أثارت الخطوة التي أقدمت عليها موسكو مساء 3 يوليو (تموز) 2025، والتي جاءت على يد نائب وزير خارجيتها أندريه رودينكو بتسلمه أوراق اعتماد سفير إمارة أفغانستان الإسلامية، غل حسن حسن، موجة من كبيرة من ردود الفعل داخليًّا وخارجيًّا.
فروسيا أصبحت بذلك أول دولة في العالم تعترف رسميًّا بالحكومة الأفغانية القائمة، بحكم القانون، وليس بحكم الواقع فقط، الذي تعترف به كل دول العالم منذ هروب الأمريكان المخزي من أفغانستان نهاية عام 2021، ويرفع في المساء نفسه علم الإمارة الإسلامية فوق مبنى السفارة الأفغانية في قلب موسكو إعلانًا لهذا الحدث أمام العالم وكاميرات المحطات الكبرى.
وقد أتت هذه الخطوة تتويجًا لتقارب متدرج، بدأ منذ لحظة هروب الأمريكان -وقد يكون قبلها بقليل- وشهد تطورًا متسارعًا منذ شهر أبريل (نيسان) من العام الجاري 2025، عندما أزالت المحكمة العليا الروسية اسم طالبان من لائحة المنظمات الإرهابية بعد طول لغط بشأن هذا القرار، لتمهد بذلك قانونيًّا للتطبيع الكامل للعلاقات بين الحكومتين.
وإلغاء تصنيف طالبان منظمة إرهابية لم يكن قرارًا قضائيًّا صرفًا؛ بل جاء -في رأيي- تعبيرًا عن توجه رسمي مدعوم من الكرملين، ووزارة الخارجية، ومجلس الأمن الروسي، الذي يشرف على عمل الأجهزة الأمنية المختلفة.
وأهم اقتباس يمكنني الإشارة إليه تأكيدًا لهذا الكلام هو تصريح المتحدث الرئاسي دميتري بيسكوف تعليقًا على هذا القرار بقوله: “الاعتراف يستند إلى فهم واقعي للتحولات في أفغانستان”.
والسؤال الطبيعي الذي يطرح: لماذا الآن؟ وما الدوافع؟
نحن لسنا سذجًا، ونفهم جيدًا -لا سيما الباحثون في مجال العلاقات الدولية أو العلوم السياسية، وخاصةً الذين يعيشون في روسيا- أن الكرملين في عهد بوتين ليس هو الكرملين في العهد السوفيتي، فالبراغماتية واعتبارات المصالح الوطنية -وليست الشخصية- بكل أنواعها هي التي تحكم الفعل الرسمي الروسي وتوجهه.
ومن واقع متابعتي لهذا الملف منذ بداية التقارب المعلن -بل قبل أن يُعلن- بين الكرملين وكابول طالبان، أرى أن الاعتبارات الأمنية هي صاحبة الأولوية في دفع بوتين إلى تبني هذا القرار، خاصةً بعدما حدث في سوريا، وخسارة روسيا تقريبًا موطئ قدمها الثابت في هذه المنطقة. فروسيا تخشى بجدية -وليست خشية متوهمة- تصاعد تهديدات داعش خراسان، التي تراها أداة في يد قوى لا تمل من محاولة زعزعة الاستقرار في المحيط المجاور لروسيا، وفي مجال نفوذها القريب. وحسب تقديرات جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، فإن التهديد الرئيس لروسيا في منطقة آسيا الوسطى يتمثل تحديدًا في تنظيم داعش خرسان، وليس طالبان.
كما تخشى كذلك من تهريب المخدرات بكميات ضخمة إلى روسيا عبر آسيا الوسطى. وتعد طالبان -رغم تحفظات أيديولوجية سابقة، ولا تزال موجودة- قوة أمر واقع، والأهم، وبعد استتباب الأمر لها مجددًا ولسنوات، قوة قادرة على فرض الاستقرار النسبي على الحدود الجنوبية لما يمكن تسميته -حسب تصور الكرملين طبعًا- “الفضاء الروسي”.
