القضايا الاقتصاديةوحدة الدراسات الصينية

آسيان والصين في مواجهة العواصف التجارية الجديدة


  • 29 أبريل 2025

شارك الموضوع

أتاحت العولمة لدول العالم الاستفادة من شبكات التجارة الواسعة والتكامل الاقتصادي المتبادل، لكن السنوات الأخيرة شهدت عودة صامتة لسياسات الحماية التجارية، في تحول يهدد بإعادة تشكيل النظام التجاري العالمي. تقود الولايات المتحدة هذا التوجه، من خلال سلسلة متزايدة من التدخلات والسياسات التمييزية تحت ذريعة “حماية الأسواق المحلية”، فيما يُنظر إليها عالميًّا على أنها ضرب من الحمائية المقيّدة لتدفق التجارة الحرة.

أحد أبرز التطورات في هذا السياق جاء مطلع أبريل (نيسان)، عندما أعلنت الإدارة الأمريكية تطبيق ما سمّته “رسوم جمركية متبادلة”. وبينما سُوِّقَ القرار بوصفه دفاعًا عن الصناعة الأمريكية، وتقليصًا للعجز التجاري، فإنه في الواقع تسبب في اضطرابات واسعة في الأسواق العالمية، وألحق الضرر بالولايات المتحدة وشركائها التجاريين على حد سواء.

كانت اقتصادات جنوب شرق آسيا من بين الأكثر تضررًا من هذه الرسوم العقابية، لا سيما بالنظر إلى طبيعة اقتصاداتها المعتمدة على التصدير، واعتماد بعض قطاعاتها الحيوية اعتمادًا كبيرًا على السوق الأمريكية. وبينما منحت فترة التجميد المؤقت للرسوم، التي استثنت الصين، فسحة قصيرة للتنفس، فإن حالة عدم اليقين السائدة تهدد بنسف عقود من مبادئ التجارة الحرة.

في هذا المناخ المضطرب، تجد دول جنوب شرق آسيا نفسها مضطرة إلى تبني إستراتيجيات تجارية بديلة، تسعى من خلالها إلى تقليص المخاطر، وبناء حصانة اقتصادية ضد الصدمات. وهنا تبرز إستراتيجية تنويع الشراكات -سواء من خلال استكشاف شركاء جدد، أو تعميق العلاقات القائمة- لا بوصفها حائط صد فحسب؛ بل بوصفها أيضًا بوابة نحو فرص جديدة ومستقبل أكثر مرونة.

أما فيما يتعلق برابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN)، فتبرز عدة قوى بديلة على الساحة العالمية، من روسيا إلى تجمعات ناشئة مثل “بريكس”، وصولًا إلى آسيا الوسطى التي لا تزال غير مستغلة الاستغلال الكافي، لكن تبقى الصين هي الشريك الطبيعي الأبرز؛ بفضل القرب الجغرافي، والعلاقات الاقتصادية الراسخة، والتشابك المتزايد في المصالح.

فمن خلال أطر تعاون، مثل “الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة”، ومبادرة “الحزام والطريق”، نسجت الصين وآسيان شبكة متكاملة من المنافع الاقتصادية المتبادلة. وللعام الخامس على التوالي، تُعد كل من الصين وآسيان الشريك التجاري الأكبر للآخر، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين الجانبين عام 2024 نحو982.34  مليار دولار، مسجلًا نموًّا سنويًّا بنسبة 7.8%.

وبما أن أسس التعاون الاقتصادي بين آسيان والصين متينة بالفعل، فإن السؤال الآن هو: ما الخطوة التالية؟ أحد السبل الواعدة يتمثل في تعميق التعاون في الاقتصاد الرقمي، إذ تُعد آسيان السوق الأسرع نموًا في الإنترنت عالميًّا، وتطمح إلى مضاعفة حجم اقتصادها الرقمي ليصل إلى نحو  ترليوني دولار بحلول 2030، من خلال “اتفاقية إطار الاقتصاد الرقمي لآسيان”، المقرر إتمامها بنهاية هذا العام.

وفي ظل رئاسة ماليزيا للآسيان لعام 2025، أكّد رئيس وزرائها، أنور إبراهيم، الحاجة إلى توسيع نطاق التعاون الرقمي؛ وهنا تبرز مزايا الصين التكنولوجية -في الذكاء الاصطناعي، وحلول التجارة الإلكترونية، وسلاسل الإمداد الصناعية- بوصفها رافعة محتملة لبناء البنية التحتية الرقمية الناعمة والصلبة لآسيان.

ومن خلال مواءمة الإستراتيجيات الصينية، مثل “طريق الحرير الرقمي”، مع اتفاقيات آسيان الرقمية، يمكن للطرفين تعظيم استفادتهما من هذا التعاون، لا سيما في مجالات التجارة الإلكترونية العابرة للحدود، والاستثمار في البنية التحتية المتقدمة، والمعاملات الرقمية السلسة، بما يتجاوز التجارة التقليدية في السلع.

لكن بناء المرونة الاقتصادية وحده لا يكفي، فالقوة الناعمة والدبلوماسية الثقافية تظل أدوات محورية في ردم الفجوات العالمية، وهنا تملك كل من آسيان والصين فرصة تاريخية للقيام بدور قادة الحوار العالمي، من خلال إنشاء منصات شاملة للتفاهم والتقارب.

لماذا آسيان والصين تحديدًا؟ لأن الصين أظهرت نهجًا ناضجًا في إدارة القضايا الحساسة، من خلال ضبط النفس والردود المدروسة، دون الانجرار إلى التصعيد. أما آسيان، فبحكمتها الثقافية الغنية، والتزامها بمبدأ التوافق والحياد، تشكل مع الصين جبهة قادرة على إعادة إحياء “روح التعددية العالمية الآخذة في الخفوت”.

مع ذلك، تبقى التحديات قائمة؛ فعلى الصعيد الاقتصادي، تعتري بعض دول آسيان، خاصةً في القطاع الصناعي، مخاوف من تدفق السلع الصينية المنخفضة التكلفة بديلًا للمنتجات الأمريكية التي طالها التصعيد الجمركي؛ ما قد يؤثر سلبًا في الأسواق المحلية، رغم استفادة المستهلكين من خيارات أوسع.

وعلى الصعيد الداخلي، تحتاج آسيان نفسها إلى مراجعة بنيتها التشغيلية؛ فبينما تُثنى الرابطة على حيادها، وتمسكها بمبدأ “المركزية”، تطرح الأزمات الأخيرة تساؤلات جادة: هل تمتلك آسيان فعليًّا آليات كافية للعمل ككتلة متماسكة في مواجهة أزمات كبرى مثل حرب الرسوم؟

ربما تمثل هذه اللحظة حافزًا لصياغة تكامل آسياني أعمق، وتفعيل قوتها الجماعية بمزيد من الحسم. غير أن تحقيق ذلك يواجه معوقات: من تضارب المصالح الوطنية، وتفاوت مستويات التنمية، إلى بطء الإجراءات التنظيمية، لكن هذا التحدي يُمثل أيضًا فرصة للقيادة. ومع رئاستها الحالية، تبدو ماليزيا مؤهلة لتوحيد الصف، وضبط الأولويات الإستراتيجية، ودفع آسيان نحو تكامل أفقي ورأسي أكثر فاعلية.

ورغم الطفرة المتوقعة في العلاقات مع الصين، تبقى الشراكات التقليدية لآسيان مع الدول الغربية، كالولايات المتحدة، وأستراليا، والاتحاد الأوروبي، ركيزة أساسية في هندسة المشهدين الاقتصادي والدبلوماسي للمنطقة؛ ومن ثم، فلا حاجة لآسيان أن تختار جانبًا على حساب الآخر.

المصدر: صحيفة الصين اليومية (China Daily) الصينية

ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع