“سيسعد الأصدقاء، ويحبط الأعداء”، بهذه العبارة لخّص المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي، الانتخابات المثيرة للجدل التي أجرتها إيران مطلع مارس (آذار) الحالي، والتي شهدت أدنى نسبة مشاركة منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 1979، حيث بلغت نسبة المشاركين في انتخابات مجلس الشورى الإسلامي، ومجلس خبراء القيادة (المعني باختيار المرشد وعزله، والإشراف على عمله) 41 % حسب المصادر الرسمية، وأقل من 30 % وفق مصادر مستقلة، مع نسبة أصوات باطلة (بطاقات بيضاء) تراوحت من 5 إلى 8 %، فيما بقيت العاصمة طهران استثناء معتادًا بنسبة مشاركة 24 %. ونتيجة لهذه الانتخابات التي صوّت خلالها قرابة 25 مليونًا من أصل 61 مليونًا يحق لهم المشاركة فيها، انتُخِبَ أعضاء مجلس الخبراء البالغ عددهم 88 عضوًا، وحُسم 245 مقعدًا من أصل 290 في مجلس الشورى، مع إحالة حسم الـ45 مقعدًا الباقية إلى جولة ثانية مقرر إجراؤها نهاية أبريل (نيسان) المقبل.
ومع هذه النسبة المتدنية، وُجِّهت إلى هذه الانتخابات اتهامات داخلية وخارجية، وموضوعية أيضًا، بأنها صورية، وتم هندستها. فلأول مرة يمتنع الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي عن التصويت قائلًا: “إيران صارت بعيدة عن إجراء انتخابات حرة تنافسية”. وفي إشارة إلى صورية الانتخابات، قال الرئيس السابق حسن روحاني: “إذا شعر الناس بأن مشاركتهم في الانتخابات سيكون لها تأثير في حياتهم، فسيفعلون ذلك، لكنهم لن يشاركوا إذا شعروا أن مشاركتهم من عدمها سيّان”. مع ذلك، دعا الناس إلى المشاركة في الانتخابات وعدم مقاطعتها، إذ جاء في بيانه الصادر بعد استبعاده: “مع هذه الأدلة الواضحة، لا شك أن الأقلية الحاكمة تريد رسميًّا وعلنًا التقليل من مشاركة الشعب في الانتخابات، تريد إبعاد الانتخابات والصندوق عن تحديد مصير الشعب حتى تتمكن من تحديد مصيره بقراراتها”. ولعله محق في ذلك، رغم حث المرشد الإيراني على المشاركة في الانتخابات، التي اعتبرها سابقًا “واجبًا دينيًّا”. فيما ربط ممثله في محافظة خراسان رضوي، وخطيب جمعة مشهد “آية الله” أحمد علم الهدى مؤخرًا “مصير الإسلام كله بالمشاركة في الانتخابات، وليس مصير الثورة الإسلامية على نحو ما ردد البعض، أو مصير النظام”. وبعد العملية الانتخابية، وصف الممتنعين عن التصويت بأنهم “أغلبية عاصية ومتمردة”. ووفقًا لعلم الهدى، “في الإسلام الأغلبية غير مقبولة بذاتها. والمقصود من الأغلبية، الأغلبية المتدينة وليس الأغلبية العاصية والمتمردة؛ لذلك لا مكانة للأكثرية المقاطعة التي لم تلبِّ دعوة المرشد خامنئي بشأن الانتخابات أمام الأقلية التي لبت نداءه”.
أمام هذا التناقض بالدعوة والحث على المشاركة في الانتخابات مع عدم إقامة الاعتبار للأكثرية، لا بد من الوقوف على مكانة الاختيار، ورأي الأمة في الفكر السياسي الشيعي الاثني عشري. وهنا يمكن الإشارة إلى دعوة “آية الله” محمد تقي مصباح يزدي إلى إلغاء المؤسسات المنتخبة للجمهورية، ونقل المهام البرلمانية والرئاسية إلى المرشد الأعلى. ووفقًا ليزدي، فإن “اللجوء إلى الديمقراطية والقبول برأي الأكثرية، هو لرفع الاختلافات في حدود ضيقة، لكنها لا تمتلك دائمًا شرعية ترجيح كل أكثرية على كل أقلية”. ولا غرابة في ذلك، فيزدي تلميذ الشيخ والفيلسوف محمد حسين الطباطبائي، الذي انتقد الديمقراطية الغربية، ورأيَ الأغلبية في عدة مواضع من مصنفاته الفلسفية. كذلك فإن “النصب والتعيين” من خلال “النص أو الوصية” أصل الولاية لدى الشيعة الاثني عشرية، بخلاف المذهب السُّنّي، أو حتى الشيعة الزيدية التي أخذت بالاختيار والشورى، وهو ما ذهب إليه “آية الله” روح الله الخميني بداية مسيرته، ومنها إلى الدولة الدستورية (المشروطة) لينتقل بعدها “إلى الحكومة الإسلامية، التي كرّس فيها مبدأ ولاية الفقيه، ومنها إلى “ولاية الفقيه المطلقة“. وخلالهما، ميّز الخميني حكومته الإسلامية عن سواها من الحكومات، فهي مشروطة وليست مستبدة، لكنها مشروطة لناحية الحكام المُقيَّدين بالتنفيذ والإدارة بشروط القرآن والسُّنَّة، وليس لناحية وَضْع القوانين بناء على رأي الأكثرية. وعلى ذلك سار الخميني والولائيون (المؤمنون بولاية الفقيه)، من خلال رؤيتهم بعدم أحقية الشعب في الاختيار، أو مركزة العمل السياسي بيد الأمة، التي رأوها والعامة قاصرين، أو عديمي الفعالية في هذا الحيز. وينعكس ذلك على الانتخابات، التي يتم هندستها لتغدو أقرب للطقوس والتشريفات التي ترفع الضغط الذي قد يمارس على إيران دوليًّا، مميزين بين الحكومة الشرعية والحكومة المقبولة المستندة لنظرية “مقبولية المؤمنين“، حيث يفرّق يزدي بينهما، فالحكومة الشرعية قد لا تحظى بقبول شعبي. في المقابل، قد تكون الحكومة المقبولة غير شرعية. وعلى ذلك، طالب يزدي بما ذكر أعلاه، ففي رأيه، شرعية الحكومة والبرلمان والمؤسسات نابعة من “ولاية الفقيه”، الذي يستمد شرعيته من الله لا من الشعب. وإلى ذلك أشار الشيخ حيدر حب الله بالقول: “شرعية المرشد تأتي من الله، ومن المعصوم، لا من الصناديق؛ ومن ثم فتصرفاته أيضًا في الأمور كافة، لا تخضع لرأي العامة، ولا ينبغي لها”.
عليه، وعلى الانتخابات الإيرانية الأخيرة، يذهب معهد ستيمسون إلى أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، على مدى 45 عامًا، ربطت شرعيتها بالإقبال على الانتخابات، لكن كبار صناع القرار في النظام قرروا مؤخرًا أن الإقبال المنخفض فقط هو الذي سيضمن النتيجة المرجوة، مرجحًا عملية تدقيق صارم في المرشحين من جانب “مجلس صيانة الدستور”، المحكوم من المتشددين، ضمن ما يسميه المعتدلون “عملية التطهير”، التي بدأت عام 2021، عندما انتُخِبَ الرئيس الحالي، إبراهيم رئيسي، دون منافسة حقيقية، وهو ما أشار إليه بيان الرئيس السابق حسن روحاني، إذ يبدو أن القناعة بتآكل شرعية النظام قد وصلت إلى القائمين عليه، سواء ما يتعلق منها بالرفض العام للنظام السياسي القائم على الأيديولوجيا الدينية، أو بإسدال الستار على مسرحية الإصلاحيين والأصوليين بدءًا من الحركة الخضراء عام 2009، ختامًا بانتفاضة “الحياة المرأة الحرية” عام 2022؛ وعليه، لجأ الفصيل الأصولي، المدعوم من المرشد، إلى الإمساك بمفاصل السلطات الإيرانية الثلاث، وسواها من مؤسسات ومجالس تشترك في صنع القرار الإيراني، مع إبعاد الشخصيات المؤثرة، التي لا تنتمي بعمق إلى هذا التيار عن الساحة السياسية في إيران؛ لشد وثاق القيادة الإيرانية في ظل الاضطرابات الداخلية والخارجية التي تعانيها الجمهورية، مع خلق بيئة سياسية أكثر تواؤمًا في مرحلة التحضير أو الانتقال إلى المرشد الثالث للجمهورية الإسلامية، التي يبدو أن أيامها قد أزفت.
مع انتخاب مجلس خبراء القيادة لمدة 8 سنوات تنتهي عام 2032، وبلوغ المرشد الأعلى للثورة الإيراني 85 عامًا صيف هذا العام، يرجح تصدي هذا المجلس لمسألة نيابة المرشد، أو تعيين بديل له في حال وفاته، أو استقالته، أو عجزه عن أداء مهامه الدستورية، وهو الموضوع الذي أتعب كثيرًا من مراكز الدراسات المستقلة، أو المرتبطة بمراكز صنع القرار، بحثًا عن الخليفة المحتمل لخامنئي، مع التطرق إلى السيناريوهات المحتملة لجمهورية إيران الإسلامية من بعده. وبحسب دراسة للمجلس الأطلنطي، تحديد خليفة خامنئي محاولة تخمينية ستتأثر يقينًا بمدة بقائه حيًّا، وبالظروف المحلية والإقليمية المرافقة لوفاته، مشيرةً إلى أن أي خليفة محتمل، سيكون له- في أحسن الأحوال- مكانة علمية واعتبارية وسياسية معتبرة، موردةً أسماء المرشحين المحتملين، وروافعهم لهذا المنصب، أو ما يحول بينهما، وهم: الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي، والرئيس السابق حسن روحاني، وحفيد المرشد الأولى ومؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، حسن خميني، ورئيس مجمع تشخيص النظام، صادق لاريجاني، ونجل المرشد الحالي، مجتبى خامنئي، وأخيرًا وزير الاستخبارات الأسبق، محمد ريشهري، معتبرةً الأخير مرشح تسوية بين الإصلاحيين والأصوليين، فيما أشارت إلى حسن الخميني بوصفه وجهًا جذابًا، وأرومة معروفة لتهدئة الجمهور واستعادة بعض الشرعية. فيما نوّهت الدراسة بمولد لاريجاني في العراق، وبالسخط الشعبي تجاه عائلة لاريجاني ككل، وبأنها أثرت من الفساد، كعوائق أمام توليه المنصب. كما أشارت إلى تاريخ رئيسي في “لجنة الموت”، كعائق يعترض اعتلاءه مقعد المرشد الثالث لإيران.
باستثناء ريشهري، تكررت الأسماء المذكورة في أكثر الأوراق التي ناقشت مسألة خلافة خامنئي، مع ترجيحها لانحصار المنافسة الفعلية بين رئيسي ومجتبى خامنئي. ومع موضوعية هذا الطرح، لا سيما بالنظر إلى نتائج انتخابات البرلمان والرئاسة عامي 2020 و2021، وانتخابات البرلمان ومجلس الخبراء مؤخرًا، وما أفرزته من نتائج ستجعل أي منافسة لخلافة خامنئي محصورة ضمن شخصيات التيار الأصولي، الذي ينتمي إليه المذكورون، أو بين التيار الأصولي، الذي يقال إنه يدفع إلى اختيار مجتبى، وبين الدولة العميقة التي تدفع إلى اختيار رئيسي، في تكرار لسيناريو خلافة خامنئي للخميني عام 1989. مع ذلك، هناك كثير من المؤشرات التي تعلي من أسهم رئيسي، مع أخرى تخفّض من أسهم مجتبى، ومنها قادم من المرشد الأعلى، والد مجتبى. فبحسب مركز صوفان، إلى جوار استبعاد ترشيح روحاني لعضوية مجلس الخبراء؛ لكونه منافسًا محتملًا لخلافة خامنئي، أقنع خامنئي كثيرًا من أعضاء المجلس الأكبر سنًا بعدم الترشح، ومنهم رئيس المجلس أحمد جنتي (97 عامًا)، في محاولة لزيادة فرص رئيسي في رئاسة المجلس، وهو ما قد يمّكن رئيسي من توجيه اختياره خلفًا للمرشد الأعلى.
يشير مركز صوفان- استنادًا إلى بعض المصادر الإيرانية- إلى أن خامنئي يرى في ابنه الشخصية الوحيدة المؤكدة للمضي قدمًا في إرثه، ومواصلة جميع سياساته، لكن كثيرًا من كبار شخصيات النظام يعارضون مفهوم القيادة الوراثية، بالإضافة إلى أن مؤهلات مجتبى الدينية ليست استثنائية. وبالرغم من عدم وجود تفوق ملحوظ لرئيسي في هذا الجانب، فإن الأخير يتمتع، بصفته رئيسًا، بالخبرة السياسية التي ينص عليها الدستور الإيراني شرطًا للمرشد الأعلى، وهو ما يفتقده مجتبى، وهو ما أشارت له أيضًا دراسة “خلافة مستبعدة.. عقبات تولي مجتبى خامنئي منصب المرشد الأعلى في إيران”، الصادرة عن إنترريجونال للتحليلات الإستراتيجية. وإلى جوارها، تشير دراسة المجلس الأطلنطي إلى خيار مجتبى بوصفه خيارًا خلافيًّا في إيران، فالنظام الإيراني يفتخر بأنه قلب الحكم الملكي القائم منذ آلاف السنين في إيران. ومع إشارة معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى إلى هذا الفخر، وإلى افتقار مجتبى للخبرة السياسية، ينوه المعهد بافتقاده الشعبية الواسعة أيضًا، وبإثارته الجدل إلى درجة قد تؤدي إلى انفتاح صراع على السلطة في حال تعيينه خلفًا لأبيه. وأهم من ذلك- حسب المعهد- الأضرار التي قد تلحق بشرعية “مكتب المرشد الأعلى”، التي لا يمكن إصلاحها في حال تسمية المرشد لنجله خلفًا له، ما قد يقوض- من ثم- المؤسسة المركزية للنظام، ويعرّض وجود النظام السياسي بكامله للخطر. وقد تكون هذه المخاوف وراء ما أشيع عن معارضة خامنئي “تقييم أهلية أحد أبنائه لتولي منصب المرشد لتجنب شبهة توريث المنصب”.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.