يواجه الاتحاد الأوروبي تحولًا اقتصاديًّا بسبب أجندة بكين القومية المتزايدة التي جعلت الاقتصاد الصيني أكثر تهديدًا للأمن الأوروبي مع ضرب القدرة التنافسية للقارة، حيث تهدد الهيمنة الصينية في قطاعي الألواح الشمسية والمركبات الكهربائية أكبر الشركات الأوروبية. وفي استجابة لذلك، استعادت السياسة الصناعية أهميتها، وسُنَّ قانون الرقائق الأوروبي، كما فُرضت ضرائب على السيارات الكهربائية الصينية. ومع أن هذه السياسات لها ما يبررها، فإنه لن يكون من الحكمة الاقتصادية أو الدبلوماسية أن يحاول الاتحاد الأوروبي حماية كل المنتجات، أو تصنيع كل سلاسل التوريد محليًّا.
وتواجه الشركات المصنعة التي تتخذ من الاتحاد الأوروبي مقرًا لها في الصين تحديين؛ فمع صعود الصين في سلسلة القيمة، ترتفع الأجور؛ مما يدفع إلى تحولات طبيعية في سلسلة التوريد إلى بلدان قريبة ذات أجور أقل. وتزيد التطورات السياسية من تعقيد هذا الاتجاه. فعلى الصعيد المحلي، أدى تأكيد شي جين بينج الأمن السياسي إلى خلق مزيد من عدم اليقين، وتقليص الديناميكية الاقتصادية. وعلى الصعيد الدولي، تشعر الدول الغربية بقلق متزايد إزاء الأخطار الجيوسياسية المترتبة على الاعتماد على الإنتاج الصيني.
لقد انخفض الاستثمار الأجنبي في الصين انخفاضًا حادًّا. وفي حين أن التنويع بعيدًا عن الصين جارٍ، فلن يحدث ذلك بين عشية وضحاها. تضمن قوة التصنيع في الصين وقربها من جنوب شرق آسيا استمرار مشاركتها في سلاسل التوريد، حتى لو غادر التجميع النهائي البلاد. تعمل هذه الاتجاهات الجيو- اقتصادية بالفعل على إعادة تشكيل أجزاء من آسيا، حيث تستفيد دول رابطة دول جنوب شرق آسيا وجنوب آسيا مما يسمى بإستراتيجية “الصين + 1″، حيث تتحوط الشركات من خلال الحفاظ على العمليات الصينية لسوقها المحلية الشاسعة، مع نقل إنتاج التصدير العالمي إلى دول أخرى، مثل الهند وفيتنام وتايلاند.
ومع أن الواردات من الصين قد تتراجع لمصلحة الواردات من جنوب شرق آسيا بمرور الوقت، فإن المحتوى الصيني في سلاسل التوريد يظل قائمًا في الوقت الحالي غالبًا. وبالإضافة إلى ذلك، فإن كثيرًا من الشركات التي تنتقل إلى جنوب شرق آسيا للتصدير إلى العالم هي شركات صينية. ارتفعت التجارة بين الولايات المتحدة وآسيان والصين بين عامي 2012 و2021 ، بنسبة نمو (80%) و(100%) على التوالي. وعلى النقيض من ذلك، نمت تجارة الاتحاد الأوروبي مع آسيان فقط من (210) مليارات دولار إلى (270) مليار دولار؛ مما يعكس الأهمية النسبية المستقرة لأوروبا في المنطقة رغم انحدارها. قد يشير نمو التجارة الصينية والأمريكية إلى تحويل الانتباه عبر جنوب شرق آسيا استجابة لحواجز واشنطن، ولكن بمرور الوقت، يمكن أن يعمل الوجود الصناعي الذي أُنشئ حديثًا في المنطقة كمنصة للتوسع العالمي.
لقد دعم الاتحاد الأوروبي رابطة دول جنوب شرق آسيا منذ فترة طويلة، حيث عمل على نحو وثيق مع المنظمة الإقليمية، وساعد في تمويل أمانتها. ومع ذلك، في القضايا الاقتصادية، كانت أوروبا تكافح باستمرار لتحقيق النجاح، والنزاعات المستمرة بشأن زيت النخيل مع ماليزيا وإندونيسيا أمثلة رئيسة على هذا التحدي. لدى الاتحاد الأوروبي اتفاقيتان للتجارة الحرة فقط مع دول جنوب شرق آسيا. وعلى الرغم من قربه التاريخي من رابطة دول جنوب شرق آسيا، فإنه ليس من بين شركاء التنمية الستة الذين لديهم اتفاقيات تجارة حرة مع رابطة دول جنوب شرق آسيا، ولا يشكل جزءًا من مجموعة الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية، وهذا يعوق أوروبا لمواجهة الصين.
تعمل اليابان على تعميق تكاملها الاقتصادي المثير للإعجاب بالفعل مع المنطقة، حيث وقعت تسع اتفاقيات تجارة حرة مع رابطة دول جنوب شرق آسيا ودول جنوب شرق آسيا. وتتفاوض الصين حاليًا على ترقية اتفاقية التجارة الحرة الحالية مع رابطة دول جنوب شرق آسيا، مع التركيز على التكنولوجيا، في حين تعمل الولايات المتحدة على تطوير إطارها الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ. وفي الوقت نفسه، يكافح الاتحاد الأوروبي لإحراز تقدم بشأن اتفاقية التجارة الحرة مع إندونيسيا.
ونتيجة لهذا، تخاطر أوروبا بفقدان فرصة التحول الاقتصادي المهم، فبوصفها قوة تصنيعية عظمى، كانت ألمانيا تتمتع منذ فترة طويلة بحضور كبير ومربح في الصين، والآن تتشكل سلاسل توريد جديدة بشأن التقنيات الناشئة مع انتقال التصنيع إلى جنوب شرق آسيا، وسوف تُطرد أوروبا إذا لم تضمن استمرار مشاركتها. إن نقل التجميع إلى دول مثل فيتنام غالبًا ما يحافظ على محتوى الصين في سلاسل التوريد مع انتقال الموردين الصينيين أيضًا. ومع ذلك، في الأمد البعيد، تظل الهيمنة الصينية في سلسلة التوريد معرضة للخطر.
في الثمانينيات والتسعينيات، نقلت الشركات التايوانية سلاسل التوريد بكاملها من تايوان إلى الصين، وضمت تدريجيًّا مزيدًا من الموردين الصينيين. ومع تعلم هذه الشركات الصينية من خلال التعرض للشركات التايوانية، فقد صعدت ببطء في سلسلة القيمة. وما حدث للشركات التايوانية قد يحدث مرة أخرى للصين في جنوب شرق آسيا. وهناك بالفعل حضور أوروبي قوي للتكنولوجيا الفائقة في دول رابطة دول جنوب شرق آسيا عندما يتعلق الأمر بأشباه الموصلات المتقدمة. على سبيل المثال، تستضيف سنغافورة وماليزيا تصنيعًا كبيرًا للرقائق، ومعظمها ضمن سلاسل التوريد للشركات الغربية واليابانية والتايوانية والكورية الجنوبية. ويبدو أن مثلث التصنيع الماليزي- السنغافوري- الإندونيسي يتشكل، ولكن مع انتقال الشركات الصينية والتدابير الأمريكية التي قد تتحدى دور سنغافورة بوصفها بوابة للصين للوصول إلى التكنولوجيا الغربية، لا يمكن للاتحاد الأوروبي أن يجد مكانًا له.
إن الدور الصيني الأكبر لا يعني بالضرورة أن دول جنوب شرق آسيا سوف تصبح أكثر خضوعًا سياسيًّا، فقد اكتسبت تايوان القوة الاقتصادية من خلال الصعود في سلسلة التوريد العالمية من خلال الاستعانة بمصادر خارجية للعمل في الصين. ولم ينتج عن تكاملها الاقتصادي الوثيق مع الصين تكامل سياسي تلقائي. ومع ذلك، فقد تطلب ذلك خيارات أخرى، وفرض قيود على الاستثمار الصيني في تايوان. ولقد نمت تايوان بفضل الوصول إلى أسواق خارج الصين. ومن بين الأسباب التي تجعل دول جنوب شرق آسيا ترى الصين أمرًا لا مفر منه حجمها الاقتصادي وقربها، ولكن الافتقار إلى الخيارات البديلة يؤدي إلى تفاقم هذا التصور، فأوروبا وحدها بعيدة جدًّا عن المنافسة المباشرة مع ثقل الصين. ومع ذلك، فإن سوقها المشتركة قوية بما يكفي للمساعدة على توسيع الخيارات، وإظهار فوائد نظام تجاري حر ومفتوح.
إن تباطؤ الاقتصاد الصيني يؤثر في اقتصادات دول جنوب شرق آسيا الناشئة، وتعتمد دول المنطقة -باستثناء كمبوديا- على الصين في صادراتها بدرجة أكبر من المتوسط، ولكن هذا الاعتماد ظل مستقرًا ولم يعد ينمو. وتتلقى دول جنوب شرق آسيا كثيرًا من الأجزاء من الصين التي تجمّعها وتبيعها عالميًّا. وتعاني أغلب دول جنوب شرق آسيا عجزًا تجاريًّا مع الصين. ولا تستفيد دول جنوب شرق آسيا كثيرًا من تحول سلاسل التوريد بسبب القدرة الكبيرة التي تتمتع بها الصين، والحصة الصينية المتزايدة من القيمة المضافة في صادرات رابطة دول جنوب شرق آسيا. وتتمتع المنطقة بفرص كبيرة، وخاصة مع تعثر الصين، وهو ما يمثل فرصًا لأوروبا.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.