عندما تُعقد القمة المُقترحة بين الرئيس الأمريكي جو بايدن ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، فستجذب انتباه وسائل الإعلام العالمية وتُعطي كلا الرجلين دفعة في اتجاه العلاقات العامة. لكنها لن تُغير شيئًا بشكل جذري.
مرت مؤخرًا العلاقات الروسية الأمريكية ببعض المنحنيات المثيرة للاهتمام، مما ترك العديد من المعلقين في حيرة من أمرهم. تحذيرات صارمة وتهديدات بمواجهة عسكرية، والإعلان عن خطط لنشر البحرية الأمريكية في البحر الأسود (ألغيت لاحقًا). في ظل هذه الأجواء، فجأة اتصل الرئيس جو بايدن بنظيره الروسي فلاديمير بوتين واقترح عقد قمة وجهًا لوجه، تلت ذلك جولة جديدة من العقوبات. ثم بعدها، جاء الأمر التنفيذي لبايدن الذي ركز على “التهديد” الروسي المتزايد، ثم دعوة أخرى للحديث في خطاب اعتبرته واشنطن بادرة مصالحة.
كل هذه الأحداث، وفي مثل هذا الوقت القصير، قد تبدو فوضوية. مع ذلك، يمكن فهمها إذا أخذنا في الاعتبار عاملين أساسيين
أولًا: ما نشهده الآن هو المرحلة الأخيرة في عملية تفكيك العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة كما كانت قائمة منذ عدة عقود.
ثانيًا: تنبع معظم تحركات وسياسات اللاعبين الدوليين بالوقت الحالي من خلال قضايا محلية معقدة. دائمًا ما يكون للرد على التحديات التي تواجههم على الجبهة الداخلية الأسبقية، في حين أن السياسة الخارجية هي إما مسألة ثانوية أو إذا كانت مع قوة كبرى، فإنها تصبح أداة لحل المشاكل الداخلية.
لنبدأ بالعامل الأول. منذ أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، كان محور المحادثات الرئيسية بين موسكو وواشنطن، تصادميًّا بطبيعته ولكنه محوري بالنسبة للمشهد السياسي العالمي؛ حتى إنه كان في ذلك الوقت يمثل النقطة المركزية لكل شيء، لأن كلتا القوتين كانتا تتمتعان بقدرات عسكرية وسياسية متساوية.
خلال سنوات الحرب الباردة، عمل الطرفان على تطوير نظام فعال لتحقيق الاستقرار العالمي وترشيد المواجهة فيما بينهم. في التسعينيات، اختفى التكافؤ في العديد من المجالات باستثناء القدرات النووية. لكنها لم تكُن كافية للحفاظ على العناصر الأساسية للنوع السابق من العلاقات-لا في جوانبها الأساسية ولا في الجوانب الطقسية.
تم إحراز تقدم كبير في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، مثل الانفتاح المتبادل أو الاتصالات السياسية والإنسانية، لكنها لم تغير طبيعة العلاقات. ظل البلدان متنافسين، لكنهما الآن بمستويات مختلفة بشكل كبير من ناحية الموارد والقوة. مع تزايد الخلافات، بدأ الانفتاح يتطور ولكن في الاتجاه السلبي.
لن نحلل أسباب الخطأ الذي حدث أو نناقش إمكانية تطور الأشياء بشكل مختلف. اليوم لا تعتبر روسيا والولايات المتحدة بعضهما البعض شريكين رئيسيين – حتى في المواجهة.
كل بلد ينظر إلى الآخر على أنه مصدر إزعاج، ويعيق تنفيذ استراتيجيته. خلال سنوات الحرب الباردة السابقة كان هناك بعض الاحترام المتبادل بين الاتحاد السوفيتي وأمريكا، حيث اعترفت كل دولة بالشرعية الأيديولوجية والسياسية لخصمها. أما الآن فلا وجود لمثل هذه القواعد.
يرى كلا الطرفين الآن أن الجانب الآخر أمة تتجه نحو السقوط لأسباب مختلفة. تنظر موسكو إلى واشنطن على أنها إمبراطورية في حالة انحدار، ولم تعُد مهيمنة بنفس الطريقة التي هيمنت بها خلال العقود القليلة الماضية. في غضون ذلك، يعتقد الأمريكيون أن الدولة الروسية أقل من أن تكون لاعبًا دوليًّا ذا أهمية. هذا يعني أن كلًّا منهما فقد حقه الأخلاقي والسياسي في التصرف على النحو الذي كان عليه في نظر الآخر؛ وعليه فلا معنى لمناقشة المصالح المتبادلة بجدية، حتى في مجالات محددة.
العامل الثاني هو الديناميات الداخلية. إن الافتقار إلى الثقة بالنفس وعدم الارتياح بشأن المستقبل محسوسان في كل مكان. هذا أمر مفهوم، بالنظر إلى الطبيعة الفوضوية للتطورات الأخيرة في جميع أنحاء العالم. في هذه المرحلة، لا يوجد بلد لديه استراتيجية تنمية واضحة أو متوازنة؛ بل يتم وضع السياسات على الفور وفي كثير من الأحيان بشكل اندفاعي.
لذلك، هناك العديد من السياسات الانفعالية. حيث أصبح العالم أكثر ارتباطًا ببعضه مما كان عليه خلال حقبة الحرب الباردة، لذلك تنتشر فيه العصابية وتقلب الأمزجة بسرعة.
نتيجة لذلك، أصبح الأفق الضيق للغاية للحفاظ على الذات هو المتحكم في سلوك الغالبية. وهو سياق جديد مختلف عما كان عليه الوضع زمن الحرب الباردة، والخشية من تحولها إلى حرب حقيقية. بمعنى آخر إن عدم اليقين يُجبر الدول على إعطاء الأولوية للقضايا المحلية، والتركيز على الاستقرار الداخلي، وجعل السياسة الخارجية تخدم هذا الهدف. بينما لا يؤخذ رد الفعل الخارجي كثيرًا في الاعتبار.
من الواضح أن هذا الوضع بات يؤثر على العلاقات بين واشنطن وموسكو. حيث نرى عددًا من الخطوات التي لا يمكن تفسيرها بسهولة بطريقة أو بأخرى. يرى الخبراء الأمريكيون أن دعوة بايدن لعقد قمة مباشرة مع بوتين خطوة بناءة ومفيدة، ولكنهم في الوقت نفسه يقولون إن على بايدن إصلاح أخطاء الإدارة السابقة؛ وأن يعاقب روسيا على أفعالها المتصورة، والآن بعد أن انتهى كل شيء، يعرض بدء صفحة جديدة.
مع ذلك، فقد وقَّع أيضًا على أمر تنفيذي لفرض عقوبات جديدة، حتى تتمكن أمريكا في المرة القادمة من توفير الوقت والموارد. وبطبيعة الحال، ترى موسكو في ذلك إشارة إلى أن نفس الشيء سيُكتب على الصفحة الجديدة، ولكن هذه المرة بمزيد من الحبر والكلمات. وعندما ترد روسيا، تسمي الولايات المتحدة ذلك تصعيدًا – في الحقيقة هذا ليس ردًّا، بل بدء لجولة جديدة.
عندما يوصي وزير الخارجية الروسي بعودة السفير الأمريكي طواعيةً وإجراء مشاورات في واشنطن، يمكننا أن نفترض أن هناك استياءً عميقًا، وأن السفير يعتبر شخصًا غير مرغوب فيه في هذه المرحلة. القيود الإضافية على عمل الدبلوماسيين – الكمية والنوعية – تعكس أيضًا الوضع الشبيه بالحرب الباردة. إذا كانت العلاقات السياسية قريبة من اللاشيء، ولا وجود لتعاون اقتصادي قوي، فلماذا تحتاج إلى كل هذا العدد الكبير من موظفي السفارة؟ لا سيما بالنظر إلى حقيقة أن جهودهم لتمثيل أمتهم في الدولة التي يتمركزون فيها تثير الشكوك وتفسر غالبًا على أنها محاولات غير مشروعة للتأثير على شيءٍ ما.
على كلا الاتجاهين؛ الدبلوماسيين الروس في أمريكا والدبلوماسيين الأمريكيين في روسيا، يجدون أنفسهم في نفس الموقف. لذلك، فإن الإجراءات الدبلوماسية تتبع فقط الجو السياسي العام.
يبدو أن الكثير من الناس يعتقدون أن القمة بين اثنين من الوزن الثقيل ستحل بطريقة سحرية المشكلات العالقة بينهما. حتى عندما كانت السياسات أكثر تنظيمًا، كان الاجتماع رفيع المستوى يتطلب تحضيرًا مكثفًا ولم يُعقد إلا عندما يحقق نتائج مُسبقة يتم الاتفاق عليها.
في هذه المرحلة، ليس لدى روسيا والولايات المتحدة أي شيء لمناقشته، باستثناء ما يُطلق عليه «عدم التضارب» (أي في ملفي سوريا وأوكرانيا)، وهو تنسيق يحدث في الواقع بين العسكريين ويعملون عليه بأنفسهم على أي حال. أما موضوعات مثل «الاستقرار الاستراتيجي» فقد أصبحت الآن في طي النسيان؛ لأن الإطار السابق قد انتهى وسيتطلب وضع إطار جديد جهدًا فكريًّا جادًّا وتضافر القوى لخلق شيء من شأنه أن يعكس الحقائق الدولية والتكنولوجية الحالية. للقيام بهذا النوع من العمل، يجب أن يكون هناك بعض الحماس والثقة الأساسية على الأقل، وليس لدينا أي منهما.
لقد رأينا بالفعل قممًا؛ حيث ينظر فيها كلا الرئيسين في أعين بعضهما البعض لفك بعض المعاني الخفية، ولكنها لا تؤدي إلى أي شيء ولا يخرج منها أي شيء. إلى جانب ذلك، ليست هناك حاجة لأن يتعرف القادة الحاليون لروسيا والولايات المتحدة على بعضهم البعض، لأنهم يعرفون بعضهم جيدًا منذ فترة طويلة.
من الناحية المفاهيمية، تم وضع إطار عمل علاقاتنا من قبل الولايات المتحدة، والتي يمكن وصفها وفق الصيغة التي يفضل بايدن اتباعها بـ “المشي ومضغ العلكة في نفس الوقت”. تعني هذه الصيغة العمل مع روسيا عندما يناسب ذلك الولايات المتحدة، وتجاهلها أو ردعها في أي مجالات أخرى تعتقد واشنطن أن التعاون مع أمريكا بالنسبة لأي دولة يتفوق على أي مخاوف أخرى لذلك وبغض النظر عن الشروط والقيود التي تفرضها الولايات المتحدة، سيواصل شريكها التعاون معها في أي قضايا تقترح العمل عليها. هذه هي فكرة «الأمة التي لا غنى عنها» كما صرحت بها مادلين أولبرايت في التسعينيات. وهي حتى الآن المُسيطرة على العقل السياسي الأمريكي إلى حد كبير.
الآن يتعين على روسيا أن تقرر ما إذا كانت مستعدة لمواصلة العمل ضمن إطار “المشاركة الانتقائية” أم لا، وهي بالطبع سياسة لم يصنعها بايدن، بل كانت قائمة في معظم فترات علاقة البلدين، ما بعد الاتحاد السوفيتي، لكن في المقابل يُثبت الوضع الحالي لعلاقاتنا أن هذه الصيغة لن تؤدي سوى إلى طريق مسدود.
بصرف النظر عن الأسباب المتعلقة بالهيبة واحترام الذات، هناك عامل آخر. لفترة طويلة، كان يمكن تبرير هذا النهج الذي حافظت عليه واشنطن والمبني على حقيقة أن الولايات المتحدة كان لها تأثير عالمي حاسم أما الآن، فإن القيادة الأمريكية تمر بأزمة سياسية، والأهم من ذلك أخلاقية. أما من حيث الاقتصاد فإن نمو الصين أكثر إثارة للإعجاب. من الواضح أن واشنطن تتمتع بميزة تكنولوجية كبيرة واحتكار في القطاع المالي لكنها تستنزف تلك المزايا بشكلٍ متزايد لردع ومعاقبة المنافسين، في كلٍّ من الجغرافيا السياسية والتجارة، وهو ما يلحق أبلغ الضرر بسمعة أمريكا، كما تحفز الآخرين للبحث عن طرق جديدة لتجنب العقبات التي أوجدتها.
العلاقات الروسية-الأمريكية في أزمة عميقة حاليًّا، وبينما يمكنك البحث عن أسباب هذا الإجراء أو ذاك فإن هذا ليس هو المكان الذي تكمن فيه جذور المشكلة. كان الإطار السابق نتاج الحرب الباردة، واستمر في شكله المتلاشي لمدة ثلاثة عقود أخرى. مع ذلك، فإن إعادة روح الحرب الباردة لا تعني استعادة معاييرها. لقد تغير العالم ومعه بنية العلاقات الدولية التي لا تشبه ما كانت عليه في ذلك الوقت، على الرغم من وجود بعض عناصر الماضي.
إن محاولات إدارة بايدن إعادة إنشاء النمط القديم لـما يسمى “العالم الحر” مقابل “الطغيان العدواني” محكوم عليها بالفشل لأنه لا يوجد أي منهما في شكله السابق الواضح. بمعنى أوضح، يجب أن نساعد واشنطن على فهم هذه الحقائق الجديدة، وذلك عبر الرد عليها من خلال علاقات أوثق وأكثر تطورًا بين روسيا والصين؛ خاصةً أن الأخيرة قد صُدمت من الطريقة التي اختار بها بايدن وفريقه التعامل مع بكين.
إن التقليل من مخاطر المواجهات غير الضرورية، والعمل الجاد على تحمل أي نوع من الضغطـ سيكون في الغالب هو المسار الحاكم الرئيسي للعلاقات الروسية الأمريكية في المستقبل القريب. وعليه يجب أن يقتصر العمل مع الولايات المتحدة، على مخاوف محددة وعملية للغاية إذا ظهرت. ثم في مرحلةٍ ما، ستكون هناك حاجة لنوع جديد من العلاقة. ساعتها سيكون هذا هو الوقت الذي يجب أن نبدأ فيه الحديث الجاد، وليس قبل ذلك ولو بدقيقة واحدة. [1]
ترجمة: وحدة الرصد والترجمة في مركز الدراسات العربية الأوراسية
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير