رغم تعدد الخيارات المختلفة لنهاية الحرب في أوكرانيا، فإن الخبراء في الولايات المتحدة يختارون- على الأرجح- السيناريوهات الخاطئة دومًا. على سبيل المثال، نشرت مؤسسة راند (RAND) في فبراير (شباط) 2024، تقريرًا تحليليًّا مثيرًا للاهتمام بعنوان “التخطيط لما بعد الحرب.. تقييم خيارات إستراتيجية الولايات المتحدة تجاه روسيا بعد حرب أوكرانيا”، من إعداد مركز تحليل الإستراتيجية الكبرى الأمريكي التابع للمؤسسة المذكورة، يعرض أربعة سيناريوهات لما بعد الحرب في أوكرانيا.
السيناريو الأول يسمى “عدم الاستقرار على نطاق عريض”، وهو يتصور عقدًا من عدم الاستقرار بعد الحرب على كثير من المستويات، في أوكرانيا، وبين روسيا وحلف شمال الأطلسي في أوروبا، وعلى المستوى الإستراتيجي بين الولايات المتحدة ومنافسيها النوويين الرئيسين، روسيا والصين.
ومن المثير للاهتمام أنه في هذا السيناريو يأخذ المؤلفون بعين الاعتبار ما يحدث بالفعل الآن- صناعة الدفاع الروسية تتكثف؛ تساعد الصين موسكو (وإن لم يكن على نطاق عريض كما نود)، رغم كون حلف شمال الأطلسي قويًّا، لكن بعض أعضائه ينظرون إلى الولايات المتحدة باعتبارها دولة مُحرضة (وهي كذلك بالفعل)، كما أن السيطرة على الأسلحة غير موجودة، وهو ما يغذي سباق التسلح. يعترف المؤلفون أيضًا بأن تقديم مزيد من المساعدة للقوات المسلحة الأوكرانية يزيد احتمالية توجيه ضربات وقائية من روسيا (لقد أعلنت روسيا بالفعل أن أي معدات جديدة ستصبح أهدافًا مشروعة)، تشجع الحرب نظام زيلينسكي على عسكرة السلطة، وتقويض الديمقراطية (وهذا ما يحدث في السنوات الأخيرة). يشير التقرير أيضًا إلى أن زيادة التعاون الأمني الأمريكي مع دول أخرى خارج الاتحاد السوفيتي السابق تؤدي إلى منافسة أكبر مع روسيا في المنطقة.
السيناريو الثاني يسمى “عدم الاستقرار المحلي”. على المستوى العالمي، يبدو الوضع أفضل لجميع الأطراف، ولكن خطر تجدد الصراع في أوكرانيا لا يزال مرتفعًا. ورد في هذا السيناريو أيضًا:
في هذه الحالة، تتخذ واشنطن نهجا أقل قسوة تجاه روسيا؛ لأن المساعدة السابقة لأوكرانيا لم تؤدِ إلى أي شيء. وتأمل الولايات المتحدة تحقيق استقرار في العلاقات، وتحويل انتباهها إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وبما أن روسيا ترى انخفاضًا في التهديد من الغرب، فإنها تقلل الاستثمار في الأسلحة الإستراتيجية، وتتحول إلى الاستعداد لحرب جديدة في أوكرانيا.
مما يذكر هنا أن عددًا من حلفاء الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي، وخاصة ألمانيا، مهتمون بتطور هذا السيناريو. إن اتخاذ موقف أقل تشددًا تجاه روسيا سيتطلب أيضًا موارد أمريكية أقل في أوروبا؛ مما يحرر الموارد والقوة لتتجه نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
تريد واشنطن العودة إلى اتفاقيات الحد من الأسلحة، ولا تدعم اندماج أوكرانيا على نحو أعمق في حلف شمال الأطلسي، وتمتنع عن استفزاز روسيا في الدول السوفيتية السابقة الأخرى غير الأعضاء في حلف شمال الأطلسي. ومن الملاحظ أن هذه السياسة الأقل صرامة لا تقوض قدرات الردع القوية بالفعل لدى حلف شمال الأطلسي. تظهر هذه القدرات- بوضوح- في كون روسيا لم تهاجم الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي خلال الحرب، على الرغم من دعم الحلفاء غير المسبوق لأوكرانيا؛ ولذلك، فإن هذا النهج سيكون عقلانيًّا للغرب.
ومع أن الولايات المتحدة تواصل دعم كييف، فإن مشكلة العسكرة وتقويض الديمقراطية، فضلًا عن الاقتصاد، لا تزال قائمة في أوكرانيا.
السيناريو الثالث يسمى “الحرب الباردة الثانية”. هنا تعمل التوترات الإستراتيجية والإقليمية على خلق أجواء جديدة أشبه بالحرب الباردة، مع تراجع للتوترات على طول خط التماس في أوكرانيا، وتعافي اقتصادها، وتعزيز مؤسساتها الديمقراطية. ومع شعورها بالتهديد من موقف القوة الأمريكية الحازم في أوروبا، تعتمد روسيا الضعيفة بشكل أكبر على الإشارات النووية، وتكتيكات المنطقة الرمادية لحماية مصالحها، وتخوض الولايات المتحدة سباق تسلح نووي مع كل من روسيا والصين.
في هذه الحالة، يحتاج الغرب إلى نتيجة إيجابية للحرب، ولا تنتهج الولايات المتحدة سياسة صارمة فحسب؛ بل تخطط أيضًا لانتهاز أول فرصة لضرب روسيا، وقد يحدث هذا بسبب ضعف روسي داخلي. ومع ذلك، فإن هذا لا يحدث، ولا توجد دلائل على أن صناعة الدفاع الروسية، أو الاقتصاد الروسي سوف ينهار؛ بل على العكس من ذلك، تشير جميع المؤشرات، حتى الصادرة عن المؤسسات الليبرالية الغربية، إلى زيادة في الناتج المحلي الإجمالي في روسيا.
بشكل عام، يزيد هذا السيناريو خطر نشوب صراع نووي مقارنة بالخيارات الأخرى، مع تصاعد التوترات السياسية أيضًا بسبب دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا، وجذب دول ما بعد الاتحاد السوفيتي الأخرى إلى مدار نفوذها، في حين تسعى روسيا إلى مواجهة النفوذ الأمريكي في المنطقة؛ مما يؤدي إلى زيادة خطر الصراع في هذه البلدان، مع أن خطر تجدد الصراع على طول خط التماس في أوكرانيا أقل مما هو عليه في الخيارين الأول والثاني؛ بسبب ضبط النفس من كلا الجانبين.
إن التزام أوكرانيا بوقف إطلاق النار، والتركيز على إعادة البناء والإصلاح، يؤديان إلى دعم الاتحاد الأوروبي، وعودة اللاجئين، وزيادة الاستثمار الخاص لدعم اقتصاد البلاد، في حين تتراجع طموحات كييف في شن هجوم مضاد، وتركز على استعادة الديمقراطية، مع أن المؤلفين يعترفون بأن سياسة الولايات المتحدة المتمثلة في دعم أوكرانيا، والاندماج مع حلف شمال الأطلسي، قد تدفع روسيا إلى شن هجوم وقائي.
السيناريو الرابع هو “العالم البارد”، وهنا يتحدد المستقبل باستقرار أكبر- إستراتيجيًّا وإقليميًّا ومحليًّا- مقارنة بغيره. التوترات النووية بين الولايات المتحدة وروسيا والصين أقل مما كانت عليه في العقود الآجلة الأخرى، في حين تصبح العلاقات بين حلف شمال الأطلسي وروسيا أكثر توترًا مما كانت عليه قبل الحرب، لكنها أقل احتمالًا من أن تؤدي إلى صراع مباشر مقارنة بالسيناريوهات الأخرى.
إن وقف إطلاق النار في أوكرانيا قائم، ومن المرجح أن يستمر إلى أجل غير مسمى مقارنة بالسيناريوهات الثلاثة الأخرى؛ وهنا تتكامل أوكرانيا مع الاتحاد الأوروبي، وتعمل على تعزيز ديمقراطيتها، وإنشاء آلية مستقلة قوية لاحتواء روسيا.
في هذا السيناريو، تكون نتيجة الحرب أيضًا مواتية للولايات المتحدة، وتتخذ نهجًا أقل قسوة لتقليل التوترات السياسية والعسكرية في أوروبا. الولايات المتحدة مستعدة للتفاوض بشأن الصراعات التي تؤدي إلى وقف التصعيد، في حين ستظل الولايات المتحدة وروسيا متنافستين، ولا تثق كل منهما بالأخرى أكثر مما كان عليه الوضع قبل الحرب. ومع ذلك، فإن خطر الصراع بين الناتو وروسيا أقل من أي سيناريو آخر. ورغم استمرار المنافسة الجديدة على الأسلحة الإستراتيجية مع الصين، فإن الموقف النووي الأمريكي الأكثر تحفظًا لا يصب الزيت على النار.
يؤدي هذا السيناريو إلى تجزئة أقل للاقتصاد العالمي، وتصبح الاقتصادات الأوروبية أقوى نسبيًّا. ونتيجة لذلك، فإن الجغرافيا السياسية في هذا السيناريو لا تؤثر في الاقتصاد الأمريكي بقدر ما تؤثر في السيناريوهات الأخرى.
تركز أوكرانيا على التنمية الاقتصادية، والتكامل مع الاتحاد الأوروبي وهي في موقف دفاعي. لا يزال الجانبان بعيدين عن التوصل إلى تسوية سلمية، لكنهما يحرزان تقدمًا في قضايا أصغر، مثل تبادل الأسرى، وحرية التنقل للمدنيين عبر خطوط الصراع. ولأن حكومة أوكرانيا تركز على الإصلاح، ولأن خطر الحرب منخفض، فإن أداء اقتصادها يتوقع أن يتحسن قليلًا في المستقبل.
من الواضح أن السيناريوهات الأربعة جميعها مكتوبة من وجهة نظر المصالح الأمريكية، ولا تعني ضمنًا الوصول إلى النهايات المنطقية. وبما أن روسيا لديها موقفها الخاص بشأن أوكرانيا، ففي جميع الخيارات الأربعة المتاحة للولايات المتحدة هناك احتمال ظهور إما بجعة سوداء وإما وحيد القرن الرمادي- أي حدوث متغيرات جديدة غير متوقعة، تقلب الطاولة على الجميع. السؤال: لماذا لم يطرح الإستراتيجيون الأمريكيون هذ الاحتمال؟ ببساطة، لم يأخذوا هذا الاحتمال بعين الاعتبار، أو تجاهلوه عن عمد، وهو السيناريو الأرجح في المستقبل.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.