تتمتع جميع القوى العظمى بتصور ذاتي مُتأصل بعمق، شكلته التجربة التاريخية والجغرافيا والثقافة والمعتقدات والأساطير. يتوق العديد من الصينيين اليوم إلى استعادة عظمة الوقت الذي حكموا فيه دون منازع آسيا في ذروة قوة حضارتهم قبل «قرن الذل» يشعر الروس بالحنين إلى أيام الاتحاد السوفيتي عندما كانوا القوة العظمى الأخرى، وحكموا من بولندا إلي فلاديفوستوك لاحظ هنري كيسنجر ذات مرة أنه يتعين على القادة الإيرانيين أن يختاروا ما إذا كانوا يريدون أن يكونوا «أمة أو قضية». لكن القوى العظمى والقوى العظمى الطموحة غالبًا ما تعتبر نفسها كليهما. حيث يشكل تصورهم الذاتي تعريفهم للمصلحة الوطنية، وما يشكله الأمن الحقيقي والإجراءات والموارد اللازمة لتحقيق ذلك.
غالبًا ما تكون هذه التصورات الذاتية هي التي تدفع الأمم والإمبراطوريات والدول إلى الأمام، وأحيانًا إلى الخراب. نتج الكثير من دراما القرن الماضي عن قوى عظمى تجاوزت تطلعاتها طاقاتها.
الأمريكيون لديهم مشكلة معاكسة تتجاوز قدرتهم على قيادة القوة العالمية تصورهم لمكانهم ودورهم المناسبين في العالم على الرغم من أنهم واجهوا تحديات النازية والإمبريالية اليابانية والشيوعية السوفيتية والإرهاب الإسلامي الراديكالي، إلا أنهم لم يعتبروا هذا النشاط العالمي أمرًا طبيعيًّا حتى في عصر الإنترنت، والصواريخ بعيدة المدى، والاقتصاد العالمي المترابط، يحتفظ العديد من الأمريكيين بثقافة الشعب الذي يعيش منفردًا في قارة شاسعة بمنأى عن الاضطرابات العالمية. لم يكن الأمريكيون أبدًا انعزاليين في أوقات الطوارئ وكان يمكن إقناعهم بدعم الجهود غير العادية في الأماكن البعيدة: لكنهم يعتبرون هذه الحالات ردود فعل استثنائية لظروف استثنائية. إنهم لا يرون أنفسهم المدافع الأساسي عن نوع معين من النظام العالمي؛ كما لم يتبنوا أبدًا هذا الدور «الذي لا غنى عنه».
نتيجة لذلك، لعب الأمريكيون دورًا سيئًا في كثير من الأحيان: لقد أنتجت وجهة نظرهم القارية للعالم قرنًا من التذبذبات الجامحة، واللامبالاة التي أعقبها الذعر والتعبئة، والتدخل الذي يليه التراجع، ولا شيء آخر سواه.
يُشير الأمريكيون إلى التدخلات العسكرية المنخفضة التكلفة نسبيًّا في أفغانستان والعراق على أنها «حروب أبدية». هذا هو فقط أحدث مثال على عدم تسامحهم مع الأعمال الفوضوية التي لا تنتهي بالحفاظ على السلام العام والعمل على إحباط التهديدات. في كلتا الحالتين، خرج الأمريكيون من الباب لحظة دخولهم، مما أعاق قدرتهم على السيطرة على المواقف الصعبة.
في القرن العشرين، هناك الكثير من الزعماء الأجانب والحكومات التي أساءت تقدير قوة الولايات المتحدة، من ألمانيا (مرتين) واليابان إلى الاتحاد السوفيتي وصولًا إلى صربيا والعراق. المتوقع أن يكون القرن الحادي والعشرون على نفس النمط، والأمر الأكثر خطورة فيه، هو المنافسة مع الصين وعليه فسيحتاج الأمريكيون إلى التوقف عن البحث عن المخارج، وضرورة قبول الدور الذي فرضه عليهم القدر وتمتعهم بالقوة. ربما بعد أربع سنوات من حكم الرئيس دونالد ترمب، أصبح الأمريكيون مستعدين لبعض الكلام الصريح.
عقلان مختلفان
إن تفضيل الأمريكيين لدور دولي محدود هو نتاج تاريخهم وخبراتهم والأساطير التي يخبرونها لأنفسهم. القوى العظمى الأخرى تتطلع إلى استعادة أمجاد الماضي. بينما يتطلع الأمريكيون إلى استعادة ما يتخيلون أنه براءة وطموح محدود لشباب أمتهم.
خلال العقود الأولى من وجود الجمهورية الجديدة، كافح الأمريكيون فقط من أجل البقاء كجمهورية ضعيفة في عالم ممالك القوة العظمى. لقد أمضوا القرن التاسع عشر في الأنانية والذاتية، وغزو القارة والنضال من أجل العبودية. لكن بحلول أوائل القرن العشرين، أصبحت الولايات المتحدة أغنى وأقوى دولة في العالم، لكنها كانت دولة بدون التزامات أو مسؤوليات.
لقد نشأت تحت مظلة نظام عالمي خيِّر لم يكن لها دور في دعمه. كتب المؤرخ البريطاني جيمس برايس، عن الولايات المتحدة في عام 1888: «أمريكا في مأمن من الهجوم، وآمنة حتى من الخطر؛ تسمع من بعيد صرخات الأعراق والأديان الأوروبية المتناحرة، وبينما كانت آلهة إبيقور تستمع إلى همهمة التعساء. انتشرت الأرض تحت مساكنهم الذهبية». كما كتبت برايس «لقد أبحرت على بحر الصيف».
لكن العالم تحول بعد ذلك، ووجد الأمريكيون أنفسهم فجأة في قلبه. النظام القديم الذي أيدته المملكة المتحدة، والذي أصبح ممكنًا بفضل السلام الهش في أوروبا انهار مع وصول قوى جديدة. أدى صعود ألمانيا إلى تدمير التوازن غير المستقر في أوروبا وأثبت الأوروبيون أنهم غير قادرين على استعادته.
وضع الصعود المتزامن لليابان والولايات المتحدة حدًّا لأكثر من قرن من الهيمنة البحرية البريطانية. حلت الجغرافيا السياسية العالمية محل النظام الذي كان يُهيمن عليه الأوروبيون، وفي هذا التكوين المختلف تمامًا للقوة، تم دفع الولايات المتحدة إلى موقع جديد.
فقط هي، من كان يمكنها أن تكون قوة في المحيطين الهادئ والأطلسي.
فقط هي، من لديها جيران ضعفاء في الشمال والجنوب، ويفصلها عن العالم المحيطات الشاسعة إلى الشرق والغرب، يمكن أن ترسل الجزء الأكبر من قواتها للقتال في مسارح بعيدة لفترات طويلة بينما يظل وطنها دون تهديد.
وحدها هي القادرة على تمويل ليس فقط جهود الحرب الخاصة بها ولكن أيضًا جهود حلفائها، وحشد القدرة الصناعية لإنتاج السفن والطائرات والدبابات وغيرها من العتاد لتسليح نفسها، بينما تعمل أيضًا كترسانة لأي شخصٍ آخر.
هي وحدها القادرة على القيام بكل هذا دون إفلاس نفسها، ولكن بدلًا من ذلك تصبح أكثر ثراءً وهيمنة مع كل حرب كبرى.
لاحظ رجل الدولة البريطاني آرثر بلفور، أن الولايات المتحدة قد أصبحت «المحور» الذي تحول إليه بقية العالم، أو على حد تعبير الرئيس ثيودور روزفلت «تمثل توازن القوى في العالم بأسره».
لم يعرف العالم أبدًا مثل هذه القوة- لم تكن هناك لغة لوصفها أو نظرية لتفسيرها، لقد كانت فريدة من نوعها. أدى ظهور هذه القوة العظمى غير العادية إلى الارتباك وسوء التقدير. كانت الدول التي أمضت قرونًا في حساب علاقات القوة في مناطقها: بطيئة في إدراك تأثير هذا الإله البعيد، الذي بعد فترات طويلة من اللامبالاة والابتعاد، يمكن أن ينقض فجأة ويُحول كافة موازين القوى.
الأمريكيون، أيضًا واجهوا صعوبة في التكيف على هذا الوضع. كما أن الثروة والمناعة النسبية التي جعلتهم قادرين بشكل فريد على خوض الحروب الكبرى وفرض السلام في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط. لكنها في نفس الوقت جعلتهم يتساءلون عن ضرورة القيام بذلك، والرغبة فيه، وحتى مدى أخلاقية هذا الدور.
بجانب ذلك، طُرح السؤال الأساسي: الولايات المتحدة آمنة ومكتفية ذاتيًّا لماذا إذن تحتاج للانخراط في صراعات على بُعد آلاف الأميال من شواطئها؟ وما هو حقها، أو بالأحرى هل هذا من حقها؟
لقد طرح ثيودور روزفلت، ووودرو ويلسون: قضية إنشاء سياسة تهدف إلى إنشاء نظام عالمي ليبرالي، والحفاظ عليه لأول مرة خلال الحرب العالمية الأولى. حيث لم تعد المملكة المتحدة والقوى الأوروبية الأخرى قادرة على الحفاظ على النظام، كما جادلوا بأن الحرب: أدت لضرورة أن تضع الولايات المتحدة، على عاتقها إنشاء نظام عالمي ليبرالي جديد والدفاع عنه.
كان هذا هو الغرض من مشروع «الرابطة العالمية من أجل سلام الحق» الذي اقترحه روزفلت في بداية الحرب. بجانب عصبة الأمم، التي دافع عنها ويلسون في النهاية بعد ذلك: إنشاء نظام سلمي جديد مع القوة الأمريكية في مركزها.
اعتقد ويلسون أن هذا النظام هو البديل الوحيد الممكن لوقف استئناف الصراع والفوضى التي دمرت أوروبا. كما حذر من أنه إذا عاد الأمريكيون بدلًا من ذلك إلى «أغراضهم الإقليمية الضيقة والأنانية». فإن السلام سينهار، وتنقسم أوروبا مرة أخرى إلى «معسكرات مُعادية»، وسوف ينحدر العالم مرة أخرى إلى «السواد المُطلق» وستنهار الولايات المتحدة، بعدما يتم جرها إلى الحرب.
كان للولايات المتحدة مصلحة في أوروبا سلمية، وفي غالبية عالمية ليبرالية وآسيا مسالمة، ومحيطات مفتوحة وآمنة يمكن للأمريكيين وبضائعهم السفر عبرها بأمان.
لكن مثل هذا العالم لا يمكن بناؤه إلا حول القوة الأمريكية، وهكذا كان للولايات المتحدة مصلحة في النظام العالمي، وألا تُصبح وحدها جزيرة الديمقراطية في عالم من الديكتاتوريين. لكن معارضي التدخل الأمريكي في الحرب العالمية الثانية كانوا قلقين من عواقب الانتصار، بقدر قلقهم من تكاليف التدخل.
لم يرغب الأمريكيون في أن تخضع بلادهم لمصالح الإمبراطوريات الأوروبية، كما لم يريدوا أيضًا أن يحلوا محل تلك الإمبراطوريات باعتبارها القوة العالمية المُهيمنة. نقلًا عن وزير الخارجية جون كوينسي آدامز، بأنه: حذر من أن الولايات المتحدة عندما تصبح «ديكتاتور العالم» ستفقد روحها.
أدى الهجوم الياباني على بيرل هاربور، إلى اختزال النقاش لكنه تركه غير مستقر. خاض روزفلت الحرب وعينه على نظام ما بعد الحرب الذي كان يأمل في إنشائه، لكن معظم الأمريكيين رأوا في الحرب أنها عمل دفاعي عن النفس بما يتفق تمامًا مع منظورهم القاري. عندما انتهى الأمر، توقعوا العودة إلى المنزل. لكن عندما انتهى الأمر بالولايات المتحدة، بالسيطرة على العالم بعد الحرب العالمية الثانية، عانى الأمريكيون من نوع من التنافر المعرفي.
خلال الحرب الباردة، أخذوا على عاتقهم مسؤوليات عالمية لم يسمعوا بها من قبل ونشروا قواتهم في مناطق بعيدة بمئات الآلاف، وخاضوا حربين في كوريا وفيتنام، كانت تكلفتهما 15 ضعفًا من حيث الوفيات القتالية مقارنة بالحروب التي حدثت لاحقًا في أفغانستان والعراق. لقد روجوا لنظام تجارة حرة دولي كان أحيانًا يُثري الآخرين أكثر من أنفسهم. تدخلوا اقتصاديًّا وسياسيًّا ودبلوماسيًّا وعسكريًّا في كل ركن من أركان العالم.
سواء كانوا يُدركون ذلك أم لا، فقد أنشأوا نظامًا عالميًّا ليبراليًّا، وبيئة دولية سلمية نسبيًّا، والتي بدورها جعلت من الممكن شيوع الرخاء العالمي، مع انتشار بشكل غير مسبوق تاريخيًّا للحكومات الديمقراطية.
كان هذا هو الهدف الواعي لروزفلت خلال الحرب العالمية الثانية، وخلفائه في إدارة ترومان. كانوا يعتقدون أن النظام العالمي القائم على المبادئ السياسية والاقتصادية الليبرالية: الترياق الوحيد لفوضى الثلاثينيات. جادل دين آتشيسون، وزير خارجية الرئيس هاري ترومان، بأنه من أجل وجود مثل هذا النظام لا يمكن للولايات المتحدة أن «تجلس في الصالون حاملة بندقيتها وهي تنتظر». كان عليها أن تكون خارج العالم لتشكيله بشكل فعال، وردع بعض القوى، ودعم البعض الآخر.
كان عليها أيضًا أن تخلق «مواقف قوة» في العُقد الحرجة، وتنشر الاستقرار والازدهار والديمقراطية، خاصةً في المناطق الصناعية الأساسية بالعالم في أوروبا وآسيا. قال آتشيسون، إنه كان على الولايات المتحدة أن تكون «القاطرة على رأس البشرية» التي تجذب العالم معها.
أمريكا على غير هُدًى
مع ذلك، حتى عندما أنشأوا هذا النظام، لم يفهم سوى القليل من الأمريكيين النظام العالمي على أنه الهدف. بالنسبة لمعظم الناس، كان تهديد الشيوعية هو الذي برر هذه الجهود غير العادية، والسبب وراء إنشاء الناتو والدفاع عن اليابان وكوريا وفي النهاية فيتنام. أصبحت مقاومة الشيوعية مرادفة للمصلحة الوطنية، حيث كان يُنظر إلى الشيوعية على أنها تهديد لأسلوب الحياة الأمريكي. عندما امتنع الأمريكيون عن دعم اليونان وتركيا في عام 1947، أخبر السناتور الجمهوري آرثر فاندنبرغ، مسؤولي إدارة ترومان أن: «يُخيفوا الشعب الأمريكي بالجحيم الشيوعي». رأى آتشيسون فائدة في صنع ذلك، كما اعترف في مذكراته، تحت عنوان: «أوضح من الحقيقة» عندما قال: «في ظل اعتبار الشيوعية العدو الوحيد، كان لكل شيء أهمية، وكان كل عمل بمثابة عمل دفاعي».
لذلك، عندما انتهت الحرب الباردة، أصبح الانفصال بين الدور الفعلي للأميركيين وتصورهم لأنفسهم غير مقبول. بدون التهديد العالمي للشيوعية تساءل الأمريكيون عن الغرض من سياستهم الخارجية. ما هو الهدف من وجود نظام أمني يُحيط بالكرة الأرضية، وبحار مُهيمن عليها، وتحالفات بعيدة مع عشرات الدول، ونظام تجارة دولية حرة؟
عندما غزا الديكتاتور العراقي صدام حسين الكويت في عام 1990، طرح الرئيس جورج بوش الأب في البداية قضية طرده لأسباب تتعلق بالنظام العالمي. ثم قال بوش في خطاب مُتلفز من المكتب البيضاوي، نقلًا عن الجنرال الذي كان يقود حرب الولايات المتحدة: «العالم الذي يُسمح فيه للوحشية وغياب القانون بالمرور دون رادع، ليس هو نوع العالم الذي نرغب في العيش فيه»معلنًا أن مشاة البحرية يقاتلون قوات صدام.
لكن عندما انتقد الواقعيون والمحافظون رؤية بوش لـ«نظام عالمي جديد» باعتبارها نظرة مُفرطة في الطموح والمثالية تراجعت الإدارة إلى نوع المنطق القاري الضيق الذي من المفترض أن يفهمه الأمريكيون بشكلٍ أفضل: «الوظائف والوظائف والوظائف». هكذا كانت الطريقة التي شرح بها وزير الخارجية جيمس بيكر، ما كانت تدور حوله حرب الخليج.
عندما تدخل الرئيس بيل كلينتون مرتين في البلقان ثم وسع حلف الناتو، كان ذلك دفاعًا عن النظام العالمي، سواء للقضاء على التطهير العرقي في أوروبا أو لإثبات التزام الولايات المتحدة المستمر بما وصفه بوش بـ«أوروبا واحدة وحرة». تعرضت يومها أيضًا إدارة كلينتون للهجوم من قبل الواقعيين لمشاركتها في «العمل الاجتماعي الدولي».
ثم جاء الرئيس جورج دبليو بوش. كانت الحرب الثانية مع العراق تهدف في المقام الأول إلى الحفاظ على النظام العالمي، وتخليص الشرق الأوسط والخليج من معتدٍ متسلسل تصور نفسه صلاح الدين الأيوبي الجديد. لكن هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) تسببت في خلط أهداف النظام العالمي مرة أخرى بالدفاع القاري، حتى بالنسبة لمناصري الحرب.
عندما ثبت خطأ المعلومات الاستخباراتية حول برامج أسلحة صدام، شعر العديد من الأمريكيين بأنه قد تم الكذب عليهم، بشأن التهديد المباشر الذي يمثله العراق على الولايات المتحدة.
وصل الرئيس باراك أوباما إلى السلطة جزئيًّا بسبب خيبة الأمل الغاضبة التي لا تزال تُشكل المواقف الأمريكية حتى اليوم. من المفارقات، عند قبوله جائزة نوبل للسلام، قال أوباما: إن الاستعداد الأمريكي لـ«ضمان الأمن العالمي» قد جلب الاستقرار إلى عالم ما بعد الحرب، وإن هذه السياسة كانت في إطار: «المصلحة الذاتية المستنيرة» للولايات المتحدة. مع ذلك، سرعان ما اتضح أن الأمريكيين يهتمون أكثر ببناء الدولة في داخل الوطن. في النهاية، كانت واقعية أوباما مثل الرئيس الأمريكي السابع والعشرين، ويليام هوارد تافت، تتمثل في «قبول العالم كما هو» وليس كما يرغب دعاة النظام العالمي في أن يكون.
في عام 1990، جادلت السفيرة الأمريكية السابقة لدى الأمم المتحدة جين كيركباتريك، بأن الولايات المتحدة يجب أن تعود إلى كونها دولة «طبيعية» ذات مصالح طبيعية، وأن تتخلى عن «الفوائد المشكوك فيها لمكانة القوة العظمى» وتُنهي «التركيز غير الطبيعي» على السياسة الخارجية، وتُتابع مصالحها الوطنية التي تمثل «تصورها التقليدي». وهذا يعني حماية مواطنيها وأراضيها وثرواتها وحصولها على السلع «الضرورية».
لم يكُن يعني الحفاظ على توازن القوى في أوروبا أو آسيا، أو تعزيز الديمقراطية، أو تحمل مسؤولية المشاكل في العالم التي لم تمس الأمريكيين بشكل مباشر لهم أي أهمية. هذا هو المنظور القاري الذي لا يزال يسود حتى اليوم. إنه لا ينفي أن للولايات المتحدة مصالح، لكنه يرى أنها مجرد مصالح لكل الدول، لا لأمريكا وحدها.
المشكلة هي أن الولايات المتحدة لم تكُن دولة طبيعية لأكثر من قرن، ولم يكن لديها مصالح عادية. قوتها الفريدة تمنحها دورًا فريدًا: البنجلادشيون والبوليفيون لديهم أيضًا مصلحة في الاستقرار العالمي، وقد يعانون إذا هيمنت ألمانيا مرة أخرى على أوروبا أو إذا هيمنت اليابان مرة أخرى على آسيا لكن لا أحد قد يُشير إلى أنه من مصلحتهم الوطنية منع حدوث ذلك، لأنهم ببساطة يفتقرون إلى القدرة على القيام بذلك، تمامًا كما كانت الولايات المتحدة تفتقر إلى القدرة في عام 1798، عندما كانت مُهددة بشدة من قبل احتمال هيمنة أوروبية.
أصبح النظام العالمي مصدر قلق الولايات المتحدة، عندما انهار النظام العالمي القديم في أوائل القرن العشرين، وأصبحت القوة الوحيدة القادرة على إنشاء نظام جديد يمكن فيه حماية مصالحها.
لا يزال هذا هو الحال اليوم، ومع ذلك، تظل القارية هي المنظور المُهيمن حتى أكثر من عصر كيركباتريك. إن هذه اللغة التي يستخدمها الأمريكيون للحديث عن السياسة الخارجية، والنماذج النظرية التي يفهمون من خلالها مفاهيم مثل المصلحة الوطنية والأمن لا تزال حاضرة بقوة. كما أنها لا تزال مليئة بالتفسيرات الأخلاقية. لا تزال الدعوات إلى «ضبط النفس» واقتباس المقولات الحكيمة للآباء المؤسسين حاضرة، وتنتقد الوضع الحالي وترى فيه خيانة لإرثهم، وأحد أشكال الغطرسة المسيانية والإمبريالية.
لا يزال العديد من الأمميين يعتقدون أن ما يعتبرونه ممارسة غير مُبررة للقوة الأمريكية هو أكبر عقبة أمام عالم أفضل وأكثر عدلًا النتائج المختلطة للحروب في أفغانستان والعراق، لم تعد مجرد أخطاء في الحكم والتنفيذ: «بل أصبحت علامات سوداء على الروح الأمريكية».
لا يزال الأمريكيون يشعرون بالحنين إلى ماضٍ أكثر براءة وبساطة. لدرجة أنهم ربما يتوقون إلى امتلاك قوة أقل. لقد أدرك الواقعيون منذ فترة طويلة أنه طالما أن الولايات المتحدة قوية جدًّا، فسيكون من الصعب تجنب ما أطلق عليه عالما السياسة: روبرت تاكر وديفيد هندريكسون، ذات مرة «الإغراء الإمبريالي». هذا هو أحد الأسباب التي جعلت الواقعيين يُصرون دائمًا على أن القوة الأمريكية في تراجع أو ببساطة ليست على مستوى المهمة المنوطة بها. دافع الكاتب والتر ليبمان، والدبلوماسي جورج كينان عن هذه الحجة في أواخر الأربعينيات. كما فعل كيسنجر، في أواخر الستينيات، والمؤرخ بول كينيدي في الثمانينيات، وما زال العديد من الواقعيين يكررونها حتى اليوم.
يتعامل الواقعيون مع كل حرب فاشلة: من فيتنام إلى العراق، كما لو كانت العمل الأخير من الحماقة التي أدت إلى هزيمة أثينا في الحرب ضد سبارتا في القرن الخامس قبل الميلاد.
لقد نشأ جيل كامل من الأمريكيين على قناعة بأن الافتقار إلى انتصارات واضحة في أفغانستان والعراق، يُثبت أن بلادهم لم تعد قادرة على تحقيق أي شيء بالقوة، وصعود الصين، وتراجع نصيب الولايات المتحدة من الاقتصاد العالمي، وتقدم التقنيات العسكرية الجديدة، بجانب انتشار القوة حول العالم: كلها إشارات إلى شفق النظام الأمريكي مرة أخرى.
مع ذلك، إذا كانت الولايات المتحدة ضعيفة كما يدعي الكثير من الناس، فلن تضطر إلى ممارسة ضبط النفس. على وجه التحديد لأن البلاد لا تزال قادرة على اتباع إستراتيجية النظام العالمي، يحتاج النقاد إلى شرح سبب عدم قيامها بذلك.
الحقيقة هي أن التكوين الأساسي للقوة الدولية لم يتغير كما يتصور الكثيرون فالأرض ما زالت مستديرة، ولا تزال الولايات المتحدة، جالسة في قارتها الشاسعة المعزولة، وتُحيط بها المحيطات والقوى الأضعف. كما لا تزال القوى العظمى الأخرى تعيش في مناطق مكتظة بالقوى العظمى المنافسة وعندما تصبح قوة واحدة في تلك المناطق أقوى من أن تتوازن معها الدول الأخرى فإن الضحايا المُحتملين لا يزالون يتطلعون إلى الولايات المتحدة البعيدة للحصول على المساعدة.
على الرغم من أن روسيا تمتلك ترسانة نووية ضخمة: إلا أنها أصبحت اليوم أشبه ما تكون بـ«فولتا العليا المحاصرة بصواريخ الناتو». أكثر مما كانت عليه عندما تمت صياغة تلك الإستراتيجية في أوائل الحرب الباردة، عندما سيطر السوفيت على الأقل على نصف أوروبا.
لقد حلت الصين محل اليابان، وأصبحت أقوى من حيث الثروة والسكان ولكن بقدرات عسكرية غير مُثبتة، وموقع إستراتيجي أقل تفضيلًا. عندما توسعت الإمبراطورية اليابانية في ثلاثينيات القرن الماضي، لم تواجه أي منافسين إقليميين هائلين، وكانت القوى الغربية منشغلة بالتهديد الألماني اليوم، آسيا مزدحمة بقوى عظمى أخرى، بما في ذلك ثلاثة من جيوشها هم من بين العشرة الأوائل في العالم: (الهند، واليابان، وكوريا الجنوبية) وجميعهم إما حلفاء أو شركاء للولايات المتحدة.
إذا استخدمت بكين، إيمانًا منها بضعف واشنطن، قوتها المتنامية لمحاولة تغيير الوضع الإستراتيجي لشرق آسيا، فقد يتعين عليها التعامل ليس فقط مع الولايات المتحدة، ولكن أيضًا مع تحالف عالمي من الدول الصناعية المتقدمة مثلما اكتشف السوفيت ذلك في الماضي، ولذا تسعى لتجنب المواجهة.
كانت سنوات ترامب بمثابة اختبار للنظام العالمي الأمريكي، وقد مر النظام منها بشكل ملحوظ. في مواجهة كابوس قوة عظمى مارقة تُمزق التجارة والاتفاقيات الأخرى: سعى حلفاء الولايات المتحدة، لاسترضائها وتملُّقها وقدموا القرابين إلى البركان الغاضب كما سار الأعداء بحذر، عندما أمر ترامب بقتل القائد الإيراني قاسم سليماني، كان من المعقول توقع أن ترد إيران، ولكن ذلك لم يحدث مع ترامب الرئيس، بفضل سياساته باستخدام القوة.
عانى الصينيون من حرب جمركية طويلة أضرت بهم أكثر مما أضرت بالولايات المتحدة، لكنهم حاولوا تجنب الانهيار الكامل للعلاقة الاقتصادية التي يعتمدون عليها.
كان أوباما قلقًا من أن توفير أسلحة هجومية لأوكرانيا قد يؤدي إلى حرب مع روسيا، ولكن عندما مضت إدارة ترامب في تسليم الأسلحة، أذعنت موسكو عندما رأت إصرارًا أمريكيًّا.
كانت العديد من سياسات ترامب، غير منتظمة وسيئة التصميم، لكنها أظهرت مقدار القوة الزائدة غير المُستخدمة التي تتمتع بها الولايات المتحدة، إذا اختار الرئيس تفعيلها. في سنوات ترامب، كانت الدول الأخرى هي التي كانت قلقة بشأن المكان الذي قد تؤدي إليه المواجهة مع الولايات المتحدة.
قوة كبيرة ومسؤولية كبيرة
الولايات المتحدة: «تلعب بشكل كسول عبر جزء بسيط من قوتها التي لا تُحصى». هكذا علق المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، بحزن إلى حدٍّ ما في أوائل الثلاثينيات. في ذلك الوقت، كان الإنفاق الدفاعي للولايات المتحدة يتراوح بين اثنين وثلاثة في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. اليوم، يزيد قليلًا عن ثلاثة بالمائة.
في الخمسينيات من القرن الماضي، خلال إدارة أيزنهاور، التي غالبًا ما كان يُنظر إليها على أنها فترة ضبط النفس المُثيرة للإعجاب في السياسة الخارجية الأمريكية. في هذه الفترة من «ضبط النفس» نشرت الولايات المتحدة، ما يقرب من مليون جندي في الخارج من إجمالي عدد السكان الأمريكيين البالغ 170 مليونًا. اليوم، في العصر الذي يقال فيه إن الولايات المتحدة مُفرطة في التوسع بشكل خطير، هناك ما يقرب من 200 ألف جندي أمريكي منتشرون في الخارج، من أصل 330 مليون نسمة.
بغض النظر عما إذا كان هذا يشكل «لعبًا كسولًا عبر جزء بسيط» من القوة الأمريكية، فمن المهم أن ندرك أن الولايات المتحدة الآن في وضع سلام.
لو تحول الأمريكيون إلى حالة الحرب، أو حتى إلى نمط الحرب الباردة أو ردوا على بعض الإجراءات الصينية – على سبيل المثال هجوم على تايوان: ستبدو الولايات المتحدة كحيوان مختلف تمامًا.
في ذروة أواخر الحرب الباردة، في عهد الرئيس رونالد ريغان، أنفقت الولايات المتحدة ستة في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، وأنتجت صناعة الأسلحة بكميات ونوعية لا يستطيع السوفيت مواكبتها. يمكن للصينيين أن يجدوا أنفسهم في مأزق مماثل.
قد «يندفعون خلال الأشهر الستة الأولى أو العام». كما توقع الأدميرال إيسوروكو ياماموتو، قائد الأسطول الياباني خلال الحرب العالمية الثانية بشأن قواته. لكن على المدى الطويل كما حذر أيضًا، من أن استفزاز أمريكا وحلفائها، قد يؤدي لمواجهة نفس مصير خصوم الولايات المتحدة الآخرين.
السؤال ليس ما إذا كانت الولايات المتحدة لا تزال قادرة على الانتصار في مواجهة عالمية، ساخنة أو باردة، مع الصين أو أي قوة أخرى. بل السؤال الحقيقي هو ما إذا كان يمكن تجنب أسوأ أنواع الأعمال العدائية، وما إذا كان يمكن تشجيع الصين والقوى الأخرى على السعي لتحقيق أهدافها سلميًّا لحصر المنافسة العالمية في المجالين الاقتصادي والسياسي.
وبالتالي إنقاذ أنفسهم والعالم من أهوال الحرب الكبرى التالية، أو حتى المواجهات المُخيفة لحرب باردة أخرى.
لا تستطيع الولايات المتحدة تجنُّب مثل هذه الأزمات من خلال الاستمرار في التمسك بوجهة نظر القرن التاسع عشر حول مصلحتها الوطنية. إن القيام بذلك من شأنه أن يُنتج ما تم إنتاجه في الماضي: فترات من اللامبالاة والتراجع يتبعها الذعر والخوف والتعبئة المفاجئة.
بالفعل، الأمريكيون ممزقون بين هذين الدافعين. من ناحية أخرى، تحتل الصين الآن هذا المكان في الذهن الأمريكي الذي احتلته ألمانيا والاتحاد السوفيتي ذات مرة: خصم أيديولوجي لديه القدرة على ضرب المجتمع الأمريكي بشكل مباشر، ولديه قوة وطموحات تهدد موقع الولايات المتحدة في منطقة رئيسية وربما في أي مكانٍ آخر أيضًا.
من ناحية أخرى، يعتقد العديد من الأمريكيين أن الولايات المتحدة في حالة تدهور وأن الصين ستُهيمن حتمًا على آسيا. في الواقع، إن التصورات الذاتية للأمريكيين والصينيين متماثلة تمامًا. يعتقد الصينيون أن دور الولايات المتحدة في منطقتهم على مدى السنوات الـ75 الماضية كان غير طبيعي وبالتالي فهو عابر، وكذلك يفعل الأمريكيون – يعتقد الصينيون أن الولايات المتحدة في حالة انحدار، وكذلك يفعل الكثير من الأمريكيين.
يكمن الخطر في أنه بينما تُكثف بكين جهودها لتحقيق ما تسميه «الحلم الصيني»، يعيش الأمريكيون في حالة من الذعر. في مثل هذه الأوقات يتم في العادة إجراء الحسابات الخاطئة.
ربما لن يرتكب الصينيون، وهم طلاب التاريخ الحريصون على التعلم منه، الخطأ الذي ارتكبه الآخرون بإساءة تقدير قوة الولايات المتحدة. مع ذلك، يبقى أن نرى ما إذا كان الأمريكيون قد تعلموا من دروس تاريخها أم لا.
سيكون من الصعب تغيير نمط التذبذب الممتد لقرن. سيكون الأمر كذلك بشكل خاص عندما يرى خبراء السياسة الخارجية من جميع الأطياف أن دعم النظام العالمي الليبرالي مستحيل وغير أخلاقي. من بين المشاكل الأخرى تعاني وصفاتهم من تفاؤل لا مبرر له بشأن البدائل المحتملة لأمر تقوده الولايات المتحدة.
يبدو أن الواقعيين والأمميين الليبراليين والقوميين المحافظين والتقدميين يتصورون جميعًا أنه بدون أن تلعب واشنطن الدور الذي لعبته خلال ال75 عامًا الماضية، سيكون العالم على ما يرام، وستتم حماية مصالح الولايات المتحدة بشكلٍ جيد. لكن لا التاريخ الحديث ولا الظروف الحالية تبرر مثل هذه الرؤية المثالية. إن البديل عن النظام العالمي الأمريكي ليس النظام العالمي السويدي.
لن يكون عالم القانون والمؤسسات الدولية أو انتصار التنوير أو نهاية التاريخ بل سيكون عالمًا من فراغ السلطة، والفوضى والصراع، وسوء التقدير سيكون العالم مكانًا رديئًا بالفعل.
الحقيقة الفوضوية هي أنه في العالم الحقيقي، الأمل الوحيد للحفاظ على الليبرالية في الداخل، الحفاظ على نظام عالمي يُفضي إلى الليبرالية، والقوة الوحيدة القادرة على دعم مثل هذا النظام هي الولايات المتحدة. هذا ليس تعبيرًا عن الغطرسة ولكنه واقع متجذر في الظروف الدولية.
في محاولة للحفاظ على هذا النظام، استخدمت الولايات المتحدة القوة وستمارسها، أحيانًا بطريقة غير حكيمة وغير فعالة، مع تكاليف لا يمكن التنبؤ بها وعواقب غامضة أخلاقيًّا، هذا ما يعنيه استخدام القوة. سعى الأمريكيون بطبيعة الحال للهروب من هذا العبء.
لقد سعوا إلى تجريد أنفسهم من المسؤولية، والاختباء أحيانًا وراء الأممية الحالمة، وأحيانًا وراء استقالة حازمة لقبول العالم «كما هو» وكانوا دائمًا مع الرأي القائل، بأنه: في غياب خطر واضح وقائم، يمكنهم التراجع في قلعتهم كما يصور لهم خيالهم.
آن الأوان لنقول للأمريكيين: إنه لا مفر من المسؤولية العالمية، وإن عليهم التفكير فيما وراء حماية الوطن. إنهم بحاجة إلى فهم أن الغرض من حلف الناتو والتحالفات الأخرى هو الدفاع ليس ضد التهديدات المباشرة لمصالح الولايات المتحدة، ولكن ضد انهيار النظام الذي يخدم تلك المصالح على أفضل وجه. يجب إخبارهم بصدق أن مهمة الحفاظ على النظام العالمي لا تنتهي ومحفوفة بالتكاليف، ولكنها أفضل من أي بديلٍ آخر. أدى الفشل في الانسجام مع الشعب الأمريكي بالبلاد إلى مأزقها الحالي مع وجود جمهور مرتبك وغاضب مقتنع بأن قادته يخونون المصالح الأمريكية من أجل أغراضهم الشائنة تجاه «العولمة».
الترياق المضاد لهذا الوضع، ليس إثارة مخاوفهم بشأن الصين والتهديدات الأخرى، ولكن محاولة الشرح لهم مرة أخرى، لماذا لا يزال النظام العالمي الذي أنشأوه مهمًّا، وهذه وظيفة جو بايدن، وإدارته الجديدة. [1]
المقالة تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير
الكاتب: (روبرت كاغان) – زميل أول لستيفن وباربرا فريدمان في معهد بروكينغز، ومؤلف كتاب أمريكا وعالمنا المُعرض للخطر