نستكمل في هذا المقال تناولنا لرواية “الآباء والبنون” لإيفان تورغينيف، ونستعرض ردود الفعل والرؤى النقدية الصاخبة التي تزامنت معها.
كتبَ “إيه. بي. ماكميلان”، في تقديمه لإحدى الترجمات الإنجليزية، أن الرواية لا تزال تحتفظ بجاذبيتها حتى بعد أن باتت كلمة “العدمية” مجرد كلمة في تاريخ الفكر السياسي، ففي رأيه أن “الآباء والبنون” ليست مستلهمة من واقع أحداثها الراهنة فحسب؛ ولكنها تعالج الصراع الأزلي بين اختلاف الأجيال، الراديكالية والمحافظَة، والتنظير والخبرة.
يرى ماكميلان أن الرواية -على ما أثارته من لغط بين اليمين واليسار في المجتمع الروسي، رغم محاولات تورغينيف وضع لمسات نهائية تجعلها مقبولة من جميع الأطياف، إذ تَوَقَّعَ ما قد تشعله من جدل- فإنها تتميز بنجاح تورغينيف في تقديم نموذج روسي يسعى إلى الفعل والتغيير، وليس مجرد رجل زائد على الحاجة.
تعرضَت الرواية لانتقاد التيار المحافظ على تمجيد شخصية بازاروف التي تحطم الأعراف والتقاليد، وعلى رسم الجيل الأرستقراطي القديم رسمًا كاريكاتيريًّا. ومن جهة أخرى، اعتبر أنصار التيار اليساري أن تورغينيف قد خانهم، واستهزأ بهم، وافترى عليهم.
يلفتُ ماكميلان النظر إلى إشارات تورغينيف في مراسلاته إلى أن بازاروف هو أكثر شخصية بين شخصياته إثارة للتعاطف؛ لأنه يشاركه رؤاه العدمية، ما عدا تلك المتعلقة بالفن، بل يذهب تورغينيف إلى اعتبار نفسه الملوم في حال لم تبعث شخصية بازاروف على إعجاب القراء. يتحفظ ماكميلان على ذلك، ويتصور أن شخصيتيهما تتناقضان بالتمام، ويتساءل عن السبب في تعاطف تورغينيف الواضح؛ فهل يرجع السبب إلى إخفاق بازاروف في نهاية المطاف وتَقَوُّض حياته وأحلامه، مثله مثل أي رجل زائد على الحاجة؟
يتصور ماكميلان أن مقصد تورغينيف الرئيس في الرواية هو الهجوم على طبقة النبلاء، وهو ما غاب عن كثير من القراء الذين يُظهِرون تعاطفهم نحو آل كيرسانوف أكثر من بازاروف، وفي رأيه أن نيكولاي بتروفيتش يبدو قريب الشبه من تورغينيف، ويورد ما كتبه تورغينيف إلى سالتيكوف شيدرين عن أن شخصية بازاروف كانت تهتدي بالقدر، بشيء أقوى من المؤلف نفسه، وفي رأي ماكميلان أن بازاروف لا يُعد شخصية شريرة، ولكنه كان مدفوعًا اندفاعًا سياسيًّا يثير الإطراء.
أما المقدمة الواردة في ترجمة تشارلز جيمس هوجارث، فتشير إلى ما تتضمنه الرواية من أهمية عالمية تقدم رؤية للإنسانية من خلال تصوير واقع الحياة في روسيا في ذلك الوقت، بتجسيد الصراع القائم بين جيل الشباب الذي تصدر المشهد وأراد إحداث تغييرات جذرية بعد حرب القرم، والنخبة الأرستقراطية الأكبر سنًّا، التي بقيت وفية للمثاليات والمبادئ العليا. والرواية بذلك تشي بأعظم ما لدى تورغينيف من هبات، وهي الموضوعية، رغم تطابقه الشخصي مع جيل الآباء، لكنه يستحق الإشادة لتصوير نموذج جيل الأبناء بتجسيد ثاقب محدد.
تعرضُ المقدمة ما كتبته الروائية البريطانية فرجينيا وولف عن احتفاظ تورغينيف بسجل دَوَّنَ فيه جميع وجهات نظر بازاروف في مختلف الأطر، وهو من وجهة نظرها أكثر شخصية مشهودة ولا تُنسَى بين شخصيات تورغينيف. كما تسلطُ الضوء على رقة مشاعر الأبوة بوصفها جزءًا أساسيًّا من الحياة، بما يتخطى الفجوة بين الأجيال؛ ولذا فالرواية تُثَمِّنُ القيم الإنسانية الخالدة، مثل الروابط العائلية، والصداقة، والحب النقي.
