تميز العام المنصرم (2022) بتغييرات جذرية في السياسة الخارجية لروسيا. في قلب الأحداث، حدثت أعمق أزمة في العلاقات الروسية- الغربية، كانت تختمر على مدار العقد الماضي. في فبراير (شباط) 2022، انفجرت التناقضات المتراكمة عبر الصراع الروسي- الأوكراني، الواسع النطاق. كانت إحدى النتائج فرض عقوبات اقتصادية على روسيا. في فترة قصيرة من الزمن، أُخرجت روسيا فعليًّا من دائرة العولمة الغربية. لقد تأقلم الاقتصاد المحلي مع الصدمة الأولى. مع أن العام انتهى بركود، فإنه لم يكن كارثيًّا كما كان يبدو في الربيع، عندما بدأ الغرب بقصف روسيا بوابل من العقوبات.
يمكن القول باختصار: لقد بدأ للتو كفاح الاقتصاد الروسي من أجل البقاء. العقوبات الجديدة على روسيا ليست لها سوابق منذ الحرب العالمية الثانية، يمكن اعتبارها الضربة الأكبر والأكثر تماسكًا الموجهة إلى اقتصاد دولة تصنف على أنها قوة عظمى. شمل تسونامي العقوبات الغربية على روسيا، المجموعة الكاملة المعروفة تقريبًا من الإجراءات التقييدية: “حظر المعاملات المالية، وحظر الاستثمار، وحظر التصدير على مجموعة واسعة من السلع والخدمات إلى روسيا، والقيود على الواردات الروسية، وحظر بث وسائل الإعلام الروسية، وحظر وسائل النقل، وعقوبات التأشيرة”. كما ظهرت أشكال جديدة من العقوبات، مثل وضع سقف لأسعار النفط الروسي. استُكمل مسلسل العقوبات الرسمية بمقاطعة الشركات الروسية، والنزوح الجماعي للشركات الغربية من روسيا. الخوف من العقوبات الثانوية والإجراءات القسرية لانتهاك نظام العقوبات يؤدي إلى أنه حتى في الدول الصديقة، تُظهر الشركات حذرًا مفرطًا في التعامل مع روسيا. أصبحت حالات التأخير أو الإلغاء للمدفوعات المصرفية منتشرة في كل مكان، كما تعطلت سلاسل التوريد التقليدية، وخسرت روسيا كثيرًا من الأسواق.
هذه العقوبات ليست مسبوقة فقط في حجمها؛ بل في سرعتها. على سبيل المثال، ما تراكم من عقوبات غربية على إيران أو كوريا الشمالية عقودًا، تم القيام بأكثر منها ضد روسيا في وقت قياسي. الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو استقرار الاقتصاد المحلي، على الأقل في المدى القصير. أدى التضخم وسعر صرف الروبل والأسعار والبطالة والمؤشرات الأخرى إلى تحركات غير سارة، لكنها ظلت تحت السيطرة بشكل عام. في عدد من الصناعات، هناك انخفاض ملحوظ في مستويات الإنتاج، لكنها غير متساوية، وليس لها تأثير تراكمي حتى الآن.
الجواب الأول والواضح، هو أن العقوبات ستتوسع. يجب أن تؤخذ الأطروحة الشائعة داخل روسيا عن استنزاف الغرب بحذر. تصعيد العقوبات ضمن الآليات القائمة سيكون على قدم وساق. بعبارة أخرى، لن تزداد في الاتساع؛ بل في العمق. السيناريو الأكثر توقعًا هو إضافة مزيد من الشخصيات العامة الروسية على قوائم الأشخاص المشمولين بالعقوبات، بالإضافة إلى مجموعة السلع المحظور تصديرها واستيرادها من روسيا. ومع ذلك، لا تزال هناك قيود على نشاط المبادرين للعقوبات. إن تجديد “القوائم السوداء” بشخصيات سياسية وعامة روسية جديدة لن يؤثر في الاقتصاد بأي شكل من الأشكال. تقييد الأصول الإستراتيجية في صناعة النفط والغاز، وغيرها من المجالات، مرتبط بتأثير هذه العقوبات في البيئة العالمية، والأخطار التي يتعرض لها الغرب نفسه عبر مزيد من التضخم وارتفاع الأسعار. كما سيتم توسيع قوائم السلع الممنوع تصديرها. مع ذلك، فإن أهم السلع الصناعية والتكنولوجية محظورة بالفعل. من الناحية النظرية، يمكن توسيع القيود، لكن من السهل استبدال الموردين في القطاعات الأقل تقنية، أو أن نستبدل بهم إنتاجًا روسيًّا خاصًا. الأمر نفسه ينطبق على حظر الواردات من روسيا. لقد أوقف اللاعبون الغربيون بالفعل، أو حدوا من وارداتهم من أهم مصادر الميزانية الروسية، كالطاقة، ومنتجات المعادن، وغيرهما من السلع. بعبارة أخرى، ستأتي حزم جديدة من العقوبات بشكل أكبر، لكن من غير المرجح أن تلحق ضررًا خطيرًا بالاقتصاد.
الأخطر هو العقوبات المفروضة بالفعل، التي سوف يتراكم تأثيرها. تمكنت روسيا من نقل كميات كبيرة من نفطها إلى الأسواق الآسيوية، مع أنها تبيعه بسعر مخفض. سيكون الأمر أكثر صعوبة مع استبدال الأسواق للمنتجات البترولية. على العموم، فإن إعادة التوجيه نحو آسيا أمر حتمي، وليس له بديل آخر متاح لروسيا، لكن التكاليف ستكون أعلى، والعائد على الأرجح أقل. قد يصبح الانخفاض في إنتاج وتصدير النفط والغاز، ومنتجات النفط والفحم، ومنتجات المعادن في السنوات القليلة القادمة أمرًا لا مفر منه. في عام 2022، قوبل الانخفاض في الأحجام بارتفاع الأسعار، لكن ماذا يحدث إذا انخفضت أسعار الخامات؟
مشكلة خطيرة أخرى تنتظر الاقتصاد الروسي، وهي النقص في السلع الصناعية ذات التكنولوجيا العالية والمكونات المتقدمة. بادئ ذي بدء، نحن نتحدث عن الإلكترونيات. نظرًا إلى خصائص الصناعة، فإن كلا من عمليات التسليم من موردين بديلين في البلدان الصديقة، وإحلال الواردات السريع داخل البلد، أمر صعب. مع تآكل القدرات، سيتراكم أيضًا تأثير الحظر على تصدير الأدوات الآلية، والروبوتات، والمحركات، ومجموعة كبيرة من المنتجات الصناعية الأخرى إلى روسيا. تبحث شركاتنا عن موردين في دول صديقة، أو تحاول ترتيب توريد المنتجات الغربية الضرورية من خلال دول ثالثة.
لقد نصب الغرب للروس فخين؛ الفخ الأول هو القوائم السوداء؛ لقد أُدرِجَ عدد كبير من الشركات الروسية الكبيرة الصناعية وشركات التكنولوجيا الفائقة في قوائم الأشخاص المحظورين، وهذا يعني أن المعاملات المالية معهم محفوفة بعقوبات ثانوية على الأطراف المقابلة، حتى في الدول الصديقة. بالإضافة إلى ذلك، سُمّيَت هذه الشركات أيضًا في قوائم مراقبة الصادرات الموجودة جنبًا إلى جنب مع القيود العامة على استيراد السلع والتقنيات إلى روسيا ككل. لن يتمكن المصنعون في البلدان الصديقة الذين يعملون- على سبيل المثال- على المعدات الأمريكية، أو يستخدمون تقنيات وبرامج من الولايات المتحدة، من توريد منتجاتهم إلى العملاء الروس. الفخ الثاني هو الملاحقة الجنائية للالتفاف على العقوبات، والتسليم عبر دول ثالثة. لقد تعلمت الإدارات الغربية (وخاصة الأمريكية) ذات الصلة، الكشف عن هذه المخططات. على مر السنين، تمكنت واشنطن من وقف محاولات إيران وكوريا الشمالية ودول أخرى للتحايل على العقوبات المفروضة عليها. هذا لا يعني- بالطبع- أنه لن يتم البحث عن طرق للالتفاف. بالإضافة إلى ذلك، فإن النسبة الدقيقة لمن تم القبض عليهم، وأولئك الذين تمكنوا من انتهاك نظام العقوبات، غير معروفة. ومع ذلك، فمن المتوقع تمامًا أن تُعَزَّز تدابير سد الثغرات وخطط التحايل من جانب الدول الغربية عدة مرات.
مع الأخذ في الحسبان أخطار العقوبات الثانوية والتدابير القسرية، سيُشَكّل “مخطط موازٍ” للتعاون مع روسيا. في الصين والهند وتركيا وبلدان أخرى، ستبدأ التجمعات الصناعية والمالية بالظهور، وستركز حصريًا على التفاعل مع الاتحاد الروسي. لن تمنعهم العقوبات الثانوية؛ لأن وجهتهم الوحيدة ستكون روسيا. ومع ذلك، فإن هذا “المسار المغلق” سيظل هامشيًّا مقارنة بأنشطة البنوك والشركات الصناعية العالمية. لن تكون العقوبات قادرة على عزل روسيا، لكنها وضعت لزيادة التكاليف، وتعقيد التجارة الخارجية تعقيدًا كاملًا. السؤال هو: إلى أي مدى يمكن للاقتصاد العالمي المتمركز حول الغرب أن يتحمل ذلك؟ كذلك، ما الوضع إذا خرجت الصين أيضًا- لسبب أو لآخر- من المنظومة الغربية؟ حينئذ يمكن القول إن فاعلية العقوبات الغربية ستنخفض انخفاضًا ملحوظًا. ومع ذلك، لا يزال هذا السيناريو يبدو بعيد المنال. باختصار، في عام 2023، تنتظرنا معارك وظروف صعبة على جبهة العقوبات[1].