قراءة تحليلية لمبادرة إسطنبول بين موسكو وكييف
منذ اشتعال الصراع الروسي الأوكراني، وتحوله إلى المرحلة الساخنة في فبراير (شباط) 2022، أصبحنا شهودًا على سلسلة من المبادرات الدبلوماسية التي سرعان ما كانت تتبخر تحت ضغط الميدان، أو صلابة الشروط السياسية للطرفين، أو لتدخلات من أطراف ثالثة لا ترغب في أن تتوقف الحرب ويصل الصراع إلى محطة السلام.
لكن إعلان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي استعداده للقاء بوتين في إسطنبول يوم الخميس 15 مايو (أيار) 2025، حتى في ظل غياب وقف لإطلاق النار، وهو الشرط الذي كان يصر عليه دائمًا، أعاد فتح ملف التسوية المحتملة من زاوية غير مألوفة، أعتقد أنها تفرض علينا ضرورة تفكيك دوافع هذا الطرح لإزالة الغموض الذي قد يحير الناس، ومحاولة قراءة ما وراء سطور المواقف الرسمية لكل الأطراف.
في 10 مايو (أيار) 2025 عقدت كييف اجتماعًا حاسمًا مع قادة ما يعرف بـ “تحالف الراغبين” في الاتحاد الأوروبي، شارك فيه قادة فرنسا وبريطانيا وألمانيا وبولندا، وأعلن خلاله القادة الأوروبيون عرض هدنة شاملة وغير مشروطة لمدة ثلاثين يومًا، تبدأ في 12 مايو (أيار) 2025. الرسالة بالطبع كانت واضحة: إما وقف فوري لإطلاق النار، وإما عقوبات جديدة على روسيا، ومزيد من السلاح لأوكرانيا.
لكن الرد الروسي لم يأتِ على نحو تقليدي هذه المرة؛ فبوتين لم يعلق على المبادرة الأوروبية-الأوكرانية؛ بل طرح في وقت متأخر من ليل 11 مايو (أيار) 2025 استئناف الحوار المباشر دون شروط مسبقة في إسطنبول، محاولًا كسب المبادرة الدبلوماسية، وتحييد منطق الإنذار الأوروبي.
اللافت أن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب أبدى تأييًدا إيجابيًّا تجاه طرح بوتين، ولم يعلق على مبادرة الأوروبيين مع زيلينسكي، وقال إن على أوكرانيا أن توافق على المفاوضات المباشرة فورًا.
ولفهم مغزى هذه التصريحات، لا بد من وضعها في إطار لحظتها الزمنية، والأهم السياسية؛
فمن ناحية، يعلن زيلينسكي جاهزيته للحوار، في حين أن قواته في حالة دفاعية صعبة، خاصة على جبهتي خاركوف ودونيتسك، في ظل تباطؤ المساعدات العسكرية الغربية، وهذه معلومات عسكرية تقر بها التقارير الأوكرانية والغربية، قبل الروسية.
ومن ناحية أخرى، تطرح موسكو ما يبدو وكأنه “تنازل رمزي”؛ بالدعوة إلى حوار مباشر دون شروط، واستئناف مفاوضات إسطنبول، لكنها لم تحدد ما إذا كانت سترسل وفدًا فنيًّا للتفاوض، أم أن بوتين سيشارك شخصيًّا، وهو ما أستبعده شخصيًّا تمامًا، على الأقل في اللحظة الراهنة، اللهم إلا إذا كان زيلينسكي مستعدًا خلال هذا اللقاء المباشر مع بوتين لإعلان استسلام أوكرانيا، وهو أمر مستبعد أيضًا في رأيي من قراءة الواقع الموضوعي على الأرض، حيث لا تزال هذه اللحظة لم تحن بعد، على الرغم من اعتقادي أن الأمور سوف تسير لاحقًا في هذا الاتجاه تحديدًا.
هنا بالطبع نلاحظ مفارقة لافتة، وهي أن الطرف الأضعف عسكريًّا يطلب اللقاء، والطرف الأقوى ميدانيًّا يتحفظ عليه؛ لذلك يبدو زيلينسكي محصورًا بين الواقع والتكتيك، ودعوته ما هي إلا رسالة إلى الغرب، وليست خطوة حقيقية إلى الأمام من أجل السلام، فتصريحات الرئيس الأوكراني عن استعداده للقاء بوتين دون قيد أو شرط -حتى مع استمرار القتال- لا يمكن فصلها عن ضغوط الواقع السياسي والعسكري الآخذ في التعقيد؛ فالضغط الغربي، ولا سيما من جانب ترمب، يدفعه إلى إدراك أن الدعم استمرار الدعم الأمريكي والأوروبي بات مشروطًا -ولو ضمنيًّا- بوجود نافذة للتفاوض، فواشنطن على أعتاب موسم انتخابي في الكونغرس، ولا تريد أن تتهم بدعم حرب مفتوحة إلى ما لا نهاية، خاصة مع تصاعد الأصوات في الكونغرس المطالبة بإعادة النظر في التمويل العسكري لكييف.
إذن، زيلينسكي بهذا الطرح يراهن على الظهور بمظهر الطرف المسؤول والمتزن دبلوماسيًّا، ليحرج موسكو أولًا، ويطمئن الغرب ثانيًا.
فضلًا عن ذلك، يراهن زيلينسكي على أن يكون لعرضه هذا صدى لدى الرأي العام العالمي، وخاصةً شعوب الجنوب العالمي، مفاده أن أوكرانيا لا ترفض السلام، كما يتهمها الكرملين؛ بل تسعى إليه، في حين أن بوتين هو من يرفض الجلوس معه والتفاوض.