ما تنضح به شخصية بازاروف من قسوة وعقلانية مزعجتين تصل به إلى تناقضات نفسية تزلزل كيانه وكبرياءه عندما تتكون داخله بوادر الحب نحو أودينتسوفا، رغم عدم جدية مشاعرها نحوه. وها هو ممثل جيل الراديكالية يسقط صريعًا، ليس لمجرد الإصابة بالتيفوس؛ ولكنه يخسر المعنى الأكبر في الاستمتاع بمباهج الحياة البريئة، مثل الحب الطاهر، والصداقة الراسخة، وحنو الآباء، مقابل الإخلاص لمبادئه الجامدة.
أما جيل الآباء، سواء في أبويه الطبيعيين: أبيه فاسيلي بتكوينه الريفي البسيط، وأمه أرينا التي تختلط فيها مشاعر الأمومة الجارفة مع نقاء الطبيعة الروسية وقيم المسيحية الأرثوذكسية الممتزجة مع الفولكلور الخرافي، أو نموذج نيكولاي بتروفيتش الذي يتقبل حقيقة قدوم جديد يمتاز عن جيله بحيوية الأفكار التي قد يعارضها ولكنه لا ينفي وجودها، أو نموذج أخيه بافل بتروفيتش الرافض لذلك الفكر، ولا يتفاهم معه، بل يتقدم إلى أبعد مدى في نزاله وتحديه، فإنهم جميعًا -رغم الفوارق الظاهرية- يتقبلون جيل الأبناء بأذرع مفتوحة، مهما حدث من أخطاء، أو فواجع.
وكعادة تورغينيف في أعماله يقدم نماذج نسوية قوية الشخصية، ربما تتفوق على نماذج الرجال، رغم سخريته الواضحة من النماذج المتصنعة، مثل يفدوكسيا كوكشينا، لكن تصويره لشخصية أنَّا أودينتسوفا ينطوي على ما هو أبعد مما يبدو واضحًا؛ فهي مستقلة الفكر والشخصية، وتدير زمام الضيعة بقبضة قوية، ومع أنها أرملة شابة فإنها تطمح إلى حياة جديدة، وحب ينعش أيامها، ولا يغيب عن القارئ أنها تشجع بازاروف على الانجذاب نحوها، والإفصاح بمكنون قلبه، ثم تصده فتضطرب نفسه، في مشابهة لما حدث في شباب العم بافل بتروفيتش، الذي تحطمت حياته بسبب قصة حبه الفاشلة مع الأميرة “ر”، كأن طرفي النزاع يلقيان الهزيمة النكراء نفسها. والأمر نفسه مع شقيقتها كاتيا، رغم اختلاف شخصيتيهما، لكن كاتيا أيضًا تتسم بعقل راجح، وقدرة على الحوار المنطقي. وعلى جانب آخر، تظهر شخصية فينتشكا الخادمة البسيطة الأصل، النقية الروح، التي تترقى لتصبح سيدة الضيعة بزواجها بنيكولاي في نهاية الأحداث كدليل واضح على صعود طبقات جديدة إلى الصدارة.
لم تقتصر اختلافات النقاد الروس على المضمون السياسي في الرواية فحسب، ولكنهم انقسموا إلى فريقين: الأول يرى أن كتابات تورغينيف تحاكي واقع المجتمع الروسي، والثاني يرى أن أعماله تعكس اهتمامات ذات شأن عالمي يتجاوز البيئة المحلية.
في رأي الناقد الروسي دمتري ميرسكي أن الجانب الاجتماعي في روايات تورغينيف تحوَّلَ إلى حشوٍ بالٍ متنامٍ، على عكس الجانب الشعري العاطفي في قصصه القصيرة، الذي يظهر فيها يانعًا نقيًّا، كما يتصور أن النزعة الروسية في القرن التاسع عشر لاستخدام الكتابة الأدبية منبرًا للتعبير عن المقاربة نحو الأحداث الراهنة، ترجع إلى بيلنسكي -أستاذ تورغينيف وصديقه- وهذه النزعة قد عَمَّرَت طويلًا.
أما دميتري بيساريف، صاحب عبارة “إن الكيميائي أنفع من الشاعر”، التي يرددها بازاروف في الرواية، فهو يحسب أن بافل وبازاروف يتكونان من المادة نفسها، ويرى أنه من الصعب على القراء التأكد من محط اهتمام تورغينيف وتعاطفه في الرواية.
على جانب آخر، حاولَ بعض النقاد الراديكاليين، مثل ألكسندر دروغينين، وبافل أنينكوف، الفصل بين الجوانب الفنية والجوانب الاجتماعية والسياسية في أعمال تورغينيف، فقد رفض كلاهما فكرة أن تورغينيف يحمل توجهات أيديولوجية. وبحسب تعبير دروغينين، فإن تورغينيف فنان نقي، لا تشوبه شائبة من التوجهات السياسية.
لا يجادلهم النقاد المحافظون، مثل أبولون جريغورييف، ونيكولاي ستراخوف، في فكرة المحتوى الأيديولوجي لدى تورغينيف، إذ يجد ستراخوف، الذي يعارض ميول تورغينيف الغربية، أن الرواية تعالج قضايا الحياة الإنسانية، مع أنه لا ينكر ما تتضمنه لغة تورغينيف من أصداء أيديولوجية، ولكنها بالأكثر تصوِّرُ انتصار الحياة الحقيقية الواقعية على تلك النظرية الافتراضية، ففي رأيه أن تورغينيف يناصر الأسس الأبدية للحياة التي يبقى جوهرها بلا تغيير رغم تغير قوالبها.
أما فيدور دوستويفسكي فقد كتبَ إلى تورغينيف ليهنئه على تصويره لشخصية بازاروف، ومن تأثره مضى نحو تصوير شخصية أكثر راديكالية، وهي شخصية راسكولنيكوف في روايته “الجريمة والعقاب”.
إزاء ذلك كله، وجد تورغينيف نفسه في موقف دفاعي، ونسبَ هذا التشوش إزاء بازاروف إلى أن موقفه منه كمؤلف كان موضوعيًّا وانتقاديًّا، وذلك مرجع حيرة القارئ حينما يكتشف أن المؤلف يعامل شخصيته على أنها كائن حي، ويرسم جوانبها الإيجابية والسلبية على حد سواء، دون إبداء لتعاطف واضح من جهته.
يُقَيِّمُ تورغينيف هذه التجربة بأنها نزيهة؛ إذ لم يلزمه أن يفتعل، أو ينتحل، ولم تؤدِّ ميوله الشخصية أي دور في رسم بازاروف، وربما يدهش القارئ لمعرفة أن تورغينيف يشارك بازاروف ميوله وأفكاره ما عدا تلك المتعلقة بتسفيه الفن. ورغم ادعاء البعض التزام تورغينيف جانب الآباء، فإنه تَعَمَّدَ المبالغة في تصوير بافل بتروفيتش بصورة كاريكاتيرية تجعله أضحوكة.
في رأيه أن كل ذلك قد تَسَبَّبَ في اندلاع الجدل بسبب حيرة القراء إزاء ذلك، وللخروج من هذه الحالة المرتبكة ينسبون إلى المؤلف مواقف معينة، أو يفرضون عليه تعاطفًا لا وجود له، أو نفورًا بلا أساس من الصحة. ولعل الخطابات الواردة إليه خير دليل؛ فالبعض يهاجمه لإهانة جيل الشباب ووصمه بالتخلف والظلامية، والبعض الآخر يتهمه بالتزلف إلى الراديكاليين الشباب، ووصفه أحدهم بأنه يزحف نحو قدمي بازاروف، ويتظاهر بتشجيعه، ولكنه في الواقع ينتظر منه ابتسامة تافهة كصدقة!
يبقى أمام القارئ المعاصر أن يضع كل تلك الخلفيات الاجتماعية والسياسية في حسبانه، دون أن تطغي واحدة منها على الأخرى. وبعيدًا عن الاستقطاب الذي صاحَبَ نشر الرواية، فربما نجد عند مطالعتها أن جميع تلك العوامل تتجاور معًا لتكوين مشهد ثلاثي الأبعاد، ينطبق عليه وصف تورغينيف: “لا يمكن للفنان الحقيقي أن يعيش بدون الصدق، بدون المعرفة بأوسع معاني الكلمة، في الموقف من نفسه، ومن الأفكار والأنظمة التي تتبناها، بل حتى الموقف من شعبه وتاريخ بلاده. لا يمكن العيش بدون هذا الهواء”.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.