- بأنها محور العدو البعيد، ليس فقط لموقعها الجغرافي، ولكن أيضًا لمركزيتها الأيديولوجية والرمزية في النظرة الجهادية العالمية، إذ يُنظر إلى إسرائيل على أنها مشروع استعماري غربي مفروض على أرض المسلمين، ووكيل للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، فضلًا عن كونها معتديًا دائمًا على الإسلام بسبب احتلالها فلسطين، وهي الأرض المقدسة في الفقه الإسلامي؛ لذا فمن وجهة نظر الجهاديين، تُعد أي محاولة من جانب النظام السوري لتطبيع العلاقات مع إسرائيل خيانة دينية ووطنية، لا مناورة سياسية، حيث تحتل القضية الفلسطينية مكانة محورية في الفكر الجهادي، بوصفها فريضة دينية، ورمزًا لمعاناة المسلمين، ومقاومتهم العالمية.
في السرديات الجهادية السورية -سواء تلك التي يقدمها تنظيم القاعدة أو داعش أو هيئة تحرير الشام- تُصور إسرائيل على أنها عدو ديني يُعد وجوده -في ذاته- إهانةً للسيادة الإسلامية، حيث يتجذر الخطاب الديني الجهادي عن اليهود على أنهم أعداء تاريخيون للدين الإسلامي بالاستشهاد بمواقف القبائل اليهودية الثلاث في المدينة المنورة؛ بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، كأمثلة على الخيانة والنفاق اليهودي المتأصل، وهذا الخطاب ليس معاديًا لإسرائيل فحسب؛ بل يُصور اليهود بأنها أمة ملعونة إلهيًّا، وعداؤهم للإسلام تاريخي؛ ومن ثم فيُعد مبدأ “الولاء والبراء” حجر زاوية عقَدي في الفكر السلفي الجهادي، خاصة السوري، حيث يُلزم المسلمين بالحفاظ على الولاء للأمة الإسلامية، وإظهار البراء من الكفر وأهله، وأي أنظمة أو تحالفات مع غير المسلمين، حيث تحظر التحالفات السياسية والمعاهدات أو التطبيع مع قوى تُعد كافرة أو ظالمة؛ لذا فإن التعامل مع إسرائيل، أو الاعتراف بها، أو إبرام معاهدات معها، يُعد انتهاكًا لمبدأ الولاء والبراء، وتستشهد الجماعات الجهادية في سوريا باستمرار بالولاء والبراء لرفض الديمقراطية، والقانون الدولي، ومفاوضات السلام، وأي دبلوماسية مع إسرائيل، حتى الهدن التكتيكية تُصاغ بعبارات صارمة، مقيدة بالسوابق والضرورات المؤقتة، لا بالقبول أو التطبيع.
ففي الخطاب الجهادي يُعادل التطبيع التخلي عن فريضة الجهاد ضد الاحتلال، ويُصور على أنه انتهاك للتضامن الإسلامي، حيث تستخدم الجماعات الجهادية كثيرًا مصطلحات مثل “خيانة المقاومة”، و”سقوط الأقنعة”؛ لتسليط الضوء على ما تراه نفاقًا للأنظمة التي كانت تروج سابقًا للخطاب المعادي للصهيونية، إذ يُبرر هذا التأطير موقف الجهاديين بوصفهم المعارضة الوحيدة الثابتة للإمبريالية الغربية، لا سيما في ظل صفقات التطبيع العربية مع الإمارات والبحرين والسودان والمغرب؛ ومن ثم فإن القراءة الجهادية للتطبيع السوري مع إسرائيل ليست مجرد رد فعل سياسي؛ فهي بناء للهوية والشرعية في حرب أيديولوجية أوسع نطاقًا تجعل أي مصالحة أو تعايش سلمي عملًا من أعمال الخيانة الدينية المخالفة للعقيدة.
كانت رحلة الجولاني البراغماتية أحد أبرز التطورات في المشهد الجهادي في الصراع السوري، فبعد انشقاقه عن داعش انحاز إلى جبهة النصرة (الفرع السوري لتنظيم القاعدة)، ثم أعاد تسمية جماعته عدة مرات، وتوج ذلك بتأسيس هيئة تحرير الشام، واتسمت خطاباته وأفعاله المبكرة بالالتزام بالفكر الجهادي الكلاسيكي المنطلق من الجهاد العالمي، والتفسير السلفي المتشدد، لكن مع مرور الوقت، تحول الجولاني نحو الحكم الإقليمي، والتطوير المؤسسي، والدبلوماسية، جاعلًا من هيئة تحرير الشام حكومةً فعلية في إدلب.
وعقب سقوط نظام الأسد في ديسمبر (كانون الأول) المنصرم، كثف الشرع مقابلاته مع وسائل الإعلام الغربية، ليؤكد تخليه الرمزي عن عباءة التشدد، لبناء متعمد لصورة رجل دولة، تهدف إلى جذب الجهات الفاعلة الدولية. في هذا الإطار البراغماتي، يُمكن النظر إلى الانفتاح المنشود على التطبيع مع إسرائيل على أنه تكيف واقعي، وأداة لاستمرار النظام وقبوله دوليًّا، ومن شأن هذه الخطوة أن تُحاكي السوابق التاريخية، حيث تتحول الحركات الإسلامية تحت الضغط نحو السياسة السائدة على حساب سردياتها التأسيسية.
يُشكل هذا التحول معضلةً عميقةً للتيار الجهادي السوري؛ ففي الفكر السلفي الجهادي يُعد التطبيع مع العدو، وخاصةً إسرائيل، بمنزلة الردة أو الخيانة؛ ومن ثم فإن براغماتية الجولاني تُعرضه لخطر وصف الفصائل الأصولية له بالخائن أو المُبتدع، وهو ما يترتب عليه إثارة التشرذم أو التمرد داخل صفوفه، وتقويض ادعائه بالأصالة الدينية؛ وهو ما يفرض على الجولاني صياغة خطاب سياسي جديد لتبرير تحول الموقف التاريخي من إسرائيل، ولإضفاء الشرعية على هذا التطبيع، قد يُركز فيه على توظيف مبادئ الشريعة الإسلامية، مثل المصلحة والضرورة، واستحضار سوابق تاريخية، والرسائل المزدوجة المُستخدمة للحفاظ على شعبيته بين صفوف المجاهدين داخليًّا وخارجيًّا؛ ففي سياق الفقه السلفي الجهادي، يجب أن يكون أي انحراف عن العداء المعياري تجاه إسرائيل قائمًا على أساس فقهي؛ ومن ثم فقد يجادل الجولاني بأن التطبيع، أو القبول به، يخدم مصلحة مجتمعية أكبر، مثل الحفاظ على السيطرة السنية على سوريا، ومنع الاحتلال الأجنبي، وقد يلجأ الجولاني أيضًا إلى مبدأ الضرورة، الذي يجيز أفعالًا غير مسموح بها لتجنب ضرر وجودي، وفي هذا الإطار، يُعد التعامل مع جهات معادية -مثل إسرائيل- أمرًا مسموحًا به مؤقتًا لضمان بقاء الدولة السورية الجديدة وسيادتها.
فضلًا عن هذا، قد يستشهد الجولاني أيضًا بوقائع إستراتيجية من التاريخ الإسلامي المبكر لتبرير موقفه، مثل صلح الحديبية، الذي كثيرًا ما يُستخدم في الخطاب الجهادي لتبرير الهدن المؤقتة مع الأعداء، حيث يصور الجولاني من خلاله التطبيع بأنه مناورة تكتيكية، لا خيانة. وبالنظر إلى الخطاب الموجه إلى الداخل السوري، فمن المرجح أن يركز الجولاني على تحويل التركيز على مقاومة الهيمنة الإيرانية والروسية، وحماية الهوية السنية، بتصوير التطبيع خطوة ضرورية لتجنب مزيد من إراقة الدماء، أو الإضرار بمصالح الشعب السوري، بل التلويح بجلب المنافع الاقتصادية، مثل الإعفاء من العقوبات كما تم الاتفاق مع الجانبين الأمريكي والسعودي.
إن التداعيات العميقة التي قد تُحدثها تحركات الرئيس السوري للتطبيع مع إسرائيل على العقيدة الجهادية، وخاصةً السلفية الجهادية، وما يمثله هذا التطبيع للقيم الجهادية الجوهرية في سوريا، تتضح فيما يلي:
وبالنظر إلى موقف الجماعات الجهادية الأقل تأثيرًا في الداخل السوري، لا تزال القضية الفلسطينية خطًا أحمر، وقد تدفع خطوة الجولاني الجهاديين إلى الانشقاق، أو الانضمام إلى جهات أكثر تشددًا، حيث ستتشكل استجابتهم وفقًا لقناعاتهم الأيديولوجية وديناميكيات المعركة المحلية، فقد يتنامى خطر التشرذم إلى فصائل مُتنافسة، خاصةً إذا تم التشكيك في الشرعية الدينية لهيئة تحرير الشام، زعيمة الحركات الجهادية في سوريا.
بالإضافة إلى هذا، فإن خطوات التطبيع ليست مثيرة للجدل عقَديًّا فحسب؛ بل قد تكون أيضًا محفوفة بالمخاطر الأمنية في الداخل، فلا يزال كثير من السوريين، وخاصةً في إدلب والمناطق المحيطة بها، يتمسكون بمشاعر قوية مؤيدة للقضية؛ لذا فإن أي تصور عن تنازل الشرع بشأن فلسطين قد يُشعل ردود فعل عنيفة، أو احتجاجات شعبية، أو على أقل تقدير يُحدث تراجعًا تدريجيًّا في الدعم الشعبي للحكومة السورية الجديدة.
محصلة القول: إذا سعى الجولاني إلى التطبيع العلني، أو قبوله على نحو غير مباشر، فمن المرجح أن يعتمد تبريره على مرونة الشريعة الإسلامية، والتشبيهات التاريخية، والغموض الإستراتيجي، وهو ما من شأنه أن يعزز تحوله إلى فاعل إسلامي حاكم بدلًا من كونه أيديولوجيًّا ثوريًّا من خلال إعادة صياغة هوية هيئة تحرير الشام لتصبح نموذجًا يحاكي حركات الإسلام السياسي، كحزب الحرية والعدالة التركي، أو حزب النهضة التونسي؛ لاكتساب شرعية تكتيكية بين السوريين المنهكين من الحرب من جهة، وأصحاب المصلحة الإقليمين والدوليين من الجهة الأخرى.
ولكن على الرغم من سيطرة الشرع المُحكمة على هيئة تحرير الشام فإنها ليست كيانًا متجانسًا، فقد يُحفز تحول القيادة نحو حوكمة براغماتية، وإمكانية التطبيع مع الأعداء التاريخيين، انشقاقات داخلية وسط هيئة تحرير الشام، وقد يرى بعض كوادر الهيئة -وخاصةً المقاتلين الأجانب- التطبيع انحرافًا غير مقبول للجماعة الجهادية التي لطالما نادت بمحاربة إسرائيل بوصفها عدوًّا محوريًّا؛ ما قد يؤدي إلى انهيار التماسك الداخلي لهيئة تحرير الشام التي تشكل ركيزة الجيش السوري الجديد، مع انشقاق القيادات وانضمامهم إلى فصائل أكثر تشددًا، مثل حراس الدين، أو داعش، على غرار الانقسامات الجهادية السابقة، مثل انقسام القاعدة وداعش في العراق وسوريا في أوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؛ ومن ثم فقد لا يؤدي التطبيع إلى زعزعة استقرار قيادة هيئة تحرير الشام فحسب؛ بل قد يُضعف أيضًا ادعاءها بأنها القوة الإسلامية السنية المهيمنة في سوريا، ما يهدد بنهاية مصداقية الجولاني الدينية، وتفتيت جوهر حركته العَقَدية؛ ومن ثم تغيير ديناميكيات القوة في المشهد الجهادي الأوسع، وعلى المدى المنظور، قد يُصبح التطبيع خط الصدع الأيديولوجي الذي يُحطم ما تبقى من تماسك المشروع الجهادي العابر للحدود في سوريا، وينذر بارتدادات أيديولوجية وتكتيكية محلية، وإقليمية، ودولية صعبة.
ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.