فضلًا عن ذلك، وفي ظل المواجهة الغربية- الروسية المشتعلة، التي يُستبعد أن تهدأ نارها في المستقبل القريب، لا سيما بعد تصاعد الحرب في أوكرانيا، تسعى موسكو إلى توسيع نفوذها في الفضاء الآسيوي- الإسلامي، ومد جسور وبناء شراكات، خاصةً مع الحكومات غير الخاضعة للتأثير والإملاء الأمريكي الكامل والمباشر.
أضف إلى ذلك أيضًا الآفاق الاقتصادية التي تحتاج إليها روسيا في ضوء التضييق الغربي، وسيل العقوبات الذي لا يتوقف ضدها، فالشركات الروسية تبحث عن فرص استثمارية في قطاع التعدين والموارد الطبيعية في أفغانستان، خاصةً ونحن نعلم من التقارير الاقتصادية أن أراضيها غنية بمعدني الليثيوم والنحاس.
كما تسعى موسكو إلى دمج كابول في مشروعات للنقل والطاقة الإقليمية، خاصةً ممر شمال- جنوب، وقد حضرت جلسة خاصة، كانت مخصصة لهذا الموضوع في منتدى قازان الاقتصادي الذي يعقد سنويًّا تحت شعار “روسيا والعالم الإسلامي”، وكانت أهم جلسات المنتدى من حيث الممثلون الحكوميون والنقاش، وكانت أفغانستان حاضرة بقوة بوصفها مرشحة للانضمام إلى المشروع.
ولا تفوتني هنا الإشارة إلى نقطة أراها مهمة، من واقع فهمي للسياسة الروسية الحالية، تستخدم الدين أداةً سياسية ناعمة؛ فروسيا تملك أقلية مسلمة كبيرة العدد، وتحاول تقديم نفسها بوصفها قوة منفتحة على العالم الإسلامي دون صدام عقَدي، وهو ما يجعل الاعتراف بطالبان أداة رمزية لخلق توازن داخلي ديني دون الاصطدام بالغرب ثقافيًّا.
إذن، يمكنني القول -من واقع فهمي للدوافع الروسية- إن الاعتراف بحكومة طالبان تنظر إليه موسكو على أنه أداة تأثير وليس تحالفًا أيديولوجيًّا. كما أنه فرصة لكسر احتكار الشرعية الدولية، فالغرب فشل في فرض نموذج “ديمقراطي” أو تنموي في أفغانستان؛ ومن ثم فإن موسكو تملك الحق السيادي في الاعتراف بمن تراه حكومة أمر واقع دون المرور حتى عبر مؤسسات الشرعية الدولية، التي لم يعد هناك اكتراث كبير بها في فعل القوى الكبرى.
وما أقصده من كل ما سبق هو أن روسيا لا تشارك طالبان رؤيتها العقَدَية، ولا السياسية، لكنها تتعامل معها بمنطق “الواقعية السياسية”، فطالبان هي السلطة الفعلية الوحيدة في كابول، وأثبتت قدرتها، وبسطت سيطرتها، وهي القوة القادرة على تمثيل الدولة الأفغانية في المحافل الدولية، وكذلك القادرة على ضبط التوازنات المحلية.
وقد صبرت حتى مر يوم كامل لكي أتمعن في صدى الاعتراف الروسي بطالبان، ورفع علم الإمارة في قلب عاصمة الدولة الروسية.
وسأبدأ بالطبع بما رصدته من رد فعل دول آسيا الوسطى، ودول الجوار الأفغاني، وفي المقدمة بالطبع أوزبكستان وتركمانستان. الدولتان أبدتا اهتمامًا حذرًا بشأن نتائج القرار الروسي، خاصةً أنهما تنسقان أمنيًّا مع طالبان، لكنهما -لاعتباراتهما السياسية الداخلية الخاصة- لم يصلا إلى مرحلة الاعتراف الرسمي بطالبان، بسبب أنهما تقدمان لحكومة طالبان مطالب محددة مقابل الاعتراف، ولم تصلا معها إلى اتفاق حتى اللحظة حسبما أفهم، لكن ليس لدي معلومة استند إليها بشأن هل تشاورت معهما أو أبلغتهما روسيا بهذه الخطوة مسبقًا أم لا.
الصين لم تعترف رسميًّا بعد، لكنها -بحسب التقارير الروسية التي اطلعت عليها- عمقت تعاونها الاقتصادي والأمني بقوة مع طالبان؛ ولذلك فمن المتوقع أن تستخدم الاعتراف الروسي غطاء دبلوماسيًّا لها لاحقًا عندما تقرر تبني الخطوة نفسها.
إيران ما زالت ترفض الاعتراف الكامل بطالبان وحكومتها، خاصةً في ظل التوترات المذهبية والحدودية، لكنها -حسب ما تابعت- لم تنتقد روسيا، على الأقل علنًا حتى الآن على هذه الخطوة.
أما الموقف الغربي، وردود فعل دول هذا المعسكر، فجاءت كما كان متوقعًا، فالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وراءها أعربا عن “قلق عميق” من الخطوة الروسية، التي أُعلنت، بل كان علم طالبان يُرفع على مبنى السفارة، الذي لا يبعد كثيرًا عن الكرملين، في اللحظة نفسها تقريبًا التي كان يتحدث فيها بوتين هاتفيًا إلى ترمب.
دول المعسكر الغربي أكدت أن أي اعتراف بطالبان يجب أن يُربط بإصلاحات في مجال حقوق الانسان وحقوق المرأة، وهو كلام جميل، وكلام حق، لكن كيف نتأكد من النية؟!
في الوقت نفسه، لمست غضبًا من دبلوماسيين غربيين يرون أن الاعتراف الروسي يمنح طالبان شرعية بلا مقابل، وقد يُعقد المفاوضات الإنسانية، وهم أيضًا قد يكونون محقين في ذلك.
لكن النظام الدولي -في رأيي- في جوهره -وهذا ما أثبتته وتثبته وقائع السنين، والأيام التي نعيشها الآن- هو نظام الواقعية السياسية. والاعتراف الروسي يعيد إحياء المبدأ المعروف في القانون الدولي بمبدأ “واقعية الاعتراف”، وهو المبدأ الذي لا يشترط وجود حكومة مثالية ديمقراطيًّا للاعتراف بها، بل يكفي أن تكون “سلطة فعالة” تمارس الحكم، وتسيطر على البلاد، وهو ما تفعله طالبان منذ أربع سنوات تقريبًا.
كما أنني أعتقد أن هذا القرار الروسي يمثل اختبارًا جديدًا لتوازن القوى في العالم “المتعدد الأقطاب” الذي يرفع رايته بوتين منذ سنوات، ويمنح روسيا نفوذًا -ولو معنويًّا- في ملف دولي كانت واشنطن تهيمن عليه على مدى عقدين كاملين من الزمن.
لكل ما سبق فإن تقدير الموقف إزاء هذا القرار الروسي يخبرنا بما يلي:
– الاعتراف الروسي بحكومة طالبان هو خطوة إستراتيجية محسوبة، توظف فيها موسكو سياسة “الاعتراف المشروط بالوقائع” لخلق تأثير إقليمي، يعزز مصالحها الأمنية والاقتصادية في آسيا بخاصة.
– هذا الاعتراف لا يعكس بالتأكيد -من وجهة نظري- تحالفًا أيديولوجيًّا، ولا سياسيًّا، وإنما هو استثمار واقعي في سلطة حاكمة مستقرة نسبيًّا، في وقت تتراجع فيه القوة الأمريكية والنفوذ الأمريكي في المنطقة.
– ستبقى روسيا مفتوحة العينين وحذرة في تعاملها مع طالبان، لكنها تمهد لدور أكبر لها في إعادة تشكيل النظام الإقليمي المحيط بأفغانستان، بالتوازي مع تطورات النزاع في أوكرانيا، وإعادة تعريف الأولويات الجيوسياسية.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير