تقع أذربيجان في منطقة القوقاز في آسيا. ورغم بعدها الجغرافي عن قلب الشرق الأوسط، فإنها طورت علاقات معقدة ومتعددة الأبعاد مع دول المنطقة، مدفوعة بعوامل اقتصادية وإستراتيجية وثقافية. منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي عام 1991، سعت أذربيجان إلى تعزيز مكانتها كلاعب إقليمي، مستفيدة من مواردها الطبيعية، خاصة النفط والغاز، وموقعها الجيوسياسي. تاريخيًّا، كانت أذربيجان جزءًا من إمبراطوريات إسلامية، مثل الدولة الأموية والعباسية، مما جعلها متصلة ثقافيًّا ودينيًّا بالشرق الأوسط. بعد دخول قبائل الأوغوز التركية إلى المنطقة في القرن الحادي عشر، بدأت الهوية الأذرية تأخذ شكلها الحديث، متأثرة باللغة التركية، والمذهب الشيعي الذي تبنته الدولة الصفوية. خلال العصر الحديث، وبعد سيطرة الإمبراطورية الروسية على القوقاز في القرن التاسع عشر، أصبحت أذربيجان جزءًا من الاتحاد السوفيتي، مما قلل تأثيرها المباشر في الشرق الأوسط. ومع ذلك، بعد الاستقلال، بدأت أذربيجان بإعادة صياغة علاقاتها مع دول المنطقة، مستفيدة من مواردها الطبيعية وموقعها الإستراتيجي.
عندما اندلعت الأزمة السورية عام 2011، اتخذت أذربيجان موقفًا حياديًّا في البداية، وهو موقف يتماشى مع سياستها الخارجية البراغماتية. بوصفها دولة مستقلة حديثًا عن الاتحاد السوفيتي، كانت باكو تركز على تعزيز اقتصادها واستقرارها الداخلي، مع الحفاظ على علاقات متوازنة مع القوى الإقليمية والدولية. في المراحل الأولى من الصراع السوري، تجنبت أذربيجان الانحياز إلى أي طرف، سواء نظام بشار الأسد أو المعارضة، أو حتى الدول الداعمة لكل طرف، مثل روسيا وإيران من جهة، أو تركيا والدول الغربية من جهة أخرى.
هذا الحياد كان مدفوعًا بعدة عوامل؛ أولًا: أذربيجان كانت منشغلة بصراعها الخاص مع أرمينيا بشأن إقليم ناغورنو كاراباخ؛ مما جعلها تفضل تجنب التورط في نزاعات إقليمية أخرى. ثانيًا: كانت باكو تسعى إلى الحفاظ على علاقاتها مع روسيا وإيران، اللتين دعمتا أرمينيا في صراع كاراباخ، في حين كانت تربطها علاقات وثيقة مع تركيا، الداعمة الرئيسة للمعارضة السورية. هذا التوازن الدقيق جعل أذربيجان تتبنى سياسة عدم التدخل في الشأن السوري خلال العقد الأول من الأزمة.
ومع ذلك، لم يكن الحياد يعني غياب الاهتمام؛ فأذربيجان، بوصفها عضو في منظمة التعاون الإسلامي، تابعت الأزمة السورية من كثب، خاصة ما يتعلق بالبعد الإنساني. قدمت باكو مساعدات إنسانية متواضعة للاجئين السوريين عن طريق منظمات دولية، لكنها تجنبت أي انخراط سياسي أو عسكري مباشر. هذا الموقف الحذر بدأ يتغير تدريجيًّا مع تحولات السياق الإقليمي، خاصة بعد حرب ناغورنو كاراباخ الثانية عام 2020، التي عززت ثقة أذربيجان بنفسها بوصفها قوة إقليمية.
كانت حرب ناغورنو كاراباخ الثانية عام 2020 نقطة تحول في السياسة الخارجية الأذرية. انتصار أذربيجان في هذه الحرب، بدعم عسكري وسياسي كبير من تركيا، عزز مكانتها بوصفها قوة إقليمية قادرة على التأثير خارج حدودها. هذا الانتصار، إلى جانب تعزيز العلاقات مع تركيا وإسرائيل، منح أذربيجان الثقة والموارد اللازمة لتوسيع دورها في القضايا الإقليمية، ومنها الأزمة السورية.
تركيا، الحليف الأقرب لأذربيجان، كانت لاعبًا رئيسًا في الصراع السوري، حيث دعمت فصائل المعارضة، وأطلقت عمليات عسكرية، مثل “درع الفرات”، و”غصن الزيتون”؛ لتأمين مصالحها في شمال سوريا. نجاح أذربيجان في كاراباخ، الذي تضمن استخدام أسلحة إسرائيلية متطورة، مثل الطائرات المسيرة، عزز التعاون العسكري والإستراتيجي بين باكو وأنقرة. هذا التعاون شكل أساسًا لدخول أذربيجان في الملف السوري، حيث بدأت تستفيد من خبرتها العسكرية والدبلوماسية لدعم الجهود التركية في سوريا.
في السياق السوري، بدأت أذربيجان باستغلال خبرتها في قطاع الطاقة لدعم جهود إعادة الإعمار في سوريا بعد سقوط نظام الأسد عام 2024. الحكومة الانتقالية السورية، بقيادة أحمد الشرع، واجهت تحديات كبيرة في إعادة بناء البنية التحتية للطاقة التي دمرتها الحرب. أذربيجان، بفضل خبرتها في إدارة مشروعات الطاقة، قدمت استشارات فنية ودعمًا لوجستيًّا لتطوير البنية التحتية السورية. على سبيل المثال، في يناير (كانون الثاني) 2025، وقّعت أذربيجان اتفاقية مع الحكومة السورية الانتقالية لتقديم خبرات في إعادة تأهيل محطات الطاقة، مما عزز نفوذها في سوريا.
التحول الأبرز في دور أذربيجان في الملف السوري جاء بعد سقوط نظام الأسد عام 2024، عندما بدأت باكو تضطلع بدور الوسيط بين الأطراف الإقليمية المتنافسة. هذا الدور كان مدفوعًا بعدة عوامل؛ أولًا: علاقات أذربيجان الوثيقة مع تركيا، التي أصبحت القوة المهيمنة في شمال سوريا بعد انهيار النظام. ثانيًا: شراكتها الإستراتيجية مع إسرائيل، التي كانت تسعى إلى ضمان أمن حدودها الشمالية مع سوريا. ثالثًا: محاولاتها تحسين العلاقات مع إيران، التي كانت لاعبًا رئيسًا في سوريا قبل سقوط الأسد.
في يوليو (تموز) 2025، استضافت باكو لقاءً دبلوماسيًّا جمع مسؤولين من الحكومة السورية الانتقالية وممثلين إسرائيليين، في خطوة غير مسبوقة تهدف إلى تهدئة التوترات بين إسرائيل وفصائل المعارضة السورية. هذا اللقاء، الذي ركز على قضايا الأمن الحدودي وإعادة الإعمار، عزز مكانة أذربيجان بوصفها وسيطًا محايدًا قادرًا على ربط الأطراف المتنافسة. باكو استفادت من تجربتها السابقة كوسيط بين تركيا وإسرائيل في الفترة بين عامي 2008 و2018، عندما حاول الرئيس إلهام علييف تسهيل الحوار بين أنقرة وتل أبيب.
دور أذربيجان كوسيط لم يقتصر على الجانب السياسي، بل امتد إلى المجال الإنساني. في أواخر 2024، أطلقت أذربيجان مبادرة لدعم عودة اللاجئين السوريين إلى مناطقهم، بالتعاون مع تركيا والأمم المتحدة. هذه المبادرة تضمنت تمويل مشروعات إعادة إعمار المدارس والمستشفيات في شمال سوريا، مما عزز صورة أذربيجان بوصفها دولة داعمة للاستقرار الإقليمي.
التحالف مع تركيا وإسرائيل كان العامل الأساسي في تمكين أذربيجان من أداء دور في الملف السوري. تركيا، التي تسيطر على مناطق واسعة في شمال سوريا، اعتمدت على أذربيجان شريكًا موثوقًا به في دعم جهودها السياسية والعسكرية. على سبيل المثال، قدمت أذربيجان دعمًا لوجستيًّا للعمليات التركية في إدلب، بما في ذلك تزويد القوات التركية بالوقود والمعدات. في الوقت نفسه، عززت العلاقات مع إسرائيل قدرة أذربيجان على التأثير في القضايا الأمنية المتعلقة بسوريا، خاصة ما يتعلق بمنع انتقال الأسلحة إلى جماعات مثل حزب الله.
هذه التحالفات مكنت أذربيجان من التغلب على قيود بعدها الجغرافي عن الشرق الأوسط. من خلال التنسيق مع تركيا وإسرائيل، تمكنت باكو من أداء دور يتجاوز حجمها الجغرافي والسكاني، مستفيدة من شبكة علاقاتها لتعزيز نفوذها في سوريا. ورغم نجاحاتها، واجهت أذربيجان تحديات في أداء دورها في الملف السوري، خاصة بسبب توتراتها مع إيران. إيران، التي كانت داعمًا رئيسًا لنظام الأسد، رأت في تدخل أذربيجان تهديدًا لنفوذها في سوريا. العلاقات المتوترة بين باكو وطهران، التي تفاقمت بسبب الشراكة الأذرية مع إسرائيل، جعلت إيران تنظر بحذر إلى أي تحرك أذري في سوريا. في مايو (أيار) 2025، أعربت إيران عن استيائها من استضافة أذربيجان للقاءات بين السوريين والإسرائيليين، معتبرة ذلك محاولة لتقويض نفوذها في المنطقة.
تحولت أذربيجان في غضون سنوات قليلة من دولة محايدة إلى وسيط دبلوماسي في الملف السوري، مستفيدة من مواردها الطبيعية، وتحالفاتها الإستراتيجية، وخبرتها الدبلوماسية. انتصارها في حرب كاراباخ الثانية، وعلاقاتها الوثيقة مع تركيا وإسرائيل، ودورها في دعم إعادة الإعمار في سوريا، جعلتها قوة لا يمكن تجاهلها في الشرق الأوسط. رغم التحديات، مثل التوترات مع إيران، تمكنت أذربيجان من استغلال موقعها الجيوسياسي ومواردها لتعزيز نفوذها في المنطقة. مع استمرار التحولات في سوريا والشرق الأوسط، من المتوقع أن يستمر دور أذربيجان في التوسع، مما يعكس طموحها لتكون لاعبًا إقليميًّا مؤثرًا.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.