
منذ اندلاع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا مطلع عام 2022، شهدت العلاقات الدولية تحولًا ملحوظًا. سعت الدول الغربية إلى فرض عزلة خانقة على موسكو من خلال العقوبات الاقتصادية والضغوط الدبلوماسية، فوجدت روسيا نفسها أمام ضرورة إعادة توجيه بوصلة سياستها الخارجية نحو شركاء جدد في الجنوب العالمي. في هذا السياق برزت إفريقيا ساحة إستراتيجية تسعى موسكو إلى تعزيز حضورها فيها، سواء عن طريق توثيق التعاون السياسي والاقتصادي أو من خلال استدعاء رصيد التاريخ المشترك من الصداقة والدعم المتبادل. وهكذا أخذت الشراكة الروسية الإفريقية تكتسب زخمًا جديدًا يعكس آفاقًا واعدة لأصدقاء قدامى، ضمن مشهد عالمي يتجه نحو التعددية القطبية بعيدًا عن الهيمنة الغربية.
في مواجهة محاولات العزل الغربي، بقيت خطوط التواصل مفتوحة بين موسكو وكثير من عواصم الجنوب، وعززت روسيا في الأعوام الأخيرة حضورها في إفريقيا عن طريق صفقات الحبوب والتسليح والتعاون في مجالات الطاقة. كما لم تنضم غالبية الدول الإفريقية إلى العقوبات على روسيا، مما منح الكرملين متنفسًا مهمًا على الساحة الدولية. من منظور موسكو، باتت إفريقيا ليست مجرد سوق أو شريك اقتصادي فحسب؛ وإنما أيضًا دليل على أن روسيا ليست منعزلة دوليًا، وتجسيد لتحالف ناشئ بين دول الجنوب يتحدى أنماط الهيمنة التقليدية ويسعى إلى نظام عالمي أكثر توازنًا.
ترجع جذور العلاقات الروسية الإفريقية إلى حقبة الاتحاد السوفيتي، الذي أدى دورًا محوريًا في دعم حركات التحرر الوطني الإفريقية خلال القرن العشرين، فقد ساندت موسكو الدول الإفريقية في كفاحها لنيل الاستقلال وإنهاء الهيمنة الاستعمارية، وأسهمت في تبني الأمم المتحدة لـ”إعلان منح الاستقلال للدول والشعوب المستعمَرة” عام 1960. كما قدم الاتحاد السوفيتي مساعدات سخية لبناء الاقتصادات الوطنية في الدول الإفريقية الفتية، وأسهم في إنشاء بنى تحتية ومرافق صناعية لا يزال كثير منها قيد التشغيل حتى اليوم. كذلك فتحت الجامعات السوفيتية أبوابها لآلاف الطلاب الأفارقة، مما أدى إلى تخريج أجيال من المهنيين والقادة الذين حملوا مشاعر الود تجاه موسكو. وتميزت السياسة السوفيتية في إفريقيا بأنها خالية من الإرث الاستعماري؛ فلم تشترك موسكو في استغلال شعوب القارة، بل ركزت على الدعم الأيديولوجي والمادي للتحرر والتقدم. ومع انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، شهدت العلاقات فترة فتور خلال تسعينيات القرن الماضي، لكن العقدين الأخيرين حملا بوادر عودة الدفء إلى تلك الصلات القديمة. واليوم تستأنف روسيا تعزيز حضورها الإفريقي مستندةً إلى ذلك الرصيد التاريخي، حيث يجد خطابها الحديث عن مناهضة الهيمنة والتبعية صدى إيجابيًا لدى كثير من الأفارقة.
بعد مرحلة إعادة التقارب الأولية، سعت موسكو وإفريقيا إلى تأطير علاقتهما ضمن هيكل مؤسسي دائم. تجلى ذلك في قمة روسيا- إفريقيا الأولى التي استضافتها سوتشي عام 2019، بحضور قادة نحو 45 دولة إفريقية، وتمخضت عن عشرات الاتفاقيات ومذكرات التفاهم بقيمة مليارات الدولارات. أطلقت تلك القمة “منتدى الشراكة الروسية الإفريقية” بوصفه إطارًا للحوار والتنسيق المستمر. ثم في يوليو (تموز) 2023 انعقدت القمة الروسية الإفريقية الثانية في سانت بطرسبورغ، لتجديد الالتزامات رغم التحديات الدولية. ورغم انخفاض عدد القادة المشاركين بفعل ضغوط غربية، حضرت وفود من قرابة 49 دولة، مما أكد حرص الأفارقة على الحفاظ على التواصل مع موسكو.
أسفرت قمة 2023 عن اعتماد خطة عمل مشتركة للفترة من 2023 إلى 2026 تضمنت أولويات التعاون في مجالات متنوعة مثل الأمن والتنمية الاقتصادية والطاقة والتعليم والثقافة، بما يتماشى مع أجندة الاتحاد الإفريقي 2063. كذلك اتُفق على عقد مؤتمر وزاري سنوي لمتابعة التنفيذ. وبعد مؤتمر أول عُقد في موسكو عام 2024، تستضيف القاهرة المؤتمر الوزاري الثاني في ديسمبر (كانون الأول) 2025، في سابقة هي الأولى على أرض إفريقية. ومن المنتظر أن يمهّد ذلك الطريق لعقد القمة الروسية الإفريقية الثالثة في 2026، بهدف تقييم التقدم وإطلاق مبادرات جديدة تُرسخ التعاون الطويل الأمد.
على الصعيد السياسي والدبلوماسي، تقوم الشراكة الروسية الإفريقية على أرضية مصالح مشتركة لتكريس التعددية القطبية وإصلاح الحوكمة العالمية. تدعم موسكو حق الدول الإفريقية في إسماع صوتها في المحافل الدولية، ومن ذلك المطالبة بتمثيل أقوى لإفريقيا في مجلس الأمن. كما تساند الجهود الهادفة إلى تصحيح “الظلم التاريخي” الواقع على القارة في النظام الدولي، مثل الدعوة لمنح الاتحاد الإفريقي مقعدًا دائمًا في مجلس الأمن، ومراعاة شواغل إفريقيا في قضايا المناخ والأمن الغذائي.
تبنت دول إفريقية كثيرة سياسة عدم الانحياز حيال الأزمة الأوكرانية، ورفضت الانخراط في العقوبات الغربية على روسيا. امتنعت عدة عواصم إفريقية عن التصويت ضد موسكو في الأمم المتحدة، ودعت بدلًا من ذلك إلى الحوار والحل السلمي للنزاع، حتى إن وفدًا من عدد من القادة الأفارقة زار موسكو وكييف في منتصف 2023 ضمن مبادرة وساطة جماعية. ورغم عدم نجاحها في إنهاء الحرب، اعتبرت موسكو مجرد انخراط إفريقيا كلاعب دبلوماسي في هذه الأزمة مؤشرًا على صعود دور دول الجنوب العالمي.
تنتهج روسيا كذلك احترام مبدأ “الحلول الإفريقية للمشكلات الإفريقية” في مقاربة نزاعات القارة، حيث دعمت وساطات الاتحاد الإفريقي والتكتلات الإقليمية في أزمات كالسودان، وليبيا، ومنطقة الساحل، مع استعدادها لتقديم العون عند الطلب دون فرض شروط سياسية. هذا النهج القائم على عدم التدخل المباشر أكسب موسكو قبولًا لدى عدة حكومات إفريقية، خاصة بالمقارنة مع بعض القوى الغربية التي تقرن تعاونها بإملاءات داخلية.
وعلى صعيد التكتلات الدولية، حرصت روسيا على إشراك إفريقيا في المنصات الناشئة، فقد دعمت انضمام دول إفريقية إلى تجمع بريكس (جنوب إفريقيا منذ 2010، ولاحقًا مصر وإثيوبيا)، بما يعزز حضور القارة في رسم ملامح النظام الاقتصادي العالمي الجديد. كذلك رحب الطرفان بمنح الاتحاد الإفريقي عضوية دائمة في مجموعة العشرين عام 2023 بوصفه تطورًا يرسخ مكانة إفريقيا في صياغة القرارات الدولية.
على الصعيد الاقتصادي، تسعى روسيا ودول إفريقيا إلى بناء علاقات أكثر تنوعًا وعمقًا تخدم خطط التنمية المستدامة. ومع أن حجم التبادل التجاري لا يزال متواضعًا نسبيًا (بلغ نحو 27 مليار دولار في 2022)، فقد نما بسرعة في السنوات الأخيرة. تعد روسيا اليوم من أكبر موردي السلع الأساسية لإفريقيا، فهي مصدر رئيس للحبوب (خاصة القمح) الذي تعتمد عليه كثير من الدول الإفريقية في أمنها الغذائي، إلى جانب الأسمدة والمنتجات النفطية. في المقابل، تستورد موسكو من إفريقيا منتجات زراعية (مثل البن والفاكهة) ومعادن نفيسة، وغير ذلك من الموارد.
تحرص موسكو على توسيع استثماراتها في مشروعات البنية التحتية والتصنيع عبر القارة، فعلى سبيل المثال، تمثل محطة الضبعة النووية في مصر أحد أبرز مشروعات التعاون التقني، حيث تتولى شركة “روساتوم” بناء أول محطة طاقة نووية في مصر وإفريقيا شمال الصحراء بطاقة 4.8 غيغاواط، ما ينقل المعرفة النووية، ويسهم في تعزيز أمن الطاقة. كذلك تعمل روسيا على إنشاء منطقة صناعية قرب قناة السويس لتصنيع المنتجات الروسية محليًا وتصديرها إلى الأسواق الإفريقية، مستفيدة من الموقع الإستراتيجي لمصر ومنطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية.
وفي مجالات أخرى مهمة، تنشط شركات روسية في التعدين والطاقة في عدة دول إفريقية، وتعلن موسكو أنها لا تنظر إلى إفريقيا كمجرد “خزان للمواد الخام”؛ بل تسعى إلى الاستثمار في القيمة المضافة محليًا عن طريق إنشاء مصانع ومراكز إنتاج تُسهم في توطين الصناعات، وتوفير الوظائف. وفي قطاع الأمن الغذائي، برز الدور الروسي خلال أزمة الحبوب عام 2023، إذ بعد انسحاب موسكو من اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود سارعت لطمأنة الدول الإفريقية من خلال تعهدها بإمدادات حبوب مجانية للأكثر تضررًا. وبالفعل أرسلت روسيا مئات آلاف الأطنان من القمح والأسمدة مجانًا إلى دول إفريقية كانت محتاجة إلى تخفيف حدة أزمة الغذاء. ولا تقتصر الجهود على المعونات، بل تشمل دعم تطوير الزراعة الإفريقية من خلال نقل التكنولوجيا الحديثة في الري وإنتاج البذور والأسمدة؛ بهدف تعزيز الاكتفاء الذاتي الغذائي على المدى البعيد.
وفي مجال التمويل، يتجه الجانبان إلى اعتماد آليات بديلة للتحويلات المالية بعيدًا عن هيمنة الدولار والعقوبات الغربية. من ذلك السعي لاستخدام العملات الوطنية في المبادلات التجارية، والاستفادة من أدوات تمويلية جديدة كبنك التنمية التابع لبريكس لتمويل مشروعات إفريقية. كما يُنظر إلى منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA) على أنها سوق واعدة للشركات الروسية، إذ توفر قاعدة استهلاكية ضخمة تتجاوز 1.3 مليار نسمة يمكن الوصول إليها من خلال الاستثمار والإنتاج داخل إفريقيا.
في المجال الأمني والعسكري، تستند الشراكة الروسية الإفريقية إلى عقود من التعاون الدفاعي الذي يعود إلى حقبة الحرب الباردة. كانت الأسلحة السوفيتية رافدًا أساسيًا لجيوش حركات التحرر الإفريقية، ولا تزال دول كثيرة تعتمد على العتاد الروسي في تسليح قواتها. وتعد روسيا اليوم أكبر مزود للسلاح إلى إفريقيا بمختلف أصنافه، من البنادق وصولًا إلى الطائرات وأنظمة الدفاع المتقدمة.
تركز الإستراتيجية الروسية الراهنة على دعم قدرات الدول الإفريقية في حفظ الأمن ومكافحة الإرهاب، دون التورط في عمليات عسكرية مباشرة. توفر موسكو برامج تدريب للضباط والجنود الأفارقة في أكاديمياتها العسكرية، وتبرم اتفاقيات للتعاون الأمني تشمل تبادل المعلومات الاستخباراتية. وقد وقّعت روسيا خلال السنوات الأخيرة عشرات اتفاقيات الدفاع مع بلدان القارة، وزودت جيوشًا، مثل نيجيريا ودول الساحل، بأسلحة في معاركها ضد الجماعات المتطرفة.
إلى جانب التعاون الرسمي، ظهر الدور الروسي غير التقليدي من خلال الشركات العسكرية الخاصة، مثل “فاغنر” التي تنشط في نزاعات بدول كجمهورية إفريقيا الوسطى ومالي، بطلب من حكوماتها لتعزيز الأمن. ورغم الجدل المثار بشأن أنشطة تلك المجموعات، يرى بعض المواطنين في هذه الدول أنها أسهمت في استعادة الاستقرار مقارنة بحقبة الوجود العسكري الغربي. وتنأى موسكو رسميًا عن الارتباط المباشر بهذه الشركات، لكنها تؤكد حق الدول ذات السيادة في اختيار شركائها الأمنيين بحرية.
وقد أولت روسيا وإفريقيا ملف مكافحة الإرهاب أولوية مشتركة كبرى تُرجمت في إصدار إعلان للتعاون الأمني خلال قمة 2023 يؤكد التزام الجانبين بتنسيق الجهود ضد التهديدات الإرهابية في المنطقة. كذلك تواصل موسكو دعم المبادرات الإفريقية لحل النزاعات إقليميًا، مع حرصها بالتوازي على مصالحها الإستراتيجية (مثل مساعيها إلى إقامة وجود بحري في البحر الأحمر لتعزيز أمن الملاحة). يشكل استقرار إفريقيا -في اعتقاد روسيا- عاملًا ضروريًا للتنمية ومصلحة إستراتيجية، في حين ترى فيه الدول الإفريقية فرصة لتنويع شركائها الأمنيين، وتلقّي الدعم بعيدًا عن الشروط السياسية المسبقة.
لا يغيب البعد الثقافي والتعليمي عن مسار التقارب الروسي الإفريقي، إدراكًا لأهمية “القوة الناعمة” في توطيد العلاقات الطويلة المدى. خلال الحقبة السوفيتية تلقّى آلاف الطلاب الأفارقة تعليمهم العالي في جامعات موسكو وسانت بطرسبورغ وغيرها، ضمن منح دراسية قدمتها الحكومة السوفيتية؛ دعمًا لبناء كوادر إفريقية مؤهلة، وأسهم ذلك في تخريج جيل من المهنيين الأفارقة ارتبط بصداقات مع روسيا، وظل وفيًا لذكريات الدعم التعليمي السخي.
وفي السنوات الأخيرة تسارع الزخم التعليمي بين الجانبين؛ إذ يناهز عدد الطلاب الأفارقة في الجامعات الروسية حاليًا 32 ألفًا، مع ارتفاع كبير في المنح الدراسية المخصصة لإفريقيا منذ 2020 (تجاوزت 5,000 منحة سنويًا). وتشمل هذه البعثات مجالات حيوية، كالطب، والهندسة، والزراعة، وتكنولوجيا المعلومات؛ ما يسهم في نقل المعرفة، وبناء القدرات المحلية. إلى جانب ذلك، تعزز روسيا حضورها الثقافي في إفريقيا عن طريق المراكز الثقافية وتعليم اللغة الروسية، وكذلك من خلال وسائل الإعلام الموجّهة بالإنجليزية والفرنسية التي تخاطب الجمهور الإفريقي بطرح إعلامي بديل. وفي المقابل، تحظى الثقافات الإفريقية باهتمام متزايد في روسيا من خلال فعاليات للتعريف بالموسيقى والفنون والأدب الإفريقي؛ مما يرسخ التفاهم والتقارب الشعبي بين الطرفين.
تمثل مصر حالة خاصة ومهمة في مسار الشراكة الروسية الإفريقية، فهي دولة محورية تجمع بين ثقلها الإقليمي في إفريقيا والعالم العربي وعلاقاتها التاريخية الوثيقة مع موسكو. كانت مصر من أوائل الدول الإفريقية التي أقامت شراكة إستراتيجية مع الاتحاد السوفيتي في الخمسينيات (برز ذلك في بناء السد العالي، وصفقات الأسلحة الكبرى آنذاك)، ثم شهدت العلاقة فتورًا في عقود لاحقة مع توجه القاهرة نحو الغرب، قبل أن تستعيد زخمها مؤخرًا في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي. وقد نسج السيسي علاقة وثيقة مع الرئيس فلاديمير بوتين، وأبرم البلدان اتفاقية شراكة شاملة في 2018، ما فتح صفحة جديدة للتعاون المكثف في مختلف المجالات.
تؤدي مصر أيضًا دور الوسيط الدبلوماسي في عدة ملفات إقليمية ساخنة، وهو دور يلقى دعمًا وترحيبًا من موسكو؛ ففي أزمة غزة الأخيرة عام 2023، قادت القاهرة جهود التهدئة، واستضافت قمة دولية في شرم الشيخ لبحث وقف إطلاق النار، وقد أيدت روسيا علنًا المبادرة المصرية، ووصفت مصر بأنها شريك موثوق به، وركيزة استقرار إقليمي. وبالمثل، شاركت مصر في رعاية محادثات التسوية السياسية في ليبيا، حيث تعمل مع روسيا على تشجيع الحلول السلمية، ودعم مؤسسات الدولة الوطنية هناك. كما قادت القاهرة حراكًا دبلوماسيًا لاحتواء نزاع السودان الأهلي بالتنسيق مع الاتحاد الإفريقي، في تقاطع واضح مع رغبة موسكو في منع انزلاق المنطقة لمزيد من الفوضى.
اقتصاديًا وعسكريًا، تجسد مصر نموذجًا ناجحًا للشراكة الروسية الإفريقية؛ فهي الشريك التجاري الأكبر لروسيا في إفريقيا (بحصة تقارب ثلث إجمالي تجارة روسيا مع القارة)، وتعتمد مصر على إمدادات القمح الروسي لتأمين غذائها، كما تقيم على أرضها مشروعات إستراتيجية ضخمة، كمحطة الضبعة النووية، والمنطقة الصناعية الروسية في محور قناة السويس. وفي المجال الدفاعي، استفادت القاهرة من التقنيات العسكرية الروسية لتعزيز قدراتها عن طريق صفقات طائرات مقاتلة ومروحيات، وأنظمة دفاع جوي حديثة؛ مما ساعدها على تنويع مصادر تسليحها. وقد أجرت القوات المصرية والروسية تدريبات مشتركة تعكس مستوى متقدمًا من التنسيق العسكري. وإلى جانب ذلك، تضطلع مصر بدور قيادي داخل الاتحاد الإفريقي وتجمعات إقليمية أخرى؛ ما يجعل التنسيق معها بوابة أساسية لنجاح المبادرات الروسية على نطاق القارة، وليس أدل على ذلك من اختيار القاهرة لاستضافة مؤتمر الشراكة الوزاري لعام 2025 (لأول مرة يعقد هذا الحدث خارج روسيا) تأكيدًا لمكانة مصر المحورية بوصفها جسرًا للتواصل الروسي الإفريقي. كما أن انضمام مصر إلى تجمعات دولية مثل بريكس يعزز موقعها كحلقة وصل بين إفريقيا وشركاء أوراسيا في إطار النظام العالمي الجديد.
في ظل التحولات الجارية نحو نظام دولي متعدد الأقطاب، تبدو آفاق الشراكة الروسية الإفريقية واعدة. من المنتظر أن يتوطد التعاون عبر منصات مثل بريكس وغيرها، خاصة بعد توسيع بريكس ليشمل مصر وإثيوبيا إلى جانب جنوب إفريقيا ابتداءً من 2024، مما يوفر مساحة أكبر للتنسيق الاقتصادي والمالي بعيدًا عن نفوذ الغرب. وبالمثل، فإن حصول الاتحاد الإفريقي على مقعد في مجموعة العشرين يعكس تنامي ثقل إفريقيا في صياغة الأجندة الدولية، وهو تطور تدعمه روسيا بقوة.
ستظل قضايا الأمن الغذائي والتكنولوجيا والتعليم العالي ركائز أساسية لمستقبل الشراكة، فمن المتوقع تركيز الجهود على تعزيز الأمن الغذائي الإفريقي من خلال الاستثمار في الزراعة والبنية التحتية الزراعية، وتبادل الخبرات لرفع الإنتاجية، وتحقيق الاعتماد على الذات. وفي المجال التقني، يُرتقب دفع التعاون نحو آفاق جديدة تشمل نقل التكنولوجيا المتقدمة إلى إفريقيا، سواء في الطاقة النووية، أو الصناعات الرقمية، أو برامج الفضاء؛ بما يساعد الدول الإفريقية على تحقيق نهضة تكنولوجية، وتطوير قطاعاتها الصناعية. كما سيستمر الاهتمام بتطوير التعليم العالي وبناء الكوادر عن طريق زيادة المنح الدراسية والتبادل الأكاديمي، وربما إقامة مؤسسات تعليمية أو مراكز بحثية مشتركة تخدم أهداف التنمية لكلا الجانبين.
لا شك أن هناك تحديات أمام هذا الطموح المشترك لبناء المستقبل، منها شدة المنافسة الدولية على كسب شركاء في إفريقيا، والتقلبات الاقتصادية التي قد تؤثر في تنفيذ المشروعات. لكن الإرادة السياسية المتوافرة لدى موسكو وعواصم إفريقية كثيرة، مدعومة برصيد الثقة المتراكم والذاكرة التاريخية الإيجابية، كفيلة بتذليل العقبات، وتحويل الخطط إلى إنجازات واقعية؛ وعليه، يمكن القول إن “الأصدقاء القدامى” بين روسيا وإفريقيا يقفون اليوم على أعتاب “آفاق جديدة” فعلًا، آفاق تستند إلى ماضٍ حافل بالتضامن والكفاح المشترك، وتُبنى في حاضر يتسم بتلاقي الرؤى والمصالح، لتَعِدَ بمستقبل من الشراكة الإستراتيجية المتعددة الأبعاد. ومع استمرار وتيرة اللقاءات والتنسيق، تمضي موسكو ودول إفريقيا بخطى واثقة نحو ترسيخ تحالفهما كأحد أعمدة النظام العالمي الناشئ، بما يخدم مصالح شعوبهما، ويحقق التنمية والاستقرار الإقليمي والدولي.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير