مقالات المركز

أوروبا.. “الاستثمار في الخوف” من روسيا


  • 14 مايو 2025

شارك الموضوع

يقوم عمل الحكومة، أي حكومة في العالم، على طمأنة شعبها، وبث روح الأمل والرجاء واليقين بالغد والمستقبل، لكن حكومات الدول الأوروبية تبتدع سياسة جديدة، ومنهجًا مختلفًا يقوم على “الاستثمار في الخوف والتخويف والترويع” من روسيا. تسعى الدول الأوروبية من خلال التخويف من سياسات الكرملين إلى تحويل أحلام الأطفال إلى كوابيس، بادعاء أن الجيش الروسي يستعد لقتل الأطفال واحتلال منازلهم، من خلال الدعاية التي تدعي أن روسيا بدأت بالفعل الاستعداد لحرب جديدة على الدول الأوروبية، على غرار الحرب في أوكرانيا، وأن موسكو تعمل على حشد نحو 3 ملايين جندي روسي، وتجهيز كل الأسلحة النووية التكتيكية، وإنتاج آلاف الدبابات، والتوسع على نحو غير مسبوق في إنتاج المسيرات والذخائر، بل يصورون خطط روسيا لمد خطوط سكك حديدية في مناطقها الغربية بأنها “مؤشرات إضافية” على الاستعدادات الروسية للحرب القادمة ضد أوروبا، وبدأت العواصم الأوروبية بالفعل تدعو المواطنين إلى التدريب على خطط تخزين الطعام، والذهاب إلى الأنفاق، وارتداء الأقنعة الواقية من الغازات السامة والأشعة النووية.

تحليل السياسات الأوروبية في الوقت الراهن يقول إن “تسويق الخوف” من روسيا هو أكبر مشروع سياسي واقتصادي أوروبي؛ لأنه كلما زاد “رأس مال الخوف” من موسكو لدى المواطن والناخب الأوروبي، فإن العائد السياسي سوف يكون في بقاء هذه الحكومات فترات طويلة في الحكم.

ورغم كل الشكوك التي تحيط بسردية هذه الحكومات وروايتها في تخويفها للأوروبيين من روسيا، وبدلًا من دعم جهود الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لوقف الحرب في أوكرانيا، والتعامل بحسن نية مع هذه الجهود، وتطبيع العلاقات الأوروبية الروسية، تلجأ بعض الحكومات الأوروبية إلى “الدعاية السوداء” ضد الدب الروسي؛ في محاولة لإقناع شعوبها بأن روسيا في طريقها إلى الحرب، ليس فقط مع دول البلطيق؛ بل مع الدول الأوروبية الكبيرة، مثل ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا.

اللافت أيضًا أن مخططي السياسة الأوروبية يعتقدون أن سياسة “التخويف من روسيا” أثبتت نجاحها، وجاءت بثمار كثيرة منذ الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير (شباط) 2022، وأن هذه الثمار تتجلى في تخلي فنلندا والسويد عن حيادهما الذي استمر نحو 200 عام، والانضمام إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”. كما أن “بيع الخوف من روسيا” أعطى خطط الحكومات الأوروبية التي تريد التوسع في الديون زخمًا جديدًا للمرة الأولى منذ 3 عقود، خاصةً تلك الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي بدأت إجراءات فعلية لتجاوز “سقف الديون” الذي كان يمنع على أي دولة في الاتحاد الأوروبي تجاوز 3% في عجز الميزانية. وتقوم حسابات بعض معاهد التخطيط الأوروبية على أن الخوف من روسيا دفع المواطن الأوروبي بالفعل ليكون أكثر قبولًا للتراجع الاقتصادي الناتج عن وقف تدفق الغاز الروسي عبر الأنابيب، وزيادة التضخم إلى مستويات قياسية، وتلاشي الخدمات الاجتماعية والمساعدات والإعانات التي كانت الدول الأوروبية تفتخر بأنها الوحيدة في العالم التي تقدم مثل هذه المزايا لمواطنيها.

فما حقيقة الاستعدادات الروسية لشن حروب طويلة تطول دولًا في “الناتو” وفي الاتحاد الأوروبي؟ وما أبرز الخطط التي تنوي أوروبا العمل عليها في الفترة المقبلة لتعميق “حالة الخوف والهلع” من روسيا؟

أرقام

تؤكد أرقام الإنفاق العسكري بين روسيا من جانب و32 دولة عضوًا في حلف “الناتو” من جانب آخر، أن روسيا لا يمكن أن تفكر في الهجوم على أي دولة من دول الحلف إلا إذا تعرضت لهجوم من “الناتو”، وحينئذ لن يكون هجومًا روسيًّا؛ بل دفاعًا عن النفس، فوفق ميزانية 2024، بلغ الإنفاق العسكري الروسي -وهو الأعلى في تاريخ موسكو- نحو 140 مليار دولار، في حين وصل إنفاق حلف “الناتو” العام الماضي إلى نحو 1.45 تريليون دولار، أي إن دول “الناتو” تنفق على الشؤون العسكرية نحو 1000%، أو 10 أضعاف ما تنفقه روسيا. كما أن الإنفاق العسكري الروسي الحالي هو بمنزلة “ميزانية حرب” بسبب الحرب الحالية في أوكرانيا، وكل التوقعات تقول إنه فور انتهاء الحرب في أوكرانيا سوف تخفض روسيا إنفاقها العسكري إلى نحو 75 أو 80 مليار دولار، والجميع يتذكر أن الإنفاق العسكري الروسي قبل الحرب الحالية لم يتجاوز 65 مليار دولار في ميزانية 2021، وهو سبب جديد يؤكد أن روسيا لم تخطط للحرب في أوكرانيا إلا في نهاية عام 2021. وفي ظل معدلات الإنفاق هذه بين الطرفين، ليس من الحكمة أن تدخل روسيا في حروب جديدة ضد 32 دولة في “حلف الناتو”، لا سيما أن الحرب الحالية ليست نزهة، وكان لها تكلفتها المادية والبشرية التي لا ينكرها الروس.

هل الحرب على الأبواب؟

كان لافتًا أن كثيرًا من الدول الأوروبية اتخذت خطوات عسكرية وكأن روسيا سوف تبدأ الحرب على أوروبا و”الناتو” غدًا. وأبرز تلك الخطوات هي:

أولًا- أسلحة نووية قرب حدود ألمانيا
أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نشر مزيد من الرؤوس النووية في قاعدة لوكسيل الجوية بالقرب من الحدود الألمانية، مع خطط لنشر طائرات الرافال الحديثة “رافال 5” التي تحمل رؤوسًا نووية. والغرض من هذه الخطوة، وإعادة تطوير قاعدة لوكسيل، هو الرد على أي هجوم نووي روسي كما تقول باريس؛ ولهذا أعلن الرئيس ماكرون، والمستشار الألماني الجديد فريدرش ميرتس، ورئيس الوزراء البريطاني كير ستامر، أنهم سوف يجتمعون قريبًا من أجل تفعيل ورقة الأسلحة النووية الأوروبية (الفرنسية والبريطانية) في وجه روسيا، مع أن روسيا قالت في عقيدتها النووية الجديدة إنها لن تبدأ بالهجوم النووي على أي دولة، وإن غرض أسلحتها النووية هو فقط حماية الأراضي الروسية، بما فيها المناطق الخمس التي استعادتها منذ 2014، وهي شبه جزيرة القرم، وخيرسون، وزاباروجيا، ودونيتسك، ولوغانسك، وهو ما يعني أن هناك هدفًا آخر لا يتعلق بأي هجوم روسي وشيك على أوروبا والناتو.

ثانيًا- تفعيل الخطة السرية البريطانية
في أقصى غرب أوروبا، تستعد بريطانيا أيضًا -التي ليس لها حدود مباشرة مع روسيا- لما تسميه بالهجوم الروسي على الأراضي البريطانية. ويأتي هذا التخوف -وفق الخطة السرية البريطانية -من قدرة الصواريخ الروسية الجديدة على اختراق الدفاعات الجوية البريطانية، وأن روسيا تستطيع بالفعل -حسب هذه الرواية- تجاوز الدفاعات البريطانية. وهذه الخطة تتفق مع ما يسمى “كتاب الحرب”، وهو الذي يوضح كيفية رد بريطانيا على أي هجوم روسي، سواء بالأسلحة التقليدية أو بالقنابل النووية. ليس هذا فقط، بل وصل الأمر إلى الحديث عن كيفية حماية رئيس الوزراء والوزراء والعائلة المالكة من الهجوم الروسي الوشيك، وتحديد مهام الحكومة في أثناء الهجوم للعمل من الأنفاق والمخابئ، مع بث برامج إذاعية لتقديم المشورة للمواطنين بشأن تدابير السلامة، مثل كيفية الاحتماء من الصواريخ، ووضع إستراتيجيات مفصلة عن ترشيد الموارد الأساسية وتخزينها، مثل الغذاء، ومواد البناء، ومعالجة نقاط ضعف البنى التحتية الحيوية، مثل محطات الغاز، والكابلات البحرية، ومحطات الطاقة النووية، ومراكز النقل. وكل هذه الأخطار -وفق التحديثات البريطانية- تستوجب تطوير نظام بريطاني للدفاع الجوي المتعدد الطبقات يشبه نظام “القبة الحديدية” الإسرائيلي.

ثالثًا- الحرب بعد 4 سنوات
خلال العام الجاري، تصاعدت نبرة الخطابات السياسية والإعلامية الألمانية التي تؤكد كلها -من وجهة النظر الألمانية- أن روسيا سوف تبدأ حربًا على ألمانيا وأوروبا في غضون 4 سنوات بعد أن تستكمل موسكو بناء جيش يصل قوامه إلى نحو 3 ملايين جندي، وتصنيع آلاف القذائف وملايين الطائرات المسيرة، لكن الجديد الذي تتحدث عنه ألمانيا أن روسيا بدأت بالفعل الهجوم على ألمانيا عبر الطائرات المسيرة المجهولة الهوية، والهجمات السيبرانية على القواعد العسكرية الألمانية، وأنه ليس أمام ألمانيا سوى فترة بسيطة للاستعداد للحرب من خلال مزيد من الإنفاق العسكري، وتحسين وضع الجيش الألماني، وأن كل الأموال التي خصصها المستشار السابق أولاف شولتز للجيش، والتي تزيد على 108 مليارات دولار، لم تعد كافية لتقليل الفجوة مع الجيش الروسي. ويتحدث الجميع في ألمانيا عن الخطأ الذي وقعت فيه المستشارة السابقة أنغيلا ميركل عندما وثقت بالكرملين، وراهنت على أن العلاقات الاقتصادية ونقل التكنولوجيا الألمانية إلى روسيا من شأنهما أن يحسّنا العلاقة بين روسيا والأوروبيين، وأن على ألمانيا أن تستعد للحرب -بسرعة وبقوة- حتى لا يباغتها الكرملين بحرب سريعة أو خاطفة.

الواضح أن فجوة كبيرة باتت تفصل بين أوروبا وروسيا، رغم الآمال العريضة بأن تنجح مفاوضات إسطنبول في وقف الحرب الروسية الأوكرانية، وهو ما يسمح بتصحيح القناعات الخاطئة التي أوصلت العلاقات الأوروبية الروسية إلى هذا المستوى من الشكوك وعدم الثقة، وهو ما يقتضي أن يكون هناك حوار أوروبي روسي على غرار الحوار الأمريكي الروسي؛ لتجنب القناعات، والحسابات الخاطئة.

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع