أبحاث ودراساتتاريخ

إشكالية الهوية.. تاريخ اليهود في إيران


  • 13 أغسطس 2024

شارك الموضوع
i مصدر الصورة: iranintl.com

مدخل

إن النظام الذي يُصنف إسرائيل أنها الشيطان الأصغر، هو نفسه النظام الذي يحتضن أكبر أقلية يهودية في الشرق الأوسط؛ إذ تعترف إيران بالأقلية اليهودية كواحدة من ضمن ثلاث أقليات دينية، بجانب المسيحية والزرادشتية، وتزعم طهران أن يهودها يتمتعون بجميع الحقوق السياسية والمدنية، وبحرية ممارسة شعائرهم الدينية، من خلال ما يقرب من 76 كنيسًا يهوديًّا، منها 31 في طهران، و13 في شيراز، غير أن تاريخ اليهود الطويل في إيران يكشف ما عاناه أبناء الأقلية اليهودية مع الجمهورية الإسلامية.

يعكس هذا أهم مفارقة في الجمهورية الإسلامية، ويُدخل طهران في دائرة الخلط بين المواطنين اليهود الإيرانيين من حيث الهوية والحقوق، وبين إسرائيل والولايات المتحدة والصراع السياسي والعسكري الدائر منذ إعلان دولة إسرائيل؛ ما يثير التساؤل: كيف يعيش يهود إيران في ظل حكم الجمهورية الإسلامية؟ وكيف تتعامل إيران مع إشكالية الهوية اليهودية الإيرانية، خاصة بعد أحداث طوفان الأقصى؟

الجذور التاريخية لليهود في إيران

تُرجع الروايات التاريخية الوجود اليهودي في إيران إلى القرن السادس قبل الميلاد، بعد أن نفاهم الآشوريون إلى بلاد ما بين النهرين، ويُسمون يهود الطيالسة؛ نسبة إلى شال أبيض كانوا يضعونه على رؤوسهم. وخلال فترة وجودهم في بلاد فارس، ربطتهم علاقة وثيقة بالملك كورش- مؤسس الإمبراطورية الفارسية- وعملوا مستشارين ومساعدين له. كما تشير الروايات إلى أنهم ساعدوا الفرس على احتلال العراق في ذلك الوقت، حيث تمكن اليهود مع الزمن من التغلغل في المجتمع البالي، واحتلوا مناصب كبيرة في الدولة، ومارسوا طقوسهم الدينية في العراق، وكتبوا في بابل التلمود البابلي، وساعد يهود بابل الفرس خلال احتلال بابل بعد أن قدموا لهم كثيرًا من المعلومات المهمة عن جيش بابل، وعن تحصينات المدينة التي سقطت عام 539 قبل الميلاد، ولقاء هذه المساعدات اليهودية للدولة الفارسية سمح كورش لهم بالعودة إلى فلسطين؛ ولذلك يعدّ اليهود فترة وجودهم في بلاد فارس عصرًا ذهبيًّا لهم.

كانت العلاقة التي جمعت يهود إيران بنظام الشاه، خاصة في عهد رضا بهلوي، استثنائية؛ فقد كان رضا بهلوي من أكثر الداعمين للأقلية اليهودية في إيران، وسمح بكثير من الصحف والمجلات التي تمثلهم، وبعضها كان ناطقًا بالعبرية، لكن الأجواء توترت بشدة بعد مرحلة الحرب العالمية الثانية، والموقف من النازية. ومع وصول محمد رضا بهلوى- آخر ملوك إيران قبل الثورة- إلى الحكم، حاول غلق المجال العام في إيران، وممارسة آليات الحكم العسكري شبه العلماني، فظهرت مرحلة جديدة من مراحل التقارب بين النظام واليهود في إيران، واستخدمهم في مرحلة الغزل السياسي بينه وبين إسرائيل والولايات المتحدة. وفي محاولة للسيطرة على التيار الديني وآية الله، سمح بهلوي الابن بظهور كثير من المنظمات اليهودية، ولكن مع الموقف الأمريكي المتغير ضد نظام الشاه، ودعم الولايات المتحدة لبعض التيارات المعارضة في إيران، صرح الشاه بمعاداته للسامية، واعتبر أن الولايات المتحدة تحت سيطرة لوبي يهودي صهيوني يقود العالم، وانتهت مرحلة التقارب بين يهود إيران والشاه.

ونتيجة لهذا التوتر الدائم في العلاقة بين الأقلية اليهودية والنظام الحاكم في إيران، شهدت البلاد موجتين كبيرتين لهجرة اليهود؛ الأولى أعقبت إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، لكنها لم تؤثر تأثيرًا كبيرًا في الجالية اليهودية في إيران؛ لأنها ظلت دون صدامات مع النظام الإيراني، إضافة إلى وجود علاقات تجارية وسياسية وطيدة بين طهران وتل أبيب، وهو ما جنّب الجالية اليهودية أي تصعيد أو تغيير في وضعها بإيران، غير أن الموجة الثانية للهجرة كانت أعنف بعد الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وتغير العلاقة بين يهود إيران والجمهورية الإسلامية.

علاقة الجمهورية الإسلامية باليهود

بعد وصول آية الله الخميني إلى السلطة، شكّلت حادثة إعدام حبيب القانيان محطة فارقة في تاريخ الوجود اليهودي المعاصر في إيران، فكان الغنيان زعيم الأقلية اليهودية، وكان من أكبر التجار اليهود الذين أسهموا في بناء الاقتصاد الإيراني في عهد الشاه، وأول من أدخل صناعة البلاستيك إلى البلاد، وله مشروعات عملاقة بين إيران وإسرائيل، لكنه أُعدم في 9 مايو (أيار) 1979، بعد اتهامه بالعمالة لصالح إسرائيل ومنظمات صهيونية، وكانت هذه الحادثة صدمة للشعب الإيراني عامةً، ولليهود خاصةً، وأثارت كثيرًا من المخاوف لدى اليهود الإيرانيين.

وفي ظل الخوف المتنامي بعد الثورة الإسلامية، قرر اليهود الإيرانيون ضرورة اللقاء بالخميني لحسم مستقبلهم في ظل الجمهورية الإسلامية، وبعد يوم واحد من إعدام القانيان، التقى زعماء الأقلية اليهودية بالمرشد الأعلى في مدينة قم، وكان هذا اللقاء سبب إصدار الخميني فتواه الشهيرة القاضية بحماية اليهود داخل إيران، ومنع الاعتداء عليهم، وأن يهود إيران ينحدرون من نسل موسى، ولا علاقة لهم بصهاينة إسرائيل.

وحاولت إسرائيل في المقابل استقطاب يهود إيران، وعرضت مكافآت مالية كبيرة تصل إلى عشرة آلاف دولار للفرد، و61 ألف دولار لكل أسرة يهودية إيرانية؛ لتشجيع يهود إيران على الهجرة إلى تل أبيب. وحاليًا، يقدر عدد اليهود من أصول إيرانية في إسرائيل بأكثر من 200 ألف، من أبرزهم الرئيس الإسرائيلي الأسبق موشيه كاتساف، ووزير الدفاع الأسبق شاؤول موفاز.

ففي عهد الشاه، كان تعداد اليهود في إيران قرابة 100 ألف نسمة حتى أوائل الثمانينيات، يتوزعون بين شيراز، ويزد، وكرمان، وأصفهان، ورفسنجان، لكن وجودهم يتركز في العاصمة طهران، غير أن الأغلبية منهم هاجرت منذ الإطاحة بنظام الشاه عام 1979، ولم يتبقَ منهم إلا بضعة آلاف، إذ رافق الثورة تغير حقيقي في وضع يهود إيران؛ بسبب الطبيعة الأيديولوجية المفضلة للأغلبية الشيعية، على حساب باقي العقائد والطوائف، فضلًا عن الأيديولوجيا السائدة في إيران المعادية للدولة العبرية، وهو أمر يضع الجالية اليهودية في إيران في وضع حرج جدًّا، يصل في بعض الأحيان إلى حد الاتهام بالخيانة، وليس أدل على ذلك من اتهام 13 من أبناء الجالية اليهودية في طهران بالتجسس عام 1999 لصالح إسرائيل؛ ما صعّب قبولهم داخل المجتمع الإيراني.

مصير الأقلية اليهودية في إيران

تحسنت أوضاع يهود إيران نسبيًّا بعد تولي حسن روحاني رئاسة الجمهورية الإسلامية، سواء من ناحية معاملة السلطات لهم، أو من ناحية تفاعلهم في المجتمع الإيراني، حيث خصصت حكومة روحاني نحو 400 ألف دولار لمستشفى يهودي في طهران، ودعا الرئيس الإيراني، عضو البرلمان اليهودي الوحيد في البلاد أن يرافقه إلى إحدى جلسات الأمم المتحدة في نيويورك. وفي ظل حكومة الرئيس الأسبق حسن روحاني، شيدت بلدية طهران عام 2015 نصبًا تذكاريًّا تكريمًا للجنود اليهود الذين قُتلوا خلال الحرب الإيرانية- العراقية؛ باعتبار أنهم مكون أصيل من المجتمع الإيراني.

 وفي كلمة ألقاها روحاني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2017، قال: “نحن الشعب نفسه الذي أنقذ اليهود من السبي البابلي”، ليؤكد تاريخ الجمهورية الإسلامية المتقبل لوجود الأقلية اليهودية في البلاد، حيث دعمت الحكومة الإيرانية في عهد روحاني أماكن عبادة اليهود، ووفرت 10% من نفقاتها السنوية، ولا تلزمها بدفع الضرائب، أو بدل خدمات المياه أو الكهرباء أو الغاز، كما سمحت لليهود باقتناء المشروبات الكحولية، مع أنها ممنوعة في عموم الجمهورية.

لكن بعد تولي الرئيس السابق إبراهيم رئيسي حكم الجمهورية الإسلامية، اختلف التعامل الرسمي مع الأقلية اليهودية بسبب نهج رئيسي المتشدد تجاههم، فعاش أبناء الأقلية اليهودية أوضاعًا صعبة في إيران، إذ حُظر عليهم الدخول إلى عدد كبير من مواقع التواصل الاجتماعي، وتعرضت اتصالاتهم الهاتفية وتحركاتهم لمراقبة أمنية، إلى جانب إقصائهم عن كثير من المناصب العسكرية والإدارية العليا، كما أنهم مُنعوا من مزاولة أو الاطلاع أو المشاركة في أنشطة خاصة تعد جزءًا من الأمن القومي للبلاد، مثل البرنامج النووي الإيراني.

كما أنهم يعانون الخطاب السياسي اليومي الذي يطلقه المسؤولون الإيرانيون، الذين يتقصدون استخدام قاموس الصراعات الدينية والطائفية، إلى جانب تعميق مستويات الكراهية؛ ما يؤثر في طبقات واسعة في المجتمع الإيراني، تخلط بين مواقفها السياسية من إسرائيل والولايات المتحدة، ومواقفها من أبناء بلدها اليهود، وزادت حدة إقصائهم عن المجتمع الإيراني منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة قبل أكثر من عشرة أشهر.

ولأجل كسب القبول الشعبي والرسمي، حاول يهود إيران، منذ قيام دولة إسرائيل عام 1948، مجاراة السياسية الخارجية الإيرانية، والتعبير في كل المناسبات عن تأييدهم الدائم للنضال الفلسطيني، وتحفظهم على إسرائيل والصهيونية، ودللت على هذا تصريحات الجالية اليهودية التي دائمًا ما تكون مناهضة للسياسات الإسرائيلية؛ فمثلًا، عقب اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني، صرح الحاخام الأكبر للجالية اليهودية يهودا كرامي أن الكيان الصهيوني لا يمثل اليهود، وأن يهود إيران لا يرغبون بالتورط في النزاعات والحروب بين إيران وإسرائيل.

ولم يكتفِ يهود إيران بالتصريحات المعادية لانتهاكات الكيان الإسرائيلي؛ بل شهدت إيران بعد طوفان الأقصى مسيرات في العاصمة طهران، وفي أصفهان، تندد بالمجازر الإسرائيلية في قطاع غزة، وترأسها زعيم الطائفة اليهودية في إيران، الحاخام يونس حمامي لاله زار، وممثل اليهود في إيران عضو البرلمان همایون سامياح نجف آبادي، ورئيس مجلس شورى اليهود الإيرانيين هاراف يهودا غيرامي، لتأكيد إدانة يهود إيران جرائم الكيان الإسرائيلي، والإبادة الجماعية الحالية في غزة.

الخاتمة

مع أن لليهود تاريخًا طويلًا في إيران منذ العهد الإمبراطوري القديم إلى الآن، فإنهم ظلوا غير قادرين على الاندماج الكامل في المجتمع الإيراني؛ بل كان ينظر إليهم بعين الشك والريبة على مدار الحكومات المتعاقبة في إيران. والآن، في ظل الصراع الإيراني الإسرائيلي، لا تزال محاولة احتواء مخاوف الأقلية اليهودية في إيران، أمرًا بعيد المنال.

ما ورد في الدراسة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع