وحدة الدراسات الصينية

أفول المركزية الغربية.. نهاية حتمية أم بداية عالم متعدد الأقطاب؟


  • 28 أبريل 2025

شارك الموضوع

هل لفظت فكرة “الغرب” أنفاسها الأخيرة بالفعل، كما توحي الخطابات الدولية المتداولة هذه الأيام؟ ربما تحتاج الإجابة إلى مزيد من المراقبة والتأمل، لكن المؤكد أن التطورات العالمية الأخيرة وضعت فكرة “المركزية الغربية” -وهي فكرة لطالما أثارت الجدل- تحت اختبار صارم، ولعل في ذلك ما يبشر بعالم أكثر توازنًا وشمولًا.

في وقت سابق من هذا العام، شكّل مؤتمر ميونخ للأمن لحظة فارقة؛ إذ حفزت موجة من الأسى الأوروبي وصفتها وسائل الإعلام بأنها “جنازة الغرب”، وذهبت بعض العناوين الصحفية إلى اعتبار خطاب الزعيم الأمريكي هناك بمنزلة “علامة على انهيار التحالف عبر الأطلسي”.

إن الشقاق التاريخي الآخذ في الاتساع بات واضحًا للعيان، سواء على صعيد المصالح العملية أو القيم. الفجوة بين أوروبا والولايات المتحدة أصبحت جلية، ولا يُتوقع رأبها بسهولة. والانفصال، بشكل من الأشكال، يبدو أمرًا حتميًّا. أوروبا -الطرف الأقل استقلالًا في التحالف الغربي- توصف اليوم بأنها أولى ضحايا أفول الغرب، بما يعني نهاية حقبة دامت ثمانين عامًا، هيمنت فيها الولايات المتحدة بوصفها قائدًا بلا منازع للمنظومة الغربية.

ومن منظور شرقي، لا مبرر للتشفي في تفتت الغرب، لكن أفول المركزية الغربية يُعد تطورًا إيجابيًّا في سياق بناء نظام عالمي أكثر عدالة. وقد تكون التحولات في العلاقات عبر الأطلسي معقدة التأثيرات عالميًّا، لكنها في نهاية المطاف تضعف مركزية الغرب، وهو أمر يحمل دلالات تاريخية تقدمية. فإذا كانت المنظومة الغربية التقليدية في طريقها إلى الزوال، فإن “المركزية الغربية” تسير -لا محالة- نحو المصير نفسه، وربما يكون ذلك إحدى النتائج غير المقصودة لسياسات “إعادة أمريكا عظيمة مجددًا”.

المركزية الغربية، بوصفها تيارًا فكريًّا حديثًا، لم تُصَغ كمصطلح إلا في القرن الماضي، لكنها تستند إلى حقيقة تاريخية مفادها أن أوروبا وأمريكا الشمالية كانتا أول من أنجز الثورة الصناعية، وتلا ذلك التوسع الرأسمالي العالمي. وعلى مدى قرون، بدأ ما يُعرف بالغرب الجغرافي في احتلال مركز النظام الاقتصادي العالمي، وأدى دورًا محوريًّا في نقل البشرية نحو الحضارة الصناعية والحداثة، وإن كان ذلك قد تمَّ تحت ظلال استعمارية دامية ومظلمة.

منذ القدم، درجت الحضارات والمجتمعات على تصور أنفسها مركزًا للعالم، انطلاقًا من تجربتها الخاصة، لكن تلك التصورات بقيت غالبًا محصورة في وعي اجتماعي داخلي، دون أن تتبلور إلى “مركزية” قائمة على تفوق مفترض. أما صعود الغرب -رغم قصره زمنيًّا- فقد أتاح لتلك الأيديولوجيا التي ستُعرف لاحقًا بـ”المركزية الغربية” أن تفرض خطابها المهيمن، باسم “التحضر الصناعي المتفوق”، وتفرض على العالم مقاييس تقيس بها التقدم والتخلف، والتحضر والتوحش.

لكن في السنوات الأخيرة، بدأ هذا المسار بالانعكاس بوضوح؛ ففي الفترة بين عامي 1750 و1900، قفزت حصة الغرب من الإنتاج الصناعي العالمي من أقل من الربع إلى أكثر من أربعة أخماس، لتُكرَّس بذلك مكانته بوصفه مركز الاقتصاد العالمي. أما اليوم، ووفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي لعام 2023، فقد بلغت حصة الاقتصادات الناشئة والنامية من الناتج العالمي 58.9%، أي بزيادة7.6%  عن عام 2008، وهو العام الذي تخطّت فيه -للمرة الأولى- اقتصادات الدول المتقدمة.

لقد فقد نموذج التحديث الغربي -الذي طالما رُوّج له بوصفه نموذجًا عالميًّا- بريقه، ولم يعد يملك الجاذبية أو الإقناع. وفي هذا السياق، تبدو السياسات الاقتصادية والتجارية للإدارة الأمريكية الحالية بمنزلة اعتراف صريح بفشل نموذج التنمية الأمريكي وأزمة الحوكمة، التي يُطلب من بقية العالم دفع ثمنها. وإذا كانت نهضة “الجنوب العالمي” تشير إلى تراجع الغرب عن مركز الاقتصاد العالمي، فإن انهيار “توافق واشنطن يؤذن بسقوط كامل للمركزية الغربية.

الانقسام الثنائي بين “الغرب” و”اللا- غرب” هو جوهر المركزية الغربية، إذ تضع هذه الرؤية الغرب في مرتبة عليا، وترى في بقية العالم مجرد “آخر” أدنى منزلة. وقد خدم هذا التصور طويلًا كأداة أيديولوجية لتبرير “غربنة” العالم، لكن هذه المركزية -كما أشار المفكر المصري وخبير الاقتصاد السياسي سمير أمين– قادت العالم إلى مأزق عميق، وعلى المجتمع الدولي مسؤولية جماعية لكسر أغلالها الذهنية والمعرفية.

التمسك بالمركزية الغربية في عالم متغير هو تصرف رجعي فلسفيًّا، وغير حكيم عمليًّا، وغير قابل للتطبيق واقعيًّا، ولا يعني ذلك ضرورة أن تُستبدَل بها “مركزية شرقية”، أو هيمنة جديدة؛ بل إن الاتجاه الصحيح يتمثل في الاندماج والتعايش الحضاري من خلال التبادل المتكافئ، والتعلم المتبادل، وهي عملية باتت لا يمكن وقفها.

إن خروج المركزية الغربية من المشهد التاريخي يجب أن يُنظر إليه على أنه فرصة لفتح آفاق جديدة أمام التقدم الإنساني، لكن هل سيتجه العالم فعلًا نحو منظومة تعدد الحضارات، وتعدد الأقطاب، وتعددية أطراف فاعلة مختلفة، كما يتوقع بعض المراقبين؟ يبقى هذا الأمر رهن التطورات، لكنه أمل يستحق الترقب.

المصدر: صحيفة الصين اليومية (China Daily) الصينية

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع