مقالات المركز

إفريقيا في روسيا.. روسيا في إفريقيا (1/ 2)


  • 11 أكتوبر 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: i.47news.ru
في عام 2022، صدر عن المركزالقومي للترجمة كتاب مهم عنوانهإفريقيا في روسيا، روسيا فيإفريقيا.. ثلاثة قرون من التلاقي“، وقدصدر الكتاب في لغته الأصلية عام2007، من تحرير  مكسيمماتوسفيتش، ويتألف من 440 صفحة.

ومحرر الكتاب هو مكسيمماتوسفيتش Maxim Matusevich، وهو أستاذ ومدير برنامج الدراساتالروسية والشرق أوروبية في جامعةسيتون هولSeton HallUniversity بالولايات المتحدةالأمريكية، ويركز في بحوثه وكتاباتهعلى تاريخ العلاقات الثقافية والسياسية بين إفريقيا وروسيا/ الاتحادالسوفيتي.

وقد أسهم في تأليف فصول الكتاب ستة عشر باحثًا ومؤرخًا بارزًا.

وبالإضافة إلى مقدمة المحرر، يحتوي الكتاب على 16 فصلًا، علىالنحو التالي:

المقدمة: إفريقيا في روسيا: إفريقيا وروسيا: علاقة غير منظورة
أصول ألكسندر بوشكين الإفريقية
بصمات إفريقية في روسيا: رؤية تاريخية​​
الحج الأسود إلىمكة حمراء: الأفارقة والأفارقة الأمريكيونفي الجامعة الشيوعية للعمال في الشرق خلال الفترة من 1925إلى 1938
الطرق الروسية الدولية
التاريخ الإفريقي: رؤية من خلف سور الكرملين
الأبحاث السوفيتية والروسية حول إثيوبيا وشرق إفريقيا: نظرةأخرى في سياق أزمة دراسات المناطق
الروس الأفارقة: أطفال الحرب الباردة
جامعة الصداقة بين الشعوببعد التفكك: العنف ومجتمع عمومإفريقيا في موسكو بعد السوفيتية​​​
إلى الطرف الآخر من الأرض: روسيا وجنوب إفريقيا في القرنينالسابع عشر والثامن عشر
الروس في إثيوبيا: تطلعات التقدم​​​
من ليس له أصدقاء لا يستطيع أن يقول وداعًا: كتاب أليكس لاجوماالرحلة السوفيتية” (1978) والتاريخ المرجح لرحلة سريةإلى اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية في سياسة جنوبإفريقيا
الشتات الاشتراكي: علي سلطان عيسى والاتحاد السوفيتيوثورة زنجبار
السياسة السوفيتية في غرب إفريقيا: حقبة من الحرب الباردة، 1956- 1964
المشاركة السوفيتية في كفاح تحرير منطقة جنوب إفريقيا 1960- 1990
ما وراء الحكايات الخيالية: حقيقة مشاركة السوفيت في تحريرجنوب إفريقيا
مشاهد العظمة المتقطعة: الاتحاد السوفيتي بعيون نيجيرية

ثلاثة قرون من التلاقي

يقول المحرر مكسيم ماتوسفيتش، في مقدمته للكتاب، إن وسائل الإعلامالسوفيتية عرضت في روسيا منذ 1988 دور إفريقيا ومكانتها، وعلاقاتهابالوضع السوفيتي المعاصر، إذ إن الصور المتناقضة التي عرضتها كانتتعكس أساسيات التجربة السوفيتية، مثل عزلتها الصارخة، والمناخ الروسيالمقيد على نحو سيئ. في نظر كثير من المواطنين السوفيت، كانت إفريقياتلخص العالم خارج الإطار السوفيتي، حيث تختلف عنه في جميع الجوانبتقريبًا. وفي الوقت نفسه، كان الوجود الإفريقي في روسيا حقيقيًّا، فبدايةمن نسب أعظم شعراء روسيابوشكين“، إلى افتتان الروس في أواخرالقرن التاسع عشر بإخوتهم الأرثوذوكس في إثيوبيا، وبروز النشطاء السودفيالشيوعية الدولية” (الكومنترنوانتشار الحماسة الحقيقية للكفاح منأجل التحرر ومناهضة العنصرية، وتأثير الحرب الباردة السوفيتية علىالقارة، واستمرار وجود مجموعة صغيرة مؤثرة ثقافيا من الشتات الإفريقيفي البلاد، احتلت إفريقيا مكانة فريدة في الثقافة والتاريخ والخيال الشعبيالروسي.

ولم تكن المواجهة بين أفريقيا وروسيا في اتجاه واحد فقط؛ فمن الناحيةالتاريخية، تطورت روسيا في معزل عن الغرب، فلم يكن للإمبراطوريةالروسية مستعمرات وراء البحار. ودعم هذا الوضع الجيوبوليتيكي صورةروسيا بين الأفارقة وكثير من أحفادهم، حيث ظهرت روسيامختلفةعنالقوى الأوروبية الأخرى التيسببت تخلفإفريقيا بالتورط في تجارةالرقيق المخجلة عبر الأطلنطي، وفي المشروع الاستعماري لاحقًا. وهكذايبدو أن روسيا لا تحمل مثل هذا الجرم، ولكن بالمنطق نفسه، أدى غياب أيصلة إمبريالية ملحوظة بسهولة بين روسيا والقارة إلى تعقيد مهمة التفسيرالتاريخي لوجود روسيا في إفريقيا.

ويمكن تتبع الوجود الروسي في إفريقيا لأكثر من ثلاثمئة سنة، عندما شقعدد من المغامرين الروس والمتأثرين بهم طريقهم إلى جنوب إفريقيا، حيثكان بيتر الكبير يحلم بحملة إلىجزيرة مدغشقر العظيمة“، ولكن اجتماعمجموعة ظروف غير مواتية منع القيصر الغريب من تحقيق خطته الطموحة. ففي وقت تكالب أوروبا على إفريقيا في أواخر القرن التاسع عشر، كانالروس يتمتعون بالوجود والرعاية الملكية في بلاط الإمبراطور الإثيوبيالأرثودوكسي منليك الثاني، وقدم المستشارون ومتطوعو الصليب الأحمرالروس مساعدات عسكرية وطبية جوهرية لأديس أبابا خلال حملتها الناجحةضد الإيطاليين عام 1896. وبالمثل، شارك عشرات من المتطوعين الروس فيحرب استعمارية إفريقية أخرى اندلعت بين البوير والبريطانيين في جنوبالقارة، وكان أغلب الرأي العام السوفيتي  يساند المستضعفين، ويعبر عنمشاعر قوية مؤيدة للبوير ألهمت عددًا من الضباط الشباب ذوي الميولالعاطفية للانضمام إلى ما كانوا يعدّونه كفاحًا عادلًا ضد الاستعمار.

وأنتجت الثورة البلشفية عام 1917 مجموعة جديدة من الرؤى والتفسيراتلروسيا (ثم للاتحاد السوفيتي) في القارة، وبين الشتات الإفريقي فيالعالم، حيث دعمت الثورة الإحساس بالانفصال المرتبط بروسيا. وكانتالدولة الاشتراكية الأولى تعدّ تحديًا للنموذج الغربي، ووجد عدد قليل منالقوميين والمثقفين الراديكاليين الأفارقة في هذا التحدي مصدر إلهام، وحجّ عدد منهم إلىمكة الحمراء“؛ بحثًا عن المعرفة والحل الأيديولوجي للعقباتالاجتماعية والاقتصادية للقارة، والمنفيين منها. وحاول هؤلاء الحجاج السودالتوصل إلى العلاقة التاريخية بين الأوضاع الإفريقية والدولة شبه الأوروبيةالمتخلفة المتعددة الأعراق التي تمر بتحول صناعي مذهل خلال فترة زمنيةقصيرة جدًّا؛ مما سيضعها في مصاف الدول المتقدمة. وبسبب الضجر منالعنصرية الأوروبية والأمريكية الشمالية، اعتنق كثير من الراديكاليين السودالخطاب الماركسي للدولية القائمة على الطبقة، إذ تحمل التجربة السوفيتيةالأمل لهم في بديل حيوي للرأسمالية الغربية بجذورها التاريخية الضاربةفي استغلال إفريقيا والأفارقة.

ماذا يضيف هذا الكتاب؟

يتناول الكتاب موضوعًا بالغ الأهمية من عدة نواحٍ، منها أنه يغطي مسألةالعلاقات بين إفريقيا وروسيا على مدى ثلاثة قرون، بكل جوانبها المعقدةوالمتناقضة في بعض الأحيان، والمتغيرة باستمرار لاعتبارات روسية، أوإفريقية، أو ديناميات العلاقات الدولية في هذه الفترة الممتدة. كما نجحالكتاب في الفكاك من الرؤيةالغربيةالتقليدية عن إفريقيا بتقديمأطروحات أسهم بها علماء روس وأفارقة وغربيون في تخصصات متنوعةوبينية على نحو واضح. بالإضافة إلى ذلك، فإن الكتاب يمثل نافذة مهمةوربما مباغتةللقارئ العربي بتقديمه، من خلال ستة عشر فصلًا متنوعًا، تفاصيل دقيقة للعلاقات الإفريقية الروسية التي اتسمت بالفضول المتبادل، والرؤية المثالية، ويركز على أبعاد التضامن الثوري في النصف الأول منالقرن العشرين، وإيلاء أهمية كبيرة لقضايا العرق والهوية الزنجية أوالإفريقية في روسيا، متتبعًا جذورها التاريخية بانسيابية ملحوظة، وتنسيقكبير بين فصول الكتاب؛ لتفادي التكرار أو التناقض في بعض الأحيان، ويقدم في سبيل ذلك نقدًا معمقًا قائمًا على مواد أرشيفية روسية بالأساس، كانت حديثة التوافر في وقت تأليف الكتاب الصادر عام 2007؛ مما يزيدأصالة هذا الكتاب، وإسهامه في تقديم العلاقات بين إفريقيا وروسيا منزوايا جديدة للقارئ العربي.

وينقسم الكتاب إلى جزأين؛ الأول بعنوان إفريقيا في روسيا، ويضم ثمانيةفصول تتنوع في السرد التاريخي من فصل بديع عن ألكسندر بوشكين؛ الأديب الروسي الأبرز، ذي الجذور الإفريقية، وتجربته الشخصية، إلى تناولالوجود الإفريقي في روسيا منذ مطلع القرن العشرين، وسط التحولاتالسياسية والاجتماعية الحادة في روسيا، وتشابكات هذا الوجود معها علىنحو بالغ الدقة، وثراء واضح في المعلومات القائمة على مواد أرشيفية روسيةأصيلة. كما تناول الفصلان الخامس والسادس موضوعًا مهمًّا يتعلق بكتابةالتاريخ الإفريقي والإثيوبي على وجه الخصوص في روسيا، في دراسةمنهجية مفيدة للمتخصصين في الشؤون الإفريقية على نحو خاص، وتقدمقراءة عميقة يمكن الاستفادة منها أكاديميًّا. كما تناول الفصل السادستحديدًا فكرة دراسات المناطق، وأزمتها، ومصاعب تطبيقها، لا سيما فيإثيوبيا ومنطقة شرق إفريقيا. ويختتم الجزء بفصل ثامن وأخير عن تداعياتسقوط الاتحاد السوفيتي على أوضاع الجماعة الإفريقية في موسكو، لاسيما مظاهر العنف والتمييز العنصري، في قراءة موضوعية جدًّا.

أما الجزء الثاني من الكتاب، ويضم أيضًا ثمانية فصول، فقد جاء بعنوانمقابل للجزء الأول؛ وهو: روسيا في إفريقيا، افتتحه المؤرخ الجنوب إفريقيأبولون ديفيدسون Apollon Davidson، والباحثة الروسية إيرينا فيلاتوفاI. Filatova، بفصل فريد عن روسيا وجنوب إفريقيا في القرنين السابععشر والثامن عشر، أعقبه فصل آخر عن الروس في إثيوبيا قدم فيه ريتشاردبانكرست قراءة مكثفة جدًّا عكست خبرته الكبيرة في الدراسات الإثيوبية، وقدمت تفسيرات موحيةللقارئ العربي هناعن طبيعة المجتمع والدولةالإثيوبية. وفي فصل مهم آخر، قدّم المؤرخ الروسي سيرجي مازوفخلاصات خبرته الكبيرة في السياسات السوفيتية في إفريقيا في فصل يركزعلى هذه المقاربة في غرب إفريقيا خلال الحرب الباردة. واختتم المحررمكسيم ماتوسيفيتش الجزء الثاني بفصل موجز عن الاتحاد السوفيتيبعيون نيجيرية.  

التنوع والتباين

ورغم تنوع فصول الكتاب تنوعًا كبيرًا، فإنه يتمتع بقدر واضح من الترابط، والإحالات الدقيقة في الفصول المختلفة للقضايا التي أثيرت في مواضعهاالمختلفة؛ مما أسهم في تقديم رؤية واضحة وغير مرهقة للقارئ، وهوامشثرية إلى حد كبير؛ مما عكس رصانة في التناول، استحق أن يحظى بناءعليه بتقدير لافت وسط دوائر المتخصصين في الدراسات الإفريقية، لا سيمافي الولايات المتحدة الأمريكية. كما يقدم الكتاب للقارئ العربي معرفة كاشفةلمسألة مهمة مع تزايد الاهتمام بشؤون القارة الإفريقية، ويميط اللثام عنشرط من أهم شروط تحقق معرفة أصيلة؛ وهو استقاؤها من مصادرهاالأصلية قدر الإمكان، دون الاكتفاء بما ينقل من خلال وسيط، أو اقتفاء أثررؤى ووجهات نظر انتقائية وذاتية بعيدة عن أطراف هذه المعرفة: روسياوإفريقيا.

وهناك أمل في أن يسهم الكتاب في إعطاء زخم مستحق لمجال الدراساتالإفريقية، وتوجيه بعض بحوثها إلى مسائل متنوعة وردت بين ثناياه، وفتحآفاق جديدة للبحث، وكذلك تقديم مثال منهجي معقد ورصين يمكن من خلالهدفع تخصص الدراسات الإفريقية، لا سيما فروعه الإنسانية، نحو تبنيمقاربات وموضوعات جديدة وكاشفة للعلاقات بين إفريقيا وروسيا، بعيدة عنتصوراتالمركزية الأوروبية“، والتنميطات المنهجية الموروثة.

أدب الأفارقة عن روسيا

وهناك مؤشر آخر على تزايد الاهتمام بالعلاقات الإفريقية الروسيةيتمثل في تكاثر كتابات الروس السود للمذكرات، حيث أجبر انهيار الاتحادالسوفيتي ملايين من المواطنين السوفيت السابقين، ومن بينهم أصحابالأصول الإفريقية، على إعادة التفكير، وإعادة صياغة هوياتهم أحيانًا. ومعتبدد الإطار الدولي المألوف، اضطر السوفيت إلى البحث عن مصادر جديدةلتحديد الذات، وأصبح ظهور القوميين العرقيين عبر أرجاء الاتحاد السوفيتيالسابق استجابة متوقعة على الخسارة الواضحة للتميز الموحد. وفي هذهالحالة، بدأ بعض الروس السود باعتبار أنفسهم جزءًا من مجتمع شتاتعموم إفريقيا، في حين اختار آخرون إعادة تأكيدروسيتهمعلى حسابأي فكرة عن الوحدة العرقية الفوقية.

ويعد الكتاب الذي بين أيدينا تعبيرًا واستجابة للحاجة إلى تقديم نظرةحديثة متعددة الجوانب على نحو ثلاثمئة سنة من المواجهات بين إفريقياوروسيا، حيث يجمع مجموعة دولية متنوعة من الدارسين في جهد منظملتوفير شرعية تاريخية للعلاقات الإفريقية الروسية. وينتمي المؤلفون إلىمجموعة من الخلفيات المتعددة التخصصات، ويستخدمون مجموعة منالمقاربات المنهجية؛ ولذلك فمن المؤكد أن كتاباتهم ستعكس أكثر من منظورسياسي واحد. ولكن بينما تتراوح موضوعاتهم من تحديد أصول بوشكينإلى مأزق مجتمعات الشتات الإفريقية في روسيا بعد السوفيتية، فإن المؤلفينمتحدون في الرغبة في إصلاح الروابط بين إفريقيا وروسيا، وفي تشكيلمجال أكاديمي واسع جديد لمزيد من البحث خلال هذه العملية

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع