في خطوة مثيرة للجدل على الصعيدين الديني والسياسي، أقر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في 24 أغسطس (آب) 2024 قانونًا يحظر أنشطة المنظمات الدينية المرتبطة بروسيا، وهو القانون الذي يستهدف- على نحو أساسي- الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة تاريخيًّا لبطريركية موسكو. هذه الخطوة، التي تُمهد لحظر فعلي على الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية ما لم تقطع علاقاتها مع الكنيسة الروسية خلال فترة محددة، أثارت جدلًا واسعًا بين الأوساط السياسية والدينية في أوكرانيا وخارجها، مشيرة إلى تداعيات قد تكون بعيدة المدى على مستقبل أوكرانيا، والعالم السلافي بأسره.
من وجهة نظر الحكومة الأوكرانية، يأتي هذا القانون في إطار مساعي الدولة إلى تعزيز سيادتها وحماية استقلالها من النفوذ الروسي المتغلغل في بعض المؤسسات الدينية. ويرى زيلينسكي أن موسكو تستخدم الكنيسة أداةً لتحقيق أهدافها الجيوسياسية في أوكرانيا، حيث تعمل على “قمع استقلال الدول الأخرى، وتقييد حريات مواطنيها”، على حد قوله. من هنا، يعد القانون خطوة ضرورية لحماية “الاستقلال الروحي” لأوكرانيا، الذي يعد جزءًا لا يتجزأ من نضالها ضد النفوذ الروسي المستمر.
رغم تأكيدات الحكومة أن هذا القانون ضروري لحماية السيادة الوطنية، فإن كثيرًا من المحللين والخبراء يرون أن له تداعيات خطيرة على النسيج الاجتماعي الأوكراني؛ فالكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية، التي تُعد أكبر مؤسسة دينية في البلاد، لها تاريخ طويل مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وقطع هذه الروابط قسرًا يمكن أن يؤدي إلى انقسامات داخل المجتمع الأوكراني، لا سيما في المناطق الشرقية والجنوبية من البلاد، حيث لا يزال النفوذ الروسي قويًّا.
هذا الانقسام الديني يمكن أن يفاقم التوترات الاجتماعية، ويؤدي إلى مزيد من الاستقطاب بين المواطنين، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة التي تعيشها البلاد بسبب الحرب المستمرة، فالكثيرون يرون أن حظر الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المرتبطة بروسيا قد يؤدي إلى عمليات “تطهير” ضد الأشخاص أو الجماعات التي لا توافق على سياسات زيلينسكي؛ ما يزيد احتمالات وقوع احتجاجات أو اضطرابات داخلية.
تعد العلاقات بين الكنائس الأرثوذكسية في العالم السلافي معقدة جدًّا، وقد يؤدي هذا القانون إلى تعميق هذه التعقيدات. تعد الكنيسة الأرثوذكسية الروسية نفسها حامية للأرثوذكسية في العالم السلافي؛ ومن ثم فإن أي خطوة تهدف إلى تهميش أو تقليص نفوذها في أوكرانيا قد تُفسر على أنها هجوم مباشر على الهوية الأرثوذكسية السلافية بشكل عام.
من ناحية أخرى، فإن هذا القانون يمكن أن يُفهم على أنه محاولة من كييف لخلق كنيسة جديدة “موالية للدولة” تخضع للسلطة العلمانية، وهو ما قد يؤدي إلى تآكل الثقة بين مختلف الشعوب السلافية. في هذا السياق، يرى بعض المراقبين أن هذه الخطوة قد تُسهم في تفكيك الوحدة السلافية، وزيادة التوترات بين أوكرانيا وجيرانها السلاف.
لم يكن رد الفعل الدولي على هذا القانون أقل حدة؛ ففي روسيا، وصفته وزارة الخارجية بأنه “تدمير للأرثوذكسية الحقيقية من جذورها”، واتهمت كييف بمحاولة إنشاء “كنيسة زائفة” لتحل محل الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لموسكو. هذه الاتهامات تزيد تعقيد المشهد، وتسهم في تأجيج الصراع بين موسكو وكييف، الذي يمتد الآن ليشمل المجال الروحي والديني.
لكي نفهم البعد التاريخي لتفكك الكنائس الأرثوذكسية، وأثره في المجتمع، يجب أن ننظر إلى أمثلة سابقة في التاريخ. من أبرز الأحداث التي يمكن الإشارة إليها، الانشقاق الكبير بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية في عام 1054، المعروف أيضًا بالانشقاق العظيم (Great Schism). هذا الانشقاق قسّم العالم المسيحي إلى كنائس غربية (كاثوليكية)، وشرقية (أرثوذكسية)، وكان له تداعيات دينية وسياسية طويلة الأمد.
في عام 1054، حدث الانشقاق العظيم نتيجة خلافات دينية وسياسية بين الكنيسة في روما والكنيسة في القسطنطينية (إسطنبول الحالية). أحد الأسباب الرئيسة لهذا الانشقاق كان الصراع بشأن مفهوم السلطة البابوية، حيث رفضت الكنيسة الشرقية الاعتراف بسلطة البابا على الكنائس الشرقية. هذا الانشقاق أدى إلى انقسام المسيحية إلى كنيستين رئيستن، هما: الكاثوليكية في الغرب، والأرثوذكسية في الشرق.
أثر هذا الانشقاق لم يكن دينيًّا فحسب؛ بل كانت له تأثيرات سياسية أيضًا. على سبيل المثال، أدى الانشقاق إلى تباعد ثقافي وسياسي بين أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية والبلقان، وقد انعكس هذا التباعد في السياسات الخارجية للدول، وفي بناء الهويات الوطنية. كان الانشقاق الكبير بداية لكثير من الصراعات الدينية والحروب التي استمرت قرونًا، مثل الحروب الصليبية.
الكنيسة الأرثوذكسية، سواء أكانت تحت قيادة موسكو أو غيرها، اضطلعت دائمًا بدور رئيس في تشكيل الهويات الثقافية والوطنية للشعوب السلافية. في روسيا وأوكرانيا ودول البلقان، كانت الكنيسة الأرثوذكسية دائمًا متجذرة بعمق في الثقافة والسياسة، وتعدّها الشعوب رمزًا للهوية القومية والدينية.
الكنائس الأرثوذكسية تتميز بتنظيمها الهرمي، حيث تكون لكل كنيسة محلية (مثل الكنيسة الروسية، واليونانية، والصربية، وغيرها) إدارة مستقلة، لكنها تظل متصلة بعضها ببعض من خلال المجامع الأرثوذكسية العامة. القيادة الروحية العليا للكنائس الأرثوذكسية تتجمع في مجامع عالمية، حيث يناقشون القضايا اللاهوتية والتحديات التي تواجه الكنيسة.
في السنوات الأخيرة، شهدنا تصاعدًا في التوترات بين الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية وكنيسة موسكو، خاصة بعد إنشاء الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المستقلة عام 2018. هذه الخطوة جاءت بدعم من الحكومة الأوكرانية، وبمباركة من بطريرك القسطنطينية برثلماوس الأول، وهو ما أثار غضب الكنيسة الأرثوذكسية الروسية التي رأت في هذه الخطوة محاولة لتقويض سلطتها الدينية في أوكرانيا.
هذه الأحداث زادت تعقيد العلاقات بين الكنائس الأرثوذكسية، حيث أصبحت الانقسامات أكثر وضوحًا، وقد يؤدي القانون الجديد الذي أقره زيلينسكي إلى تفاقم هذه التوترات. يمكننا مقارنة هذه الأحداث بما حدث في البلقان خلال التسعينيات، حيث أدت التوترات الدينية والعرقية إلى حروب دامية، وتفكك يوغوسلافيا.
لطالما استُخدمت الكنائس الأرثوذكسية أدوات في الصراعات السياسية، سواء في عهد الإمبراطوريات القديمة، أو في العصور الحديثة. في روسيا، كانت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية دائمًا متحالفة مع الدولة، حيث عملت على تعزيز الهوية الوطنية الروسية، وشرعنة السلطة السياسية.
في أوكرانيا، تحاول الحكومة استخدام الدين وسيلةً لتعزيز الاستقلال عن روسيا. لكن هذه السياسة قد تأتي بنتائج عكسية، حيث يمكن أن تؤدي إلى تفكيك الكنيسة الأوكرانية، وإثارة التوترات الدينية والاجتماعية في البلاد. كما أن ذلك قد يزيد التوترات بين أوكرانيا والدول السلافية الأخرى التي تشترك في التراث الأرثوذكسي.
إن توقيع الرئيس زيلينسكي على قانون حظر الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المرتبطة بروسيا يمثل خطوة ذات أبعاد سياسية ودينية عميقة، ستؤثر- بلا شك- في مستقبل أوكرانيا والعالم السلافي بأسره. إن تحليل هذا القرار في سياق التطورات التاريخية للعلاقات بين الكنائس الأرثوذكسية يشير إلى أن تداعياته ستكون بعيدة المدى، وربما تفوق التوقعات الحالية.
على المدى القريب، سيعزز هذا القانون التوترات الاجتماعية داخل أوكرانيا، خاصة في المناطق التي لا تزال ترتبط ثقافيًّا وروحيًّا بروسيا، وقد يؤدي هذا إلى تفاقم الانقسامات الداخلية، وربما يتسبب في حدوث اضطرابات اجتماعية قد تهدد الاستقرار الداخلي. من ناحية أخرى، ستسهم هذه الخطوة في تعزيز الشعور بالاستقلال الوطني لدى بعض شرائح المجتمع الأوكراني، لكنها ستظل مرتبطة بتداعيات سلبية على وحدة الكنيسة الأرثوذكسية في البلاد.
على المستوى الإقليمي، يمثل هذا القانون تهديدًا حقيقيًّا للوحدة السلافية التي تقوم على أساس مشترك من الإيمان الأرثوذكسي. تاريخيًّا، كانت الكنائس الأرثوذكسية أداة للتواصل الثقافي والروحي بين الشعوب السلافية، وتفكك هذه الروابط سيؤدي إلى تعميق الفجوة بين أوكرانيا وجيرانها السلافيين، لا سيما روسيا وبلدان البلقان. هذه الفجوة قد تفتح المجال أمام صراعات جديدة على النفوذ الديني والسياسي في المنطقة، مما قد يؤدي إلى تصاعد النزاعات بين الدول السلافية.
على المدى الطويل، يمكن أن تكون تداعيات هذا القانون أكثر خطورة. قد يؤدي تراجع نفوذ الكنيسة الأرثوذكسية المرتبطة بموسكو في أوكرانيا إلى إعادة تشكيل الديناميكيات الجيوسياسية في المنطقة، حيث قد تحاول قوى خارجية استغلال هذه الانقسامات لتحقيق مصالحها الخاصة. بالإضافة إلى ذلك، قد يصبح هذا القانون نموذجًا لدول أخرى في المنطقة التي تعاني مشكلات مشابهة، مما يسهم في إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والدين في العالم السلافي.
في النهاية، يمكن القول إن هذا القانون، مع أنه يمثل خطوة قوية نحو تأكيد استقلال أوكرانيا، فإنه يحمل في طياته خطرًا كبيرًا يهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي في أوكرانيا، والعالم السلافي. إن المراقبة الحذرة للتطورات اللاحقة ستكون ضرورية لفهم التأثيرات الكاملة لهذا القرار على المدى الطويل.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.