على الرغم من إعلان الكرملين استعداده للحوار، فإن تصريحات بوتين بهذا الشأن، في المؤتمر الصحفي الذي عقده بعد منتصف الليل، وبعد انتهائه من احتفالات أعياد النصر، وتوديع القادة الأجانب الذين شاركوه الاحتفالات، جاءت بصيغة فضفاضة، حيث دعا إلى: “مفاوضات مباشرة دون شروط مسبقة”، من دون تحديد مضمون أو إطار واضح لها. ومن هنا يمكنني تفكيك الموقف الروسي -حسب فهمي الشخصي بوصفي مراقبًا له بالطبع- من ثلاث زوايا:
1-الرغبة في الحفاظ على اليد العليا: بمعنى أن بوتين لا يريد أن يظهر بمظهر من “يسعى” إلى التفاوض تحت ضغط عسكري أو دولي؛ بل يسعى إلى ترسيخ صورة أن روسيا هي من يتحكم في مسار الحرب، وبيدها هي فقط تحديد توقيت السلم، كما حددت موعد الحرب.
2-الحذر من منح الشرعية لزيلينسكي: فرغم الخطاب الروسي الذي يصور زيلينسكي أداة غربية فاقدة للقرار، فإن مجرد عقد لقاء مباشر بين الرئيسين بوتين وزيلينسكي سيكون بمنزلة “اعتراف ضمني” بشرعية زيلينسكي التي شكّك فيها بوتين كثيرًا منذ مايو (أيار) 2024 بعد انتهاء فترة ولايته الرسمية، وعدم إجراء انتخابات جديدة تخول له الحديث باسم أوكرانيا، حتى مع أن حالة الحرب المفروضة في أوكرانيا تخوّل عدم إجراء الانتخابات بسبب الظروف التي تمر بها البلاد؛ لذلك فإن جلوس بوتين مع زيلينسكي الآن سيكون مناقضًا لمواقف موسكو منذ بدايات العملية العسكرية والحرب.
3-الرهان على عامل الزمن: القيادة الروسية تدرك جيدًا أن أوكرانيا وجيشها مُنهكان، والغرب منقسم، والساحة الدولية مضطربة؛ ومن ثم فإن التريث هو جزء من إستراتيجية “الاستنزاف السياسي”.
استخدام تركيا كمنصة آمنة هو أمر مفهوم، فاختيار إسطنبول مكانًا مقترحًا للقاء مع بوتين له دلالة كبيرة؛ فتركيا لا تزال طرفًا مقبولًا لديه، ولها سوابق في التوسط بنجاح، كما في اتفاق الحبوب، وهنا يظهر زيلينسكي وكأنه يلقي بالكرة في ملعب موسكو، ردًا على مقترح بوتين استئناف التفاوض، وذلك على أرض محايدة نسبيًّا.
أما اختيار بوتين لإسطنبول منصةً للمفاوضات المحتملة فليس اعتباطيًّا؛ فتركيا رغم عضويتها نجحت في تقديم نفسها وسيطًا عمليًّا وغير متحيز، وأردوغان يراهن على هذا الدور لترسيخ مكانة تركيا الإقليمية والدولية، خاصةً في لحظة تراجع القوى التقليدية في أوروبا، وفي الأمم المتحدة.
فيما يتعلق بموسكو، فإن الحوار تحت رعاية تركية يعد مقبولًا سياسيًّا وأمنيًّا. وفيما يتعلق بكييف فإن تركيا هي شريك موثوق به نسبيًّا، لم يقطع العلاقات مع روسيا، لكنه في الوقت نفسه يزود أوكرانيا بالمسيرات، والدعم السياسي.
من خلال تحليل المواقف المعلنة والمصالح الضمنية، وقراءة ما بين السطور، يمكن طرح ثلاثة سيناريوهات محتملة:
1- عقد لقاء شكلي بلا نتائج، يجتمع فيه الطرفان برعاية تركية، لكن دون الوصول إلى اتفاق، مع تبادل الاتهامات، وتعزيز الخطاب السياسي لكل طرف تجاه جمهوره.
2- تأجيل اللقاء تحت ذرائع لوجستية أو سياسية، أي يُرحَّل الموعد إلى حين نضوج ظروف تفاوضية أفضل، ميدانيًّا أو سياسيًّا.
3- استمرار الحرب والتصعيد على نحو متحكم به، وهو السيناريو الذي أرجحه؛ لأنه مع تعثر المسار السياسي، ستُستأنف العمليات العسكرية على نحو أكثر شراسة في جبهات مثل خاركوف، ودونيتسك.
وفي الختام أستطيع القول إنني من موقع المراقب، أرى أن ما يجري ليس مجرد مناورات إعلامية؛ بل هو جزء من صراع الإرادات السياسية في لحظة حاسمة من عمر الحرب، وكل طرف من الطرفين يسعى إلى تثبيت سرديته؛ فأوكرانيا تحاول تثبيت صورة أنها الضحية المستعدة للسلام، في حين أن سردية روسيا أنها نعم قوة مسؤولة، لكنها لن تقدم تنازلات دون ضمانات جوهرية.
وفي هذا المشهد المركب، يبقى السؤال مطروحًا: هل تملك الأطراف ترف أو شجاعة الخروج من مأزق “اللا نصر واللا سلام”، أم أن ميدان القتال سيبقى لغة التفاوض الوحيدة؟
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.