لعل نتائج الانتخابات المحلية في تركيا التي ستُجري بعد أيام، ستشكل نقطة تحول رئيسة في مسار الديمقراطية التركية، وستمثل اختبارًا حقيقيًّا لجماهيرية الأحزاب الكبرى، ومؤشرًا على الاتجاه الذي قد تتبناه تركيا في المستقبل، خاصةً بعد تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن انتخابات الأحد المقبل ستكون الأخيرة له وفقًا للدستور، وهو التصريح الذي أثار الجدل حول كونه مجرد حيلة لكسب أصوات المؤيدين وتعاطفهم، أم إستراتيجية جديدة لتعديلات دستورية وشيكة، لا سيما في ظل الحملة الشرسة التي ينتهجها حزب الشعب الجمهوري للحفاظ على المكسب الوحيد للمعارضة في أنقرة وإسطنبول منذ ما يقرب من ثلاثة عقود، لكن حسابات الفوز والخسارة تحددها عوامل معقدة.
ستبدأ عملية الاقتراع بين الأحزاب السياسية المشاركة، البالغ عددها 34 حزبًا، صباح يوم الأحد المقبل، وسيكون الأول من أبريل (نيسان) تاريخًا جديدًا على صعيد بلديات المقاطعات، خاصة إسطنبول التي دائمًا ما ينظر إليها بعين الأهمية، إلى جانب أنقرة العاصمة السياسية لتركيا، ليُحسم الصراع بين حزب العدالة والتنمية الحاكم، وحزب الشعب الجمهوري المعارض، وحزب الرفاه الجديد، وحزب السعادة ذي التوجه الإسلامي، وحزب النصر اليميني المتطرف، وبعض الأحزاب الصغيرة.
منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة قبل أكثر من عقدين، لم تكن الانتخابات المحلية تأخذ هذا القدر الكبير من الأهمية على مستوى السياسة العامة، لكن الحال تغيرت بعد انتخابات 2019، حينما فازت معارضة موحدة ببلديات ثلاث أهم مدن تركية؛ هي إسطنبول، وأنقرة، وإزمير، منهيةً سيطرة الحزب الحاكم على المدن التي استمرت نحو 25 عامًا.
ولكون من فاز بإسطنبول فاز بتركيا، ومن خسر إسطنبول خسر تركيا، المعادلة الوحيدة في كل الانتخابات المحلية التي شهدتها تركيا خلال العقود الماضية، يقاتل الآن حزب العدالة والتنمية الحاكم برئاسة أردوغان لاستعادة إرثه في إسطنبول؛ لذا رشح لهذا الهدف مراد كوروم، القادم من وزارة البيئة والتحضر العمراني. وفي المقابل، يسعى حزب الشعب الجمهوري، وهو أكبر أحزاب المعارضة، إلى تبديد آثار الخسارة التي تكبدها قبل أشهر في الانتخابات الرئاسية، ويعمل على كسب جولة انتصار ثانية، ليحظى بكرسي رئاسة البلدية، باسم أكرم إمام أوغلو، لكن ما بين هذين الاسمين كانت أحزاب عدة قد رشحت شخصيات لخوض المنافسة على كرسي عمدة إسطنبول.
لكن استطلاعات الرأي تشير إلى سباق متقارب في إسطنبول بين إمام أوغلو وكوروم، اللذين وعدا بمشروعات البنية التحتية لجعل المباني مقاومة للزلازل، وتخفيف الازدحام المروري المزمن في إسطنبول، في حين يرجح على نطاق عريض أن تحافظ المعارضة على سيطرتها على أنقرة، حيث لا يزال رئيس البلدية الحالي منصور يافاش، الذي اختير أيضًا مرشحًا رئاسيًّا مستقبليًّا، يحظى بشعبية كبيرة.
تكمن استثنائية السباق الحالي في عدد من المتغيرات التي يمكنها تغيير مسار اللعبة الانتخابية في تركيا، يتمثل أبرزها في:
ترتبط سيناريوهات هذه الانتخابات بأهم محدد فيها، وهو ما يرتبط بفكرة غياب التحالفات مقابل إعلانات المنافسة الفردية؛ بغية اختبار كل حزب لمعدل شعبيته الحقيقية؛ ما دفع حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية إلى دخول الانتخابات بمرشحيهما الخاصين لإثبات مدى سيطرتهما على المشهد السياسي، في حين تمثل هدف الأحزاب الصغيرة في تركيا- في المقابل- في الكشف عن نسبة التأييد لها؛ لأنها لم تفعل ذلك منذ تأسيسها، وهو ما حفز دخولها في المنافسة منفردة.
ولعل ما رسخ فكرة المنافسة الفردية لدى أحزاب المعارضة أيضًا، المواقف الغامضة التي اتخذها حزب الشعب الجمهوري خلال الفترة الأخيرة، والتي دفعت أحزابًا كانت متحالفة معه إلى الابتعاد عنه، وخوض الانتخابات منفردة، ومع ذلك يبدو أن الانتخابات هذه المرة ليست هدف الأحزاب الصغيرة؛ بل إنها تتطلع إلى انتخابات 2028، وترى أنها كلما تمكنت من إظهار حجمها التمثيلي، تحولت إلى رقم صعب في المعادلة الانتخابية بعد أربع سنوات، فأحزاب المعارضة لم تعد تقبل التجانس في الانتخابات المحلية الحالية؛ لأسباب ترتبط بشدة بالهزيمة في انتخابات الرئاسة والبرلمان.
محصلة القول أن أصوات ملايين الناخبين في تركيا لرؤساء البلديات والإداريين في الانتخابات المحلية ستقيس شعبية الرئيس رجب طيب أردوغان، في الوقت الذي يحاول فيه حزبه الحاكم استعادة المدن الرئيسة التي خسرها قبل خمس سنوات. وعلى الجانب الآخر، فإن احتفاظ حزب الشعب الجمهوري ببلديات المدن الرئيسة من شأنه أن يساعد على تنشيط المعارضة التركية، التي أصبحت ممزقة ومحبطة بعد الهزيمة في الانتخابات الرئاسية التي جرت العام الماضي، بيد أن انتصار حزب أردوغان قد يدفع الزعيم التركي إلى متابعة تغييرات دستورية قد تسمح له بالحكم بعد انتهاء فترة ولايته الحالية؛ ومن ثم فلن تقتصر نتائج الانتخابات الحالية على معرفة رؤساء بلديات تركيا القادمين، ومن ستكون له السيطرة على مفاصل الدولة التركية؛ بل ستكشف لنا عن موعد نهاية الحقبة الأردوغانية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.