منذ بداية شهر يونيو (حزيران) الجاري، انتابت الصراع الروسي الأوكراني حالة من التصعيد الميداني والسياسي الحاد، في ظل انسداد المسارات التفاوضية، على الرغم من استمرارها الرمزي حتى الآن، وعدم إعلان أي من الطرفين موتها رسميًّا، وكذلك مع حالة من تداخل للاعتبارات العسكرية مع الأجندات الجيوسياسية الغربية.
ويبدو أن الحرب -من وجهة نظري- تدخل مرحلة جديدة تتسم بتكريس منطق الضغط بالنار، وتراجع الأمل في أي تسوية وشيكة (لا نستبعد بأي حال إمكانية حدوثها تمامًا، لكن بشرط تراجع أوكرانيا ورضوخها، أو حدوث مفاجأة، وما أكثرها هذه الأيام!).
لكن تغول الأطراف الدولية، الأوروبيين، وخاصةً البريطانيين، في مجريات الصراع، فضلًا عن تنامي الخطاب الراديكالي من كلا الطرفين هو الذي يدفعني إلى استبعاد تسوية قريبة، خاصةً مع انتصاف العام الجاري، كما كان بعضهم يقول.
فإذا نظرنا إلى المعطيات العسكرية الآتية من شمال شرق أوكرانيا، وتحديدًا من محوري خاركوف وسومي، فسنرى أنها تشير إلى تحول نوعي في إستراتيجية موسكو؛ فبعد شهور من حالة الجمود النسبي، عادت القوات الروسية إلى تكثيف عملياتها الميدانية، معتمدة على تنسيق معقد بين القوات البرية وسلاح الجو، مع التركيز على استهداف العمق اللوجستي للقوات الأوكرنية، حيث شملت أبرز الأهداف مخازن الذخيرة، وعنابر إنتاج المسيرات، بالإضافة إلى مراكز القيادة المتقدمة.
وزارة الدفاع الروسية أكدت اليوم أنها تمكنت من تصفية نحو 1500 جندي أوكراني في ظرف 24 ساعة، وتقدمت في مناطق إستراتيجية حول مدينة سيفرسك وتوغلت في مقاطعة سومي، وهذه التطورات العسكرية توحي بأن موسكو لم تعد تكتفي بردود الفعل الدفاعية؛ بل تسعى إلى فرض وقائع ميدانية على الأرض تغيّر معادلة الردع لصالحها.
في المقابل، لا تزال أصداء عملية “شبكة العنكبوت” الأوكرانية تتردد في كل مكان بسبب بلوغ مسيرات كييف قواعد عسكرية إستراتيجية في مناطق بعيدة، مثل مورمانسك وإيركوتسك. ورغم ما تحمله عملية “العنكبوت” من رمزية عالية، فإن تقييم جدواها العسكرية للحرب في أوكرانيا لا يزال محل جدل؛ فهي من وحي التحليلات العسكرية تخدم -في المقام الأول- دول الناتو والولايات المتحدة؛ لأن القاذفات البعيدة المدى المستهدفة، ما هي إلا وسائل ردع لهذه الدول، ولبلوغ الأرض الأمريكية بالقنابل النووية في حالة الصدام المباشر بين الناتو وروسيا؛ لذلك فإن الطرف المستفيد من تدمير 10% مما تملكه روسيا منها يصبح معروفًا للجميع.
ولا يفوتني هنا -تحريًا للموضوعية كذلك- الإشارة الى الرواية الروسية الرسمية بشأن هذا الاستهداف النوعي، التي تؤكد أن أغلب المسيرات الأوكرانية اعتُرِضَت قبل أن تبلغ أهدافها.
لكن مع ذلك، أرى أن دلالة هذه العملية لا تقتصر على بعدها العسكري؛ بل تشير إلى محاولة كييف تعويض الضعف الميداني بتوجيه هذه الضربات الرمزية الموجعة إلى الداخل الروسي؛ بغرض تعزيز موقفها التفاوضي والإعلامي، وإبقاء الصراع في واجهة الاهتمام الدولي، وهو ما يبدو أنها نجحت فيها إذا تابعنا جلّ ما تتناوله وسائل الإعلام الدولية الكبرى خلال الأيام الثلاثة الأخيرة.
لذلك أستطيع القول إن التحول الإستراتيجي الروسي، الذي نقرؤه في التحرك الأخير في خاركوف وسومي، يمكن فهمه في سياق أوسع، يهدف إلى:
1- تشتيت الجهد الدفاعي الأوكراني من خلال فتح جبهات جديدة.
2- استباق أي هجوم أوكراني مضاد جديد خلال الصيف، خاصة بعد الحديث عن دعم غربي جديد، وإعلان الحكومة البريطانية زيادة عدد المسيرات التي تقدمها لأوكرانيا بعشرة أضعاف، لتصل إلى مئة ألف مسيرة.
3- تحسين شروط التفاوض من خلال فرض وقائع ميدانية تضمن لروسيا موقفًا أقوى عند العودة -المحتملة بعد الكسر العسكري- إلى طاولة المفاوضات.
ويبدو لي أن بوتين يراهن الآن على تأكيد إمساكه بزمام المبادرة عسكريًّا، بعد أشهر من الهجمات الأوكرانية على البنية التحتية الروسية، ولا سيما منشآت الطاقة.
أما مسالة مفاوضات إسطنبول، فأرى أنها تسير إلى استمرار الانسداد، فإذا تحدثنا بموضوعية، فسنرى أنها -على الصعيد السياسي- لم تسفر عن شيء، ولا يمكن لأحد بحال أن يتحدث عن اختراق جوهري، فكل ما اقتصرت عليه هو اتفاق إنساني.
ويبدو كذلك أن موسكو كانت تدرك محدودية ما يمكن تحقيقه، وهذا ما يمكننا أن نفهمه مباشرة من تصريح لافت لدميتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، حين قال: “إن من الخطأ المراهنة على اختراقات”.
موسكو بالطبع تفسر الجمود التفاوضي بمواقف كييف المتشددة، وبدور واشنطن غير الحيادي. فما إن انتهت الجولة حتى هرع وفد أوكراني بقيادة يرماك إلى الولايات المتحدة لمناقشة نتائج الإجتماع، والأهم: المطالبة من هناك بفرض عقوبات إضافية على روسيا.
وبالتوازي مع ذلك، تحركت كييف لإقناع واشنطن بإعادة هيكلة اتفاقيات الدعم العسكري، وربطها بصفقات الموارد الطبيعية، كجزء من صفقة المعادن النادرة، وهو ما أراه محاولة واضحة ومكشوفة لتحويل الدعم العسكري إلى التزام استثماري طويل الأمد.
مما لا شك فيه أن تزامن المفاوضات في إسطنبول مع تحركات تشريعية أمريكية يقودها الصقر ليندسي غراهام؛ لفرض عقوبات إضافية على روسيا، كقانون الرسوم الجمركية بنسبة 500%، يُعد مؤشرًا على ضعف الإرادة الغربية لتحقيق تسوية، وكذلك على استمرار هيمنة دعاة الحرب ضد روسيا في مراكز صنع القرار الغربي.
وخير دليل لي على ذلك هو الاجتماع الذي جمع أورسولا فون دير لاين مع السيناتور غراهام، وهو -كما أشرت أعلاه- المحرض الأبرز على هذه العقوبات، وهو ما يكشف عن رغبة أوروبية في التماهي مع الأجندة الأمريكية المتشددة، وإن كان ذلك على حساب المصالح الاقتصادية لبعض دول الاتحاد.
ولعل أبرز ملامح هذا التوجه لدى دعاة الحرب في الغرب، هو إصرارهم على الضغط على موسكو عبر التهديدات، وعبر التشكيك الإعلامي المستمر في أي مؤشرات روسية نحو التفاوض، رغم التصريحات المتوازنة التي تصدر من حين إلى آخر من الكرملين، كإبداء الاستعداد لعقد لقاء بين الرئيسين بوتين وترمب.
وفي ظلال كل ما سبق، يبدو المشهد المستقبلي متأرجحًا بين الحسم والتجميد. وفي رأيي، نحن أمام ثلاثة سيناريوهات رئيسة لهذا المشهد:
1- استمرار العمليات العسكرية الروسية طوال الصيف، مع تحقيق تقدم ميداني، لا أعتقد بعد التطورات الأخيرة وحزم الدعم العسكري لأوكرانيا التي تعلنها بلدان الناتو تباعًا اليوم، أنه -أي التقدم الميداني الروسي- سيكون كبيرًا، وسيقابله بالطبع تكثيف أوكراني للهجمات بالمسيرات داخل روسيا.. وبريطانيا كما أشرت أعلاه أعلنت مضاعفة واردتها من المسيرات إلى أوكرانيا بعشرة أضعاف.
2- تجميد الجبهات تدريجيًّا نتيجة الإنهاك المتبادل؛ ما قد يفتح المجال لظهور هدنة غير متفق عليها، أو “غير معلنة” بحلول نهاية الصيف.
3- تغيّر سياسي مفاجئ، سواء داخل أوكرانيا، أو في بعض مواقف حلفائها، يدفع نحو تسوية مفاجئة، قد تكون موجعة لأوكرانيا. وأعتمد في افتراضي هذا السيناريو على ما ألمحت إليه بعض التقديرات الغربية.
وفي الختام، يتضح أن الحرب في أوكرانيا تدخل منعطفًا أكثر تعقيدًا يومًا بعد يوم، تتداخل فيه الأهداف العسكرية مع المصالح الاقتصادية والسياسية الكبرى.
موسكو تسعى إلى تكريس حضورها الميداني من خلال عمليات نوعية في الشمال الشرقي، وتستعد للانتقام لكرامتها التي أهينت بوصفها قوة نووية، في حين تراهن كييف على استنزاف الداخل الروسي بالتعويل على الدعم الغربي.
أما الغرب، فتبدو مواقفه منقسمة بين توجه رسمي يتحدث عن دعم التسوية السياسية، وأجندة فعلية يغلب عليها خطاب التهديدات والتصعيد، يتولى كِبرها عتاة دعاة الحرب في واشنطن وبروكسل.
وفي حين تستمر المفاوضات الشكلية، فإن مسار المعركة على أرض الميدان، وتحولات التموضع الجيوسياسي، يشيران إلى أن القرار النهائي لن يُحسم أبدًا في قاعات التفاوض “المكيفة” على شاطئ البوسفور أو غيره؛ بل على جبهات النار، وربما خلف الكواليس الأمريكية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.