بعد أسابيع من الاحتجاجات العنيفة، غادرت رئيسة وزراء بنغلاديش الشيخة حسينة على مَتن طائرة عسكرية، وغادرت البلاد إلى الهند، بعد أن أفادت التقارير أن حشودًا اقتحمت مقر إقامتها في دكا. وأعلن قائد الجيش البنغلاديشي، الجنرال واكر الزمان، تشكيل حكومة مؤقتة، مع وعود بإجراء انتخابات مبكرة، والعودة إلى الحكم المدني. بالتزامن مع هذا، تعاملت بعض وسائل الإعلام العربية مع الأمر على أن ما يحدث في دكا هو تكرار لما عُرف “بالربيع العربي” في الشرق الأوسط منذ أواخر 2010، وبدأت الجماعات ذات التوجه الإسلاموي، لا سيما جماعة الإخوان المسلمين، باعتبار أن ما يحدث في بنغلاديش هو انتصار للجماعة الإسلامية هناك، التي تخلصت من “حُكم العسكر”؛ ما يعطي فرصة لعودة الإسلامويين في الشرق الأوسط بعد الإطاحة بهم من الحكم في مصر وتونس، وفشلهم في سوريا واليمن وليبيا. لكن هل هذه القراءة الإسلاموية الشرق أوسطية صحيحة لما يحدث في خليج البنغال؟ اختصارًا، لا؛ في بنغلاديش، كان العسكر هم الإسلامويين، ولم يكونوا تيارين متعارضين؛ بل أن رابطة عوامي بقيادة الشيخة حسينة حاولت وقف هذا الهجين “العسكري- الإسلاموي” عن الحكم حتى الإطاحة بها.
لقد أرسى أول دستور لبنغلاديش، الذي أُقِر عام 1972، أي في العام التالي لحرب الاستقلال، الأساس القانوني للحكم غير الديني، وأعلنت العلمانية أحد المبادئ الأساسية للدولة، وحظر استخدام الدين لأغراض سياسية. في عهد مجيب الرحمن (المعروف بالشيخ مجيب)، الذي شغل في البداية منصب الرئيس، ثم رئيس الوزراء من عام 1971 إلى عام 1975، بدأت الحكومة في علمنة الكتب المدرسية، وإعادة تسمية المباني والشوارع بأسماء شخصيات وطنية، وتقييد التلاوة العامة للقرآن. ولكن بحلول عام 1974- وسط التدهور الاقتصادي، ونشوء حركة إسلاموية مضطربة على المستوى المحلي- بدأ الشيخ مجيب بإدراج الثقافة والقيم الإسلامية في الحياة العامة؛ للاحتفاظ بالدعم الشعبي، بما في ذلك إنشاء أعياد وطنية دينية جديدة، وحظر الكحول والقمار، ودعم التعليم والممارسة الإسلامية، وإعادة تلاوة القرآن الكريم في الإذاعة والتليفزيون.
كان اغتيال الشيخ مجيب عام 1975 إيذانًا ببدء 15 عامًا من الحكم الاستبدادي الذي تميز بالأسلمة المتزايدة للدولة. اتخذت حكومة الرئيس ضياء الرحمن (1976-1981) عدة خطوات لدمج الإسلام في قواعد الحكومة والسياسة ومعاييرهما؛ فأزالت حكومة الجنرال ضياء الحق (الذي استولى على السلطة في منتصف السبعينيات) مصطلح “العلمانية” من الدستور، ورفعت الحظر عن الأحزاب الإسلامية التي حاربت ضد الاستقلال، بما في ذلك الجماعة الإسلامية (التي ستظهر الآن قائدًا في التظاهرات). وفي تصريحاتهم العامة، واستخدامهم للرمزية السياسية، أكد الرئيس ضياء الحق، الذي أسس الحزب الوطني البنغلاديشي في أثناء فترة ولايته، وحلفاؤه، الطابع الإسلامي للمجتمع والدولة في بنغلاديش. بعد اغتيال ضياء الحق عام 1981، عزز الجنرال حسين محمد (1982- 1990) إرشاد سلطته، واستمر في الأسلمة للسياسة البنغلاديشية.
جعل إرشاد الإسلام دين الدولة في بنغلاديش، ومن ثم أضفى طابعًا مؤسسيًّا على النوع الجديد من القومية ذات البعد الإسلامي التي قدمها ضياء الحق. كما غيَّر إرشاد العطلة الأسبوعية من الأحد إلى الجمعة، وأعاد إحياء الجماعة الإسلامية لمواجهة المعارضة العلمانية. وكانت الجماعة الإسلامية قد دعمت باكستان ضد القوميين البنغاليين خلال حرب التحرير، وفر معظم قادتها إلى باكستان بعد عام 1971. وفي عهد ضياء الحق، عادوا وجلبوا معهم أفكارًا أصولية جديدة. وفي عهد إرشاد، أصبح الإسلام عاملًا سياسيًّا لا يستهان به.
نجحت القوى الإسلامية في تعزيز نفوذها في بنغلاديش تحت حُكم جنرالات العسكر، لكن هذا النفوذ توقف عندما فازت رابطة عوامي، تحت زعامة الشيخة حسينة، ابنة الأب المؤسس لبنغلاديش، الشيخ مجيب الرحمن، في انتخابات عام 1996. وبعد خمس سنوات، وصل إلى السلطة تحالف انتخابي من أربعة أحزاب بقيادة الحزب الوطني البنغلاديشي بزعامة خالدة ضياء، وكان الائتلاف الجديد الذي تولى السلطة يضم- لأول مرة- وزيرين من الجماعة الإسلامية، التي برزت بوصفها ثالث أكبر حزب، وحصلت على سبعة عشر مقعدًا في البرلمان المكون من ثلاثمئة عضو.
وكانت التوقعات عالية فيما يتعلق بالحكومة الجديدة آنذاك، التي كان الكثيرون يأملون أن تكون “أنظف” من الحكومة السابقة. وفي يونيو (حزيران) 2001، صنفت منظمة الشفافية الدولية في تقريرها السنوي بنغلاديش على أنها الدولة الأكثر فسادًا في العالم. بالإضافة إلى ذلك، أصبح العنف واسع الانتشار، ويبدو أن كثيرًا منه له دوافع دينية وسياسية. أصدرت جمعية البيئة والتنمية البشرية (SEHD)، وهي منظمة غير حكومية بنغلاديشية تحظى باحترام كبير، تقريرًا محليًّا يقول إن الأقليات غير المسلمة عانت نتيجة لذلك: “إن ترهيب الأقليات، الذي بدأ قبل تقرير منظمة العفو الدولية في ديسمبر (كانون الأول) 2001، أن الهندوس ـ الذين يشكلون الآن أقل من 10% من سكان بنغلاديش البالغ عددهم 130 مليون نسمةـ تعرضوا للهجوم، ودمرت أماكن العبادة الهندوسية، ونهبت القرى، وورد أن العشرات من النساء الهندوسيات تعرضن للاغتصاب”.
ومع أن الجماعة الإسلامية قد لا تكون وراء هذه الهجمات على نحو مباشر، فإن إدراجها في الحكومة يعني أن الجماعات الأكثر تطرفًا تشعر الآن بأنها تتمتع بالحماية من السلطات، ويمكنها التصرف مع الإفلات من العقاب. وتفيد التقارير أن الجماعة الأكثر تشددًا، وهي حركة الجهاد الإسلامي، تضم خمسة عشر ألف عضو، ويحملها الهندوس والمسلمون المعتدلون في بنغلاديش المسؤولية عن كثير من الهجمات ضد الأقليات الدينية والمثقفين العلمانيين والصحفيين. وفي بيان أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية في مايو (أيار) 2002، وُصفت الحركة، التي تعرف اختصارًا بـ”حجي”، بأنها منظمة إرهابية لها علاقات مع متشددين إسلامويين في باكستان.
ظهرت فكرة أن الأجزاء ذات الأغلبية المسلمة من الهند البريطانية يجب أن تصبح دولة منفصلة- لأول مرة- في مقال قصير كتبه رحمت علي عام 1933، وهو طالب هندي مسلم في كامبريدج، حتى إنه اقترح اسمًا للدولة الجديدة- باكستان- وهو اختصار يستند إلى الدول التي ستشكلها: البنجاب، وأفغانستان (الحدود الشمالية الغربية)، وكشمير، والسند، وبلوشستان. أما الاسم الجديد فيعني “أرض الأنقياء”. ومع ذلك، فإن الدولة الإسلامية المقترحة لم تشمل المقاطعة الإسلامية الأكثر اكتظاظًا بالسكان في الهند، شرق البنغال، وفي البداية، عارضت معظم الجماعات الإسلامية فكرة القومية الدينية.
وظهرت مدرستان إسلامويتان: الجامعة الإسلامية في شبه القارة الهندية، في منطقة ساهارانبور، فيما يعرف الآن بولاية أوتار براديش في الهند، وقد دعم قادتها بقوة الحركة القومية الهندية بقيادة حزب المؤتمر (غاندي- نهرو). أما الجماعة الإسلامية، التي أسسها أبو الأعلى المودودي عام 1941، والتي انبثقت من مدرسة ديوبند، فقد ذهبت إلى حد الادعاء بأن المطالبة بدولة منفصلة تقوم على أسس حديثة بمنزلة التمرد على مبادئ الإسلام (كُفر). وكانت الجماعة الإسلامية منذ البداية مستوحاة من جماعة الإخوان المسلمين، التي تأسست في مصر عام 1928 بهدف إحداث ثورة إسلامية، وإنشاء دولة إسلامية؛ لذا، وتدريجيًّا، بعدما حصلت الرابطة الإسلامية، بقيادة محمد علي جناح، على الدعم لفكرة باكستان، ونالت الهند استقلالها في أغسطس (آب) 1947، ونشأت دولتان: اتحاد الهند العلماني الذي يهيمن عليه الهندوس، ودولة باكستان الإسلامية، أصبحت الجماعة الإسلامية من أقوى المؤيدين لفكرة باكستان.
رفضت الجماعة الإسلامية القومية البنغالية، وقاتلت الجماعة إلى جانب الجيش الباكستاني ضد القوميين البنغاليين. ومن بين قادة الجماعة الأكثر شهرة كان عبد القادر ملا، الذي أصبح يعرف باسم “جزار ميربور” (إحدى ضواحي دكا التي كان يسكنها في عام 1971 مهاجرون مسلمون غير بنغاليين)، وشغل ملا منصب سكرتير الدعاية للجماعة البنغلاديشية. وعلى الرغم من خلفيته الدموية، فقد مُنح تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة لزيارة نيويورك في يونيو (حزيران) 2002. وفي عام 1971، اعتبرت أول حكومة لبنغلاديش المستقلة ملا وغيره من زعماء الجماعة مجرمي حرب، لكنهم لم يُحاكَموا قط؛ لأنهم هربوا إلى باكستان.
عاد زعماء الجماعة إلى بنغلادش في عهد الجنرالين ضياء وإرشاد، كما رأوا في إرشاد- على وجه الخصوص- نصيرًا لقضيتهم. كان هذا أمرًا مثيرًا للسخرية إلى حد ما، حيث كان إرشاد- ولا يزال- معروفًا بأنه مستهتر، ومن الصعب أن يكون شخصًا متدينًا، لكنه أدخل سلسلة من الإصلاحات الإسلامية، وكان بحاجة إلى الجماعة لمواجهة رابطة عوامي، ومثل سلفه ضياء الحق، كان عليه أن يجد الأسس الأيديولوجية لما كان في الأساس دكتاتورية عسكرية، وكانت المشكلة هي أن الجماعة فقدت مصداقيتها بسبب الدور الذي أدّته في حرب التحرير في قتل البنغاليين، ولكن مع ظهور جيل جديد، أصبح من الممكن “تزوير ذلك”، ولقد دُرِّسَ الفكر الإسلاموي للجماعة في المدارس الدينية في بنغلاديش، التي تضاعفت بوتيرة كبيرة.
يرتبط التطرف الإسلاموي في بنغلاديش بالديناميكيات الخارجية في البلدان المجاورة. وفي السنوات الأخيرة، غذت الأيديولوجيات المتطرفة الأحداث التي وقعت في ثلاث دول: الهند، وميانمار، وأفغانستان. وفي ظل الحزب الحاكم الحالي للحكومة الهندية (حزب بهاراتيا جاناتا) أدى الخطاب والسياسات المعادية للمسلمين وسط تصاعد القومية الهندوسية إلى استعداء الإسلاميين وتعبئتهم في بنغلاديش.
كما أن معاملة ميانمار لأقلية الروهينجا المسلمة تؤجج التطرف. وفي عام 2017، فر نحو (750) ألفًا من الروهينجا إلى بنغلاديش؛ هربًا من حملة التطهير العرقي. وكان عشرات الآلاف من اللاجئين الروهينجا موجودين بالفعل في البلاد، ويبلغ العدد الإجمالي للاجئين الروهينجا نحو مليون شخص. وفي مخيمات اللاجئين المزدحمة والقذرة، تتمتع الجماعات الإسلاموية المتشددة بنفوذ كبير. وتدير الجماعة الإسلامية وحركة “حفظة الإسلام” المدارس والمساجد في جميع أنحاء المخيمات. ويتمتع جيش إنقاذ روهينجا أراكان (ARSA)، وهي جماعة إسلامية متشددة كانت تُعرف سابقًا باسم حركة اليقين، بنفوذ كبير في المخيمات.
إن عودة حركة طالبان إلى الحكم في أفغانستان شجّع المتطرفين. وبينما كانت حركة طالبان تتجه نحو كابول، علمت الشرطة البنغلاديشية أن ثلاثة بنغلادشيين على الأقل ذهبوا إلى أفغانستان للقتال مع طالبان، وأشاد آلاف البنغلاديشيين بما سمّوه “نصر طالبان” على مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا أشعر المحللين الأمنيين بالقلق. نموذج طالبان يمكن أن يلهم التطرف، ويشجع المتشددين الطامحين على السفر إلى أفغانستان للتدريب، وإحياء المنظمات المتطرفة المحلية، وتشجيع جهود تجنيد المنظمات المتطرفة العابرة للحدود الوطنية في بنغلاديش.
من عام 1979 إلى عام 1990، انضم عدة آلاف من البنغلاديشيين إلى الجهاد الأفغاني ضد الاتحاد السوفيتي. وعندما عاد هؤلاء المقاتلين إلى بنغلاديش، شكلوا منظمة متطرفة تعرف باسم جماعة المجاهدين البنغلاديشيين، قبل أن يشكلوا جيلًا ثانيًا يحول التطرف العنيف العالمي نحو أهداف محلية، وعلى وجه التحديد، إنشاء دولة إسلامية في بنغلاديش. وكانت الجماعات والأفراد المنتمون إلى الجماعات المسلحة مسؤولين عن التفجيرات والهجمات الانتحارية، وأعمال الترهيب.
في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أصبح الجيل الثالث من المتطرفين العنيفين في بنغلاديش أكثر حضرية وتطورًا. وتشكل المنظمات المتطرفة الجديدة، مثل فريق أنصار الله البنغالية، الذي يُسمى أيضًا أنصار الإسلام، الجيل الرابع، حيث تستخدم هذه الجماعات الإنترنت على نطاق عريض في جهودها لتجنيد أعضاء جدد، ونشر معتقداتهم، وقد ارتبطت بقتل المدونين العلمانيين ونشطاء مجتمع الميم في دكا عام 2010. ظهر الجيل الخامس والحالي من المتطرفين العنيفين عام 2015، ويرتبط بأهداف محلية وعابرة للحدود الوطنية. تجنّد مجموعات مثل داعش والقاعدة في شبه القارة الهندية البنغلاديشيين لاستخدام العنف لإنشاء خلافة عالمية، بالإضافة إلى دولة إسلامية في بنغلاديش. ونفذ مسلحون بنغلاديشيون من هذا الجيل- الذي أعلن ولاءه لتنظيم داعش- هجوم هولي أرتيزان في يوليو (تموز) 2016؛ لذا أضفت بنغلاديش طابعًا مؤسسيًّا على نهجها في مكافحة الإرهاب في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ ردًا على التحدي المتزايد المتمثل في التشدد الإسلامي. ومنذ عام 2009، شكلت حكومة رابطة عوامي، بقيادة الشيخة حسينة، اللجنة الوطنية لمقاومة التشدد والوقاية منه، والتي جمعت بين مختلف الوزارات والوكالات الأمنية لتنسيق مكافحة الإرهاب. وفي العام نفسه، شكلت الحكومة أيضًا اللجنة الوطنية لتنسيق الاستخبارات، برئاسة رئيس الوزراء، لتنسيق جمع المعلومات الاستخبارية والعمليات مع الأجهزة الأمنية. وفي عام 2016، شُكّلت وحدة خاصة لمكافحة الإرهاب في قوة شرطة دكا، سُمّيت وحدة مكافحة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود الوطنية، كُلّفت بدراسة التطرف العنيف ورصده وإحباطه، واستُكمل فريق مكافحة الإرهاب بقوة أمنية شبه عسكرية تابعة للدولة، وهي كتيبة التدخل السريع (RAB)، التي شُكلت في عام 2004 لمكافحة الإرهاب وتهريب المخدرات، والأخيرة ظهرت حولها شبهات كثيرة باستخدام العنف المفرط، والفساد.
عام 2011، شكلت رابطة عوامي محكمة للتحقيق في جرائم الحرب المرتكبة خلال حرب الاستقلال. وقد حكمت المحكمة على كثير من قادة الجماعة الإسلامية بالإعدام، أو السجن مدى الحياة، وواجهت انتقادات واسعة النطاق من منظمات حقوق الإنسان الدولية. وفي عام 2013، نجح حلفاء رابطة عوامي في رفع دعوى قضائية ألغت تسجيل الجماعة بوصفها حزبًا سياسيًّا بسبب نشاطها. ومع ذلك، فمن خلال أنشطتها في مجال الرعاية الاجتماعية، وتنظيمها السياسي غير الرسمي، احتفظت الجماعة بدعم كبير في جميع أنحاء بنغلاديش، وظلت أيديولوجيتها السياسية قوية.
“حفظة الإسلام” هي حركة مناصرة إسلامية تتألف من طلاب المدارس الدينية ومعلميها. ومع أن الحركة أعلنت أنه ليس لديها أي طموح انتخابي، فإن مطالبها تشكل رؤية سياسية واضحة أصبحت قوية على نحو متزايد في السياسة. عام 2013، أصدرت الحركة قائمة تضم (13) مطلبًا، منها: إعادة الصياغة الإسلامية إلى الدستور، وتنفيذ عقوبة الإعدام بتهمة التجديف، وجعل التربية الإسلامية إلزامية، ومنع اختلاط الجنسين في الأماكن العامة، ومنع بناء التماثيل في الأماكن العامة. وكما هي الحال مع الجماعة الإسلامية، فقد نشرت “حفظة الإسلام” رؤيتها الاجتماعية المتشددة من خلال العمل الخيري في مدارسها، التي تؤوي الأيتام، وتقدم خدمات دينية للفقراء، وتوفر المال لإغاثة الأسر الفقيرة.
وبدلًا من الاعتراض على مواقف حركة “حفظة الإسلام” المناهضة للعلمانية، استجابت رابطة عوامي لكثير من مطالبها، ومنها إزالة تمثال سيدة العدل خارج مبنى المحكمة العليا في دكا بعد أن اشتكت الحركة من أن ذلك شكل من أشكال عبادة الأوثان، والسماح باعتبار الشهادات الصادرة من المدارس الدينية غير المنظمة معادلة لدرجات الماجستير من الجامعات، وقبول المراجعات المستوحاة دينيًّا للكتب المدرسية، مثل إزالة الإشارات إلى الكتّاب غير المسلمين، حيث كانت الشيخة حسينة تهدف من وراء ذلك إلى الحصول على دعم “حفظة الإسلام” لتقسيم المعارضة الإسلامية، ومنع المواجهة مع الإسلام السياسي.
بحلول عام 2020، بدء احتضان رابطة عوامي لحركة حفظة الإسلام يأتي بنتائج عكسية. وبتشجيع من قوتها السياسية، عارضت الحركة في ديسمبر (كانون الأول) 2020 بناء تماثيل للشيخ مجيب؛ لأن الحركة ترى التماثيل عملًا وثنيًّا (هذا يفسر لماذا ظهرت مشاهد تحطيم تماثيل الشيخ مجيب بوصفها فعلًا دينيًّا وليس احتجاجًا سياسيًّا). وفي مارس (آذار) 2021، نظمت الحركة احتجاجات كبيرة مناهضة للهند في أثناء زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى بنغلاديش. وعلى الرغم من التوتر المتزايد مع الحكومة، فإن السلطة السياسية والاجتماعية التي تتمتع بها الحركة كبيرة. وتحت إشراف رابطة عوامي، واصلت توسيع شبكتها من المدارس المحافظة، والترويج لنوع غير ليبرالي من الممارسات الدينية، ووجهات النظر الاجتماعية الرجعية.
ومع عودة الجيش البنغلاديشي إلى السلطة، فإن مهمته الرئيسة سوف تتلخص في تحقيق الاستقرار في البلاد، وتسهيل إنشاء أحزاب سياسية جديدة، ويفضل أن تكون إسلاموية، قادرة على تولي السلطة. ومن المرجح أن تكون هذه المهمة فوضوية، خصوصًا عندما تتجاهل أن حزب رابطة عوامي الحاكم، الذي فاز بـ 271 مقعدًا من أصل 350 مقعدًا في البرلمان مطلع 2024، قد اختفت قاعدته الشعبية من فصيل أصغر سنًا في رابطة عوامي، وكثير منهم نساء سيكنّ حريصات على نهج تقدمي- علماني. أما الحزب السياسي الرئيس الآخر، وهو الحزب الوطني البنغلاديشي العلماني نسبيًّا، فيرى نفسه وريثًا للسلطة بعد الإطاحة بحسينة، ولكن زعيمته خالدة ضياء تعاني مرضًا عضالًا، كما يعيش ابنها طارق رحمن منذ فترة طويلة في المنفى في لندن؛ هربًا من اتهامات الفساد. وقد فقد الحزب القومي البنغلاديشي نفوذه إلى حد كبير في البلاد.
إن البدائل الأكثر واقعية تتمثل في الجماعات الإسلامية المختلفة، ومنها حزب الجماعة الإسلامية المحظور. وقد ظلت هذه الجماعات بعيدة عن السلطة سنوات كثيرة، ولكن هناك فرصة كبيرة لفوز ائتلاف بقيادة الإسلامويين في الانتخابات إذا ما عقدت اليوم وفقًا لتفضيلات الجيش. الآن تعود بنغلاديش إلى ميراثها في السلطة العسكرية ذات الخليفة الدينية المتشددة، وقد تغلق معها حقبة تحول مدني في حدوده الدُنيا، حيث لم يكن حكم الشيخة حسينة مثاليًّا وأصابه كثير من العوار، لكنها لا شك نجحت في تحقيق الاستقرار والنمو الاقتصادي سنوات كثيرة، وحاولت مكافحة التطرف والفكر الرجعي، ولتُفتَح صفحة جديدة من التصادم الحتمي بين الجوانب المختلفة للهوية البنغلاديشية -البنغالية/ العلمانية/ البنغلاديشية/ المسلمة- والمنافسة على الشرعية والأولوية في السيطرة على مقاليد الدولة.
أخيرًا، موقع الأيديولوجية الإسلاموية في بنغلاديش يختلف عن نظيره في الشرق الأوسط، حيث حكم الإسلامويين دكا، وكان الجنرالات العسكريون هم مُرشدوها، على عكس الشرق الأوسط؛ حيث شكلت الجماعات الإسلاموية معارضة، ولم تتمكن من اختراق الجيوش والنخب العسكرية الحاكمة، وإن تعاونت معها في حقب زمنية ولحظات تاريخية قصيرة؛ لذا فإن الصراع في بنغلاديش يأخذ وجهًا “عسكريًّا- إسلامويًّا” ضد نخب “علمانية”، فيما يبدو الصراع الشرق أوسطي به وضوح أكثر بين “العسكريين” و”العلمانيين” و”الإسلامويين”، حيث يقترب أو يبتعد الأخيران عن الأول؛ ما يحدد نفوذهم، وليس قدرتهم على الحكم أو السيطرة على مراكز القوة داخل الدولة مثلما يسيطر الإسلامويون على الفكر العام والنظام السياسي في بنغلاديش؛ ما يعني أن السردية المقدمة حاليًا في بعض وسائل الإعلام العربية أن “الشعب البنغلاديشي أطاح بالاستبداد العسكري” هي رواية رغبوية لا تعكس حقيقة ما يحدث في الدولة الجنوب آسيوية، ولا يدرك الفوارق الدقيقة والجوهرية في الخطاب الإسلاموي بين جنوب آسيا وغربها (الشرق الأوسط).
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.