لمدة 21 عامًا، كان فلاديمير بوتين هو صاحب الصدارة على السياسة الروسية. فهو متلاعب ماهر بالرأي العام، ويمارس القوة الصارمة للقمع ضد المعارضين في الداخل، والقوة الحادة للعمليات الإلكترونية وحملات التجسس ضد الأعداء في الخارج. على نحو متزايد، يصوره المحللون والمسؤولون الغربيون على أنه رجل قوي كليًّا، ورجل المخابرات السوفيتي السابق الذي لا يرحم والذي يفرض إرادته على روسيا من وراء النظارات الشمسية الداكنة هذه الرواية، التي يبذل الكرملين قصارى جهده لتعزيزها، مغرية للتصديق. لقد سجن بوتين أشهر مُعارض سياسي له – زعيم المعارضة أليكسي نافالني – وسحق موجة من الاحتجاجات من قبل أنصار نافالني. وقامت وكالات استخبارات بوتين باختراق مؤسسات الحكومة الأمريكية بوقاحة، وقواته تعمل تدريجيًّا على تآكل النفوذ الأمريكي في كل مكان؛ من ليبيا إلى سوريا وصولًا لأوكرانيا.
لكن إذا كان بوتين منقطع النظير في الداخل، فهو ليس كلي القدرة. مثل كل الحكام السلطويين، يواجه تهديدات مزدوجة بانقلاب من النخب حوله أو ثورة شعبية من أسفل. وبسبب التنازلات التي كان عليه القيام بها لتعزيز سيطرته الشخصية على الدولة، فإن أدوات بوتين لموازنة الأهداف المتنافسة المتمثلة في مكافأة النخب التي قد تتآمر ضده وتهدئة الجمهور أصبحت أقل فاعلية. ولقد أضعف مؤسسات مثل المحاكم والبيروقراطيات والانتخابات والأحزاب والمجالس التشريعية بحيث لا يستطيعون تقييده، بمعنى أنه لا يستطيع الاعتماد عليها لتوليد النمو الاقتصادي أو حل النزاعات الاجتماعية أو حتى تسهيل خروجه السلمي من المنصب. وهذا يترك بوتين معتمدًا على السلعة العابرة للشعبية الشخصية وأساليب القمع والدعاية الخطرة.
كثيرًا ما يلاحظ أولئك الذين يعترفون بنقاط الضعف هذه أن بوتين «يلعب دورًا ضعيفًا بشكل جيد». لكن بوتين تعامل بنفسه، وهو ضعيف في المقام الأول بسبب المقايضات المتأصلة في أنظمة مثل النظام الذي بناه. في نهاية المطاف، سيتعين عليه أن يقرر ما إذا كان سيستمر في نفس عملية التوازن، أو أن يلعب بمهارة يده الضعيفة حتى مع تقليص سلطته تدريجيًّا، أو محاولة تقوية يده من خلال إدخال إصلاحات اقتصادية من شأنها أن تهدد قواعده الأساسية في الأجهزة الأمنية، البيروقراطية والقطاع الخاص.
كان بوتين مدعومًا بالطفرة الاقتصادية التي يغذيها النفط والتي رفعت مستويات المعيشة بشكل حاد في العقد الأول من توليه المنصب وموجة من المشاعر القومية بعد ضم/عودة شبه جزيرة القرم في عهده الثاني. مع بدء بريق هذه الإنجازات في التلاشي، أصبح بوتين في العقد الثالث من حكمه يعتمد بشكل متزايد على القمع لتحييد المعارضين الكبار والصغار على حد سواء. ومن المرجح أن يشتد هذا الاتجاه مع تصاعد مشاكل روسيا، مما يسرع دورة العنف السياسي والضيق الاقتصادي الذي قد يحبط طموحات بوتين في الحصول على القوة العظمى ويختبر مهارته السياسية.
يتم دعم سرد بوتين باعتباره صاحب سلطة كاملة جزئيًّا من قبل المحللين الذين يعتقدون أنه لفهم الاستبداد، يجب على المرء أن يفهم المستبد. يبحث علماء بوتين عن خلفية الزعيم الروسي، ومساره المهني، وحتى اختياراته في القراءة بحثًا عن أدلة على سياساته. ويقدم تحليلهم قصة مقنعة عن روسيا بوتين، لكنه لا يفسر كل هذا القدر من الأهمية. بعد كل شيء، كان بوتين رجلًا سابقًا في المخابرات السوفيتية في السنوات الأولى من هذا القرن عندما فضَّل السياسات الاقتصادية الليبرالية وعلاقات أفضل مع الغرب، كما هو الحال اليوم، بموقفه الصارم المناهض للغرب. والأهم من ذلك، أن السياسة الروسية تتبع أنماطًا مشتركة بين مجموعة فرعية من الأنظمة الاستبدادية التي يسميها علماء السياسة «الأنظمة الاستبدادية الشخصية». إن دراسة هذا النوع من النظام، بدلًا من دراسة الرجل بنفسه، هي أفضل طريقة لفهم روسيا بوتين.
الأوتوقراطيات الشخصية، كما يوحي الاسم، يديرها أفراد وحيدون. غالبًا ما يكون لديهم أحزاب سياسية، ومجالس تشريعية، وجيوش مؤثرة، لكن السلطة على الأفراد المهمين أو القرارات السياسية تكمن دائمًا في وجود شخص واحد في القمة. ومن الأمثلة المعاصرة لهذا النوع من الأنظمة نظام فيكتور أوربان في المجر، ونظام رودريجو دوتيرتي في الفلبين، ونظام رجب طيب أردوغان في تركيا، ونظام نيكولاس مادورو في فنزويلا. أثبت الفضاء السوفيتي السابق أنه مضياف بشكل خاص للحكام المستبدين: مثل هؤلاء القادة يحكمون حاليًّا أذربيجان وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان. على الصعيد العالمي، تعد الأنظمة الاستبدادية الشخصية الآن النوع الأكثر شيوعًا من الاستبداد، حيث يفوق عدد أنظمة الحزب الواحد، مثل تلك الموجودة في سنغافورة وفيتنام، والأنظمة العسكرية، مثل أنظمة ميانمار.
تعرض الأنظمة الاستبدادية الشخصية مجموعة من الأمراض المألوفة لدى مراقبي روسيا. لديهم مستويات أعلى من الفساد من نظام الحزب الواحد أو الأنظمة الاستبدادية العسكرية ونمو اقتصادي أبطأ وقمع أكبر وسياسات أقل استقرارًا. ويمتلك الحكام في الأنظمة الاستبدادية الشخصية أيضًا مجموعة أدوات مشتركة: فهم يؤججون المشاعر المعادية للغرب لحشد قاعدتهم، ويشوهون الاقتصاد لصالح المقربين، ويستهدفون المعارضين السياسيين باستخدام النظام القانوني، ويوسعون السلطة التنفيذية على حساب المؤسسات الأخرى. في كثير من الأحيان، يعتمدون على دائرة داخلية غير رسمية من صانعي القرار والتي تضيق بمرور الوقت وتعين الموالين أو أفراد الأسرة في المناصب الحاسمة في الحكومة. وينشئون منظمات أمنية جديدة تقدم تقاريرهم إليهم مباشرة وتناشد الدعم الشعبي بدلًا من انتخابات حرة ونزيهة لإضفاء الشرعية على سلطتهم.
يمكن تفسير هذه الميول بسهولة عندما يفكر المرء في ما يمكن أن يخسره المستبدون الشخصيون إذا تركوا مناصبهم. يمكن لقادة الديكتاتوريات العسكرية أن يتراجعوا إلى الثكنات، ويمكن لرؤساء ديكتاتوريات الحزب الواحد أن يتقاعدوا إلى مناصب زاهية في الحزب، لكن الديكتاتوريين الشخصيين يتمتعون بثرواتهم ونفوذهم فقط طالما بقوا في السلطة. وبمجرد أن يتنازلوا عنها، فإنهم يصبحون تحت رحمة خلفائهم، الذين نادرًا ما يريدون منافسين أقوياء ينتظرون في الأجنحة. على مدار السبعين عامًا الماضية، مال المستبدون الشخصيون الذين فقدوا السلطة إلى أن ينتهي بهم المطاف في المنفى أو السجن أو الموت.
على الرغم من أنه قد لا يظهر ذلك، إلا أن بوتين يدرك بالتأكيد هذا الخطر. كما قال جليب بافلوفسكي، المستشار السابق للزعيم الروسي والمعارض الآن، في مقابلة عام 2012:
«في مؤسسة الكرملين كان هناك قناعة مطلقة بأنه بمجرد أن يتغير مركز السلطة، أو إذا كان هناك ضغط جماهيري، أو ظهور زعيم شعبي، فستتم إبادة الجميع. إنه شعور بضعف كبير. حالما يتم منح شخص ما الفرصة – ليس بالضرورة الناس، ربما الحكام، ربما بعض الفصائل الأخرى – سوف يدمرون المؤسسة ماديًّا، أو سيتعيَّن علينا القتال لتدميرها بدلًا من ذلك».
لا تنتهي أوجه التشابه بين بوتين والديكتاتوريين الشخصيين الآخرين بمخاوفه من الإقصاء (الخروج مِن السلطة). مثل نظرائه الفلبينيين والهنغاريين والأتراك والفنزويليين وآسيا الوسطى، فقد أدى تدريجيًّا إلى تآكل سلطات المجلس التشريعي، وإخضاع وسائل الإعلام المستقلة، وتقويض الانتخابات واغتصاب السلطة من المسؤولين الإقليميين الأقوياء في السابق. في العام الماضي، أجرى بوتين تغييرات في دستور روسيا من شأنها أن تسمح له بالترشح للمنصب عام 2024 و2030. وبالنظر إلى الجوانب السلبية المحتملة لترك المنصب باعتباره مستبدًّا شخصيًّا، فإن هذا الجهد لإطالة أمد حكمه لم يكن مفاجئًا. في مواجهة حدود متشابهة لمحيطه، حيث اتخذ كل مستبد شخصي في بلدان الاتحاد السوفيتيي السابق نفس الاختيار.
لكن من خلال تقويض أنواع المؤسسات السياسية التي تقيد السلطة التنفيذية، قلل بوتين من اليقين بشأن السياسة وزاد من ضعف النخب. نتيجة لذلك، يفضل المستثمرون وضع رؤوس أموالهم في ملاذات آمنة خارج روسيا، وقد أخذ العديد من الشباب الروسي رأس مالهم البشري الكبير إلى الخارج. حتى الروس فاحشو الثراء يشعرون بالضعف: فهم يمتلكون قدرًا أكبر بكثير من ثروتهم نقدًا ولديهم دخل أكثر تقلبًا من نظرائهم في البلدان الأخرى، وقد قاوموا دعوات الكرملين لإعادة رؤوس أموالهم إلى أوطانهم.
بدون مؤسسات رسمية قوية لإضفاء الشرعية على حكمه، يعتمد بوتين على شعبية شخصية كبيرة لردع تحديات النخب وإبعاد المحتجين عن الشوارع على مدار العشرين عامًا الماضية، بلغ متوسط معدلات تأييد بوتين 74%، وليس هناك سبب وجيه للاعتقاد بأن الروس يكذبون على منظمي استطلاعات الرأي بأعداد كبيرة. لكن معدلات القبول العالية هذه كانت مدفوعة إلى حد كبير بالازدهار الاقتصادي الذي ضاعف حجم الاقتصاد الروسي بين عامي 1998
و2008 والنجاح الفريد للسياسة الخارجية بضم /عودة شبه جزيرة القرم في عام 2014. منذ عام 2018 تراجعت شعبية بوتين، لكن لا تزال معدلات تأييده مرتفعة، لكن الروس يبدون ثقة أقل بكثير مما كانوا عليه في الماضي. في استطلاع للرأي أُجري في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، عندما طُلب منهم تسمية خمسة سياسيين يثقون بهم، ذكر 59% من المشاركين بوتين؛ بينما في فبراير (شباط) 2021، 32% فقط فعلوا ذلك. خلال الفترة نفسها انخفض التأييد لولاية خامسة لبوتين من 70% إلى 48%، حيث قال 41% من الروس الذين شملهم الاستطلاع الآن إنهم يفضلون تنحي بوتين.
بوتين مقيد ليس فقط بحاجته إلى درجات عالية من التأييد، ولكن أيضًا بسبب تحديات حكم مجتمع حديث مع بيروقراطية غير عملية. في كتاب “Khrushchev: The Man and His Era” يروي الباحث السياسي ويليام توبمان كيف اشتكى نيكيتا خروتشوف، الذي قاد الاتحاد السوفيتي من 1953 إلى 1964 وسيطر على الحزب الشيوعي والجهاز البيروقراطي الذي كان له تأثير أكبر بكثير على المجتمع من بوتين، إلى الزعيم الكوبي فيدل كاسترو عن حدود سلطته:
«كنت تعتقد أنه يمكنني تغيير أي شيء في هذا البلد، وقد حاولت بشدة، بغض النظر عن التغييرات التي أقترحها وأقوم بها، يبقى كل شيء على حاله روسيا مثل حوض مليء بالعجين، تضع يدك فيه لأسفل، وتعتقد أنك سيد الموقف. عندما تقوم بسحب يدك لأول مرة، يبقى ثقب صغير، ولكن بعد ذلك، أمام عينيك، يتمدد العجين إلى كتلة إسفنجية منتفخة تبتلع كل شيء. هذا ما تبدو عليه روسيا».
إن الحجم الهائل لروسيا وتعقيدها البيروقراطي يعني أن على بوتين حتمًا أن يفوض بعض سلطات صنع القرار إلى المسؤولين من المستوى الأدنى وجميعهم لديهم مصالحهم الخاصة. ولأن مؤسسات الدولة الروسية ضعيفة، يجب على بوتين أن يعمل أيضًا مع رجال الأعمال الأقوياء الذين هم أكثر حرصًا على جني الأموال من خدمة الدولة. نظرًا لأن سلطة بوتين يتم توجيهها إلى أسفل من خلال هذه السلسلة من البيروقراطيين ورجال الأعمال والجواسيس الذين قد يشاركونهم تفضيلاته أو لا يشاركونه، فإن الانزلاق يحدث حتمًا، ولا يتم تنفيذ السياسات دائمًا بالطريقة التي كان يفضلها.
تزداد المشكلة سوءًا عندما يسعى الكرملين إلى الحفاظ على الإنكار المعقول لتزويد المتمردين سرًّا في شرق أوكرانيا، على سبيل المثال، دخل بوتين في شراكة مع كونستانتين مالوفيف، وهو أوليغارشي روسي يُزعم أنه مول مجموعة من المرتزقة الخاصين الذين حافظوا على علاقات غير مباشرة مع الجيش الروسي. ومع ذلك، في يوليو (تموز) 2014، يبدو أن هؤلاء المتمردين أسقطوا عن غير قصد طائرة تجارية ماليزية، مما أسفر عن مقتل ما يقرب من 300 من الركاب وأفراد الطاقم. من أجل التمويه على هجماته الإلكترونية، يعتمد الكرملين بالمثل على المتسللين الذين يعملون في شركات واجهة للقطاع الخاص ولكنهم يخضعون لأجهزة الأمن الروسية. في عام 2016، كان إهمال هؤلاء المتسللين هو الذي سمح للولايات المتحدة بتحديد روسيا على أنها مصدر اختراق اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي. أطلق المحلل الروسي مارك جاليوتي على إسناد الكرملين الأعمال القذرة إلى مجموعات تربطها علاقات غامضة بالدولة اسم «أدهقراطية»، هذه الطريقة في فن الحكم تخفي يد موسكو، لكنها تخفف قبضتها على السياسة.
كما يعاني الكرملين من المزيد من المهام المؤسساتية أيضًا، في عام 2012، أصدر بوتين مجموعة مفصلة من الأهداف لزيادة النمو الاقتصادي وتحسين الكفاءة البيروقراطية ودعم البرامج الاجتماعية. كان سوء صياغة هذه المراسيم أحد المؤشرات على ضعف البيروقراطية (من بين العيوب الأخرى، افترضوا بتفاؤل معدل نمو سنوي يبلغ 7%). ولكن الأمر الأكثر دلالة هو الافتقار إلى المتابعة. في الذكرى السنوية الخامسة لهذه المراسيم ذكر سيرجي ميرونوف، رئيس حزب “A Just Russia” المقرب للسلطة في الكرملين، أن البيروقراطية نفذت 35 فقط من أصل 179 مرسومًا رصدتها لجنته في البرلمان. لطالما كافح الأوتوقراطيون لانتزاع معلومات صادقة من مرؤوسيهم والتأكد من ترسخ سياساتهم، وبوتين ليس استثناءً.
يواجه المستبدون الفردانيون أنفسهم، وهم مقيدون ومعيقون بسبب التسويات التي تمكنهم من الإمساك بالسلطة، من أجل تحقيق التوازن في الدفاع ضد التهديدين الرئيسيين لحكمهم: الانقلابات التي تقوم بها النخبة السياسية والاحتجاجات من قبل الجمهور. وعادة ما يكون لمن هم في الدائرة الداخلية للزعيم مصلحة في بقاء النظام. وينطبق هذا على أصدقاء بوتين الذين أصبحوا أغنياء بما يفوق أحلامهم. لكن هذه النخب تشكل أيضًا تهديدًا محتملاً. يمكن للنخب الحاكمة الإطاحة بالمستبد الشخصي الذين يعتمدون عليهم بشدة للحصول على الدعم. علاوة على ذلك، نادرًا ما يكون الشخص السياسي المطلع الذي يعتقد أنه لا يمكنه القيام بعمل أفضل من رئيسه إذا أتيحت له الفرصة. وفقًا لعلماء السياسة باربرا جيديس، وجوزيف رايت وإريكا فرانتز، بين عامي 1945 و2012 كان من المرجح أن يتم استبدال قادة الدول غير الديمقراطية بانقلاب النخبة بأكثر من ضعف احتمالية استبدالهم بالثورة الشعبية.
يواجه المستبدون أيضًا تهديدات من أسفل في شكل احتجاجات. أطاحت «الثورات الملونة» بالحكام في جورجيا في عام 2003، وأوكرانيا في عام 2004 وقرغيزستان في عام 2005. القليل من المخاوف هي التي تحرك الكرملين أكثر من احتمال اندلاع انتفاضة شعبية، ويجادل العديد من المحللين بأنها كانت الاحتجاجات الكبيرة ضد الفساد والتزوير الانتخابي. في عامي 2011 و2012 مما دفع الكرملين إلى زيادة العقوبات بشكل حاد على المشاركة في الاحتجاجات وتنظيمها.
تضع هذه التهديدات المزدوجة بوتين في مأزق، لأن الخطوات التي قد تقلل من خطر الانقلاب من قبل النخب يمكن أن تزيد من خطر اندلاع ثورة شعبية، والعكس صحيح. قد يستلزم الاستثمار في الأجهزة الأمنية، التي تشتري ولاء النخب، إجراء تخفيضات في الخدمات الاجتماعية التي تثير الغضب الشعبي وتخاطر بإشعال الاحتجاجات. على العكس من ذلك، قد تتطلب البرامج الاجتماعية السخية التي ترضي الجمهور وتحبط التمرد تخفيضات في الإنفاق الحكومي، مما يغضب المطلعين على النظام، ويجعل احتمال حدوث انقلاب في القصر أكثر ترجيحًا. بشكل عام، يجب على بوتين أن يسير في خط ضيق بين السماح لأصدقائه بالانخراط في ما يكفي من الفساد والتعامل مع الذات لإبقائهم موالين، وتعزيز نمو اقتصادي واسع النطاق بما يكفي لمنع الجمهور من الاحتجاج.
في العقد الأول من توليه المنصب، حجبت أسعار الطاقة المرتفعة وسياسة الاقتصاد الكلي السليمة هذه المقايضة، مما سمح لبوتين بمكافأة كل من النخب والجماهير بزيادات مذهلة في الدخل. لكن أيام 100 دولار لبرميل النفط ومستويات المعيشة المرتفعة وراءه، ويتعين على بوتين الآن الاختيار بين مكافأة أصدقائه وإصلاح الاقتصاد. يبدو أن الاقتتال الداخلي بين النخب، على الرغم من صعوبة قياسه دائمًا، آخذ في الازدياد مع انخفاض سخاء النظام الاقتصادي. شهدت السنوات الأربع الماضية سجن وزير الاقتصاد الحالي بتهمة الرشوة، واعتقال عضو في مجلس الشيوخ على أرض الجمعية الفيدرالية بتهمة القتل، ورجل أعمال أمريكي بارز احتجز لمدة عامين تقريبًا. زادت الاعتقالات بسبب الجرائم الاقتصادية، والتي غالبًا ما تكون سببًا تقريبيًّا لمداهمات عنيفة للشركات، بمقدار الثلث في عام 2019.
الشعب أيضًا غير مستقر، حيث انخفض دخل الأسرة الحقيقي كل عام بين عامي 2013 و2019. وخفضت إصلاحات نظام التقاعد 15 نقطة مئوية بموافقة بوتين على مدار عام 2018، ويشير الروس بشكل روتيني إلى الصعوبات الاقتصادية باعتبارها أكثر مشاكلهم إلحاحًا. ترجع جذور الاحتجاجات في يناير/كانون الثاني لدعم نافالني، والتي حدثت في أكثر من 100 مدينة، إلى عدم الرضا الاقتصادي بقدر ما ترجع إلى معارضة بوتين.
يواجه بوتين معضلة مماثلة في السياسة الخارجية. السياسات اللازمة لتوليد الديناميكية الاقتصادية – فتح الاقتصاد أمام التجارة الخارجية، والحد من الفساد، وتعزيز سيادة القانون، وزيادة المنافسة، وجذب الاستثمار الأجنبي – يصعب مواءمتها مع سياسته الخارجية الحازمة، التي استفاد منها المتشددون في وكالات وشركات الأمن في القطاعات المتنافسة مع الاستيراد. أعادت سياسة الكرملين الخارجية الأكثر تصادمية تجاه الغرب موسكو مرة أخرى كقوة عالمية وضمنت مكانة بوتين في التاريخ الروسي، لكنها أعاقت أيضًا الإصلاحات الاقتصادية التي تشتد الحاجة إليها والتي من شأنها تعزيز مكانة البلاد في الخارج على المدى الطويل وإرضاء المواطنين الروس. وفقًا لاستطلاعات الرأي، يهتم معظمهم بمستويات معيشتهم أكثر من اهتمامهم بوضع بلادهم كقوة عظمى.
أدى ضم/عودة موسكو لشبه جزيرة القرم وتدخلها في شرق أوكرانيا إلى عقوبات أمريكية وأوروبية أدت إلى زيادة تباطؤ الاقتصاد. أدت هذه الإجراءات إلى تخويف المستثمرين الأجانب وتقليص وصول روسيا إلى التكنولوجيا والتمويل الأجنبي. إن دعوة نخب الكرملين بشكل متكرر إلى إزالة هذه العقوبات هي دليل على الألم الكبير، وإن كان متقطعًا، الذي تسببت فيه لبعض الأوليغارشية على وجه الخصوص.
من المحتمل أن يعرف بوتين أنه يمكن أن يعزز النمو الاقتصادي من خلال رسم سياسة خارجية أقل حزمًا. أخبر مستشاره منذ فترة طويلة أليكسي كودرين، الذي شغل منصب وزير المالية الروسي من عام 2000 إلى عام 2011 وهو الآن كبير مدققي الحسابات في الحكومة، منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي في عام 2018 أن نجاح السياسة الاقتصادية لروسيا يعتمد على الحد من التوترات مع الغرب. التعليق الذي جلب توبيخًا سريعًا من وزارة الخارجية الروسية. يواصل بوتين تحدي الغرب، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، لتعزيز شعبيته بين الناخبين القوميين. ولكن كما هو الحال مع جميع إستراتيجيات بوتين لإدارة التهديدات لحكمه، فإن تأجيج المشاعر الوطنية يأتي بتكلفة – في هذه الحالة، نمو اقتصادي واسع النطاق.
مثل جميع المستبدين الشخصيين، يمتلك بوتين أدوات حادة نسبيًّا لإدارة المفاضلات المتأصلة في منصبه. لقد نجح في بسط سيطرته على وسائل الإعلام، لكنه ليس متلاعبًا رئيسيًّا. إذا كان كذلك، فإن الرأي العام سيعكس بشكل أوثق موقف الكرملين في السياسة الخارجية. حظي ضم/عودة بوتين لشبه جزيرة القرم بشعبية كبيرة، لكن دعم استخدام القوات الروسية في شرق أوكرانيا وسوريا كان دائمًا متواضعًا للغاية. على الرغم من خطاب الكرملين القاسي المناهض لكييف، فإن لدى معظم الروس نظرة إيجابية لأوكرانيا، ويؤيد 15% فقط الوحدة مع الدولة. لقد شن الكرملين أيضًا حملة صاخبة ضد أمريكا في السنوات الأخيرة، لكن من المرجح أن يتبنى الروس نظرة إيجابية تجاه الولايات المتحدة بقدر ما يتبنون وجهة نظر سلبية. وفقًا لاستطلاع الرأي في يناير (كانون الثاني) 2020، يعتقد ثلثا الروس أن حكومتهم يجب أن تنظر إلى الغرب كشريك وليس كخصم أو عدو. فشلت محاولات الكرملين لنقل اللوم عن الأزمة الاقتصادية الروسية إلى الدول الأجنبية إلى حد كبير، ويعتقد القليل من الروس أن حكومتهم قادرة على تحسين وضعهم الاقتصادي. فيما يسميه الروس «المعركة بين التليفزيون والثلاجة»، فإن الأخيرة تربح.
يتمثل جزء من مشكلة الكرملين في أن التلاعب بالمعلومات يؤدي أحيانًا إلى نتائج عكسية. إذا اعتقد الناس أن المعلومات التي يتلقونها يتم نسجها فسوف يفقدون الثقة في المصدر. عندما أصبح التلفزيون الروسي أكثر تسييسًا خلال العقد الماضي، أصبح المشاهدون الروس أكثر تشككًا. وفقًا لاستطلاعات الرأي العام، انخفضت ثقة المشاهدين فيما يشاهدونه على التلفزيون من 79% في عام 2009 إلى 48% فقط في عام 2018. وفي الوقت نفسه، انخفضت نسبة الروس الذين ذكروا التلفزيون كمصدر رئيسي للأخبار من 94% إلى 69% بين عامي 2009 و2020.
يحتفظ بوتين بورقة القوة الرابحة، وهي ورقة لعبها بوتيرة متزايدة مع ركود الاقتصاد وتلاشي الوهج الدافئ لضم/عودة شبه جزيرة القرم. منذ عام 2018 تعامل الكرملين مع المعارضة السياسية بشكل أكثر قسوة مما كان عليه في الماضي، مما جعل من الصعب على المرشحين المستقلين الترشح حتى للمناصب المحلية واستخدام القوة ضد المتظاهرين كقاعدة وليس استثناء. في أواخر عام 2020 وأوائل عام 2021، زاد الكرملين من تقييد نشاط الاحتجاج، وزاد بشدة العقوبات المفروضة على الاحتجاجات غير المصرح بها، ووسع تعريف «العملاء الأجانب»، وجعل القذف على الإنترنت يعاقب عليه بالسجن لمدة تصل إلى عامين. اعتقال نافالني، والحكم عليه بالسجن قرابة ثلاث سنوات، والمعاملة الوحشية للمتظاهرين نيابة عنه، هي الامتداد المنطقي لهذا الاتجاه القمعي.
اعتماد بوتين المتزايد على القمع هو علامة على فشل أدواته الأخرى. يكمن الخطر بالنسبة للكرملين في أن القمع يأخذ زخمًا معززًا ذاتيًّا. كما جادل العالم السياسي كريستيان دافنبورت، فإن الأنظمة الاستبدادية التي تلجأ إلى القمع عادة ما تعتمد عليه أكثر فأكثر بسبب ميلها إلى إدامة المشاكل التي تولد المعارضة في المقام الأول. إن القمع على الاحتجاجات المتجذرة في مستويات المعيشة المتدهورة يزيد من المظالم الشعبية بين المحرومين اقتصاديًّا ويزيد من ترسيخ أولئك الذين يستفيدون من الوضع الراهن. كما يزيد القمع من اعتماد الحاكم على الأجهزة الأمنية ويزاحم الوسائل الأخرى للتعامل مع المعارضة.
ساعد القمع المكثف في إبقاء بوتين في منصبه ودفع المعارضة السياسية إلى الهامش، لكنه لم يفعل شيئًا يذكر لحل المشاكل الأساسية التي تهدد سلطته. لم يشجع النمو الاقتصادي، أو يعزز حقوق الملكية، أو يقلل الفساد. بل على العكس، فقد فاقمت المشكلات من خلال تمكين الأجهزة الأمنية والمسؤولين الحكوميين الفاسدين الذين يستفيدون منها أكثر من غيرهم، وشجع على هروب رأس المال البشري والاقتصادي الضروري للنمو الاقتصادي والحكم الرشيد. والدليل على هذه القضية هو حقيقة أنه في عام 2018، أنفقت روسيا أكثر على السجون وأقل على السجناء من أي دولة أخرى في أوروبا.
إن الارتفاع المستقبلي في أسعار الطاقة الذي زاد من تدفق الإيجارات للنخبة ووفر الرخاء للجمهور الأوسع من شأنه أن يمنح بوتين بعض الراحة. ومع ذلك، إذا بقيت أسعار الطاقة كما هي، فإن مستقبله يبدو صخريًّا. بالنظر إلى تناقص عوائد التلاعب بوسائل الإعلام، فإن المزيد من القمع والقيود الإضافية على الحقوق السياسية يبدو رهانًا جيدًا. بعد أن قام بالفعل بإمالة الملعب الانتخابي ضد المعارضة وزاد العقوبة بشكل كبير على الاحتجاج، بدأ الكرملين في التحرك ضد منصات وسائل التواصل الاجتماعي التي استخدمها خصوم بوتين لكسب التأييد. في مارس (آذار)، أعلن الكرملين عن اتهامات ضد فيسبوك وتويتر ويوتيوب وتيك توك ومواقع تواصل محلية ( VK ) و (Odnoklassniki) بحجة فشلها في إزالة المواد الضارة بالأطفال.
من المرجح أن تكون الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في سبتمبر (أيلول) محفوفة بالمخاطر. أصبحت معدلات الموافقة على حزب روسيا الموحدة الحاكم أقل من أي وقت مضى، ولذا سيحتاج الكرملين إلى تضييق الخناق على المعارضة مع الإبقاء أيضًا على الحزب الشيوعي الصديق للنظام والحزب الديمقراطي الليبرالي في الحظيرة. والاعتماد على التزوير المفرط للناخبين سيكون محفوفًا بالمخاطر. بعد انتخابات مسروقة العام الماضي، شهدت بيلاروسيا المجاورة شهورًا من الاحتجاجات، وهو مصير يود الكرملين تجنبه.
بالنظر إلى المستقبل، فإن توقع بقاء بوتين كرئيس لما بعد عام 2024 لن يؤدي إلا إلى تعزيز الركود الاقتصادي في روسيا وزيادة الإحباط الشعبي بشأن عجز الكرملين عن رفع مستويات المعيشة أو تحسين الحكم. ستكون النتيجة على الأرجح زيادة مطردة في الضغط على النظام والقمع ضد خصومه.
تظل روسيا قوة عظمى، وإن كانت قوة متضائلة. على الرغم من أن ليونيد بريجنيف، الذي قاد الاتحاد السوفيتي في ذروة قوته العالمية، سيصاب بالذهول من القدرات العسكرية الحالية للبلاد والوضع الجيوسياسي، فإن بوريس يلتسين، الذي ورث دولة في حالة انهيار، سينظر إليهم بحسد.
تضمن قوة روسيا النووية وجغرافيتها ومقعدها في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أنها تحتل مرتبة بين القوى العظمى – كما تفعل قوتها التعليمية والعلمية والطاقة. يوجد في البلاد عدد من خريجي الجامعات كنسبة من سكانها أكثر من أي عضو تقريبًا في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. لقد أنتجت لقاحًا فعالًا لـ COVID-19 في أقل من عام، وستزود أوروبا بطاقة منخفضة التكلفة لسنوات قادمة وستظل لاعبًا رئيسيًّا في أسواق الطاقة العالمية.
لا يواجه بوتين أي تهديد مباشر لحكمه. إنه تكتيكي ماهر يتمتع بموارد مالية كبيرة ويواجه معارضة غير منظمة. ومع ذلك، لا يمكن لأي قدر من الدهاء أن يتغلب على المقايضات المؤلمة لإدارة روسيا بالطريقة التي يفعلها. «غش» بما فيه الكفاية في الانتخابات حتى لا تخاطر بالخسارة، ولكن ليس كثيرًا بحيث يشير إلى الضعف. «حشد» القاعدة بخطوات معادية للغرب، لكن ليس بالقدر الذي يثير صراعًا حقيقيًّا مع الغرب. “كافئ” المقربين من خلال الفساد، ولكن ليس بقدر ما ينهار الاقتصاد. «تلاعب» بالأخبار، ولكن ليس لدرجة عدم ثقة الناس في وسائل الإعلام. «قمع» المعارضين السياسيين لكن ليس بما يكفي لإثارة رد فعل شعبي عنيف. «تقوية» الأجهزة الأمنية، ولكن ليس بقدر ما يمكنها أن تتحكم فيك. وكيفما يوازن الكرملين بين هذه المقايضات سيتحدد مستقبل روسيا القريب.[1]
المقالة تعبر عن رأي الصحيفة أو الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير