تواجه العلاقات الصينية الأمريكية حاليًا تحديات كبيرة منذ وصول إدارة بايدن إلى السلطة، حيث نفذت مجموعة من سياسات ترمب بدون وجوده، في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، أصدرت إدارة بايدن أول تقرير عن “إستراتيجية الأمن القومي”، مستهدفًا الصين بوصفها الدولة الأكثر خطرًا، وقادرة على تهديد الوضع الدولي للولايات المتحدة، وتم التركيز على قضايا بحر الصين الجنوبي وتايوان لممارسة ضغوط قوية على بكين، بالإضافة إلى الاستمرار في الحفاظ على التعريفات الإضافية التي فرضتها إدارة ترمب على الصادرات الصينية، وفي الوقت نفسه، شن حرب تكنولوجية، ووُضِعَ ما يقرب من (2000) شركة صينية على ما يسمى “قائمة الكيانات” التي تقيد صادرات التكنولوجيا، وتعوق تطوير أشباه الموصلات المتطورة، وغيرها من الصناعات.
في الوقت الحاضر، تفتقر العلاقات الصينية الأمريكية إلى آلية حوار دائمة عالية المستوى، ونقص قنوات الاتصال الفعالة. فمنذ أن تولى ترمب منصبه عام 2017، أوقفت الولايات المتحدة آلية الاجتماعات الدورية مع الصين، وألغت ترتيبات الحوار المؤسسي “للحوار الإستراتيجي والاقتصادي” الذي أُطلق خلال إدارة أوباما. وبعد وصول بايدن إلى السلطة شدد على ما يسمى بـ “المنافسة الإستراتيجية” مع الصين، واعتقد أن استعادة آلية الحوار الرفيع المستوى لن تفيد الولايات المتحدة.
في مواجهة “عدائية” الولايات المتحدة المستمرة للصناعات والشركات الصينية، اعتمدت الصين تدابير اقتصادية، وعسكرية، وأمنية، وقانونية مضادة. والأهم أن الحصار الذي تفرضه واشنطن على المنتجات التكنولوجية قد أدى إلى تسريع عملية استبدال الواردات للصناعات الصينية، حيث حاولت بكين تطوير بنيتها التقنية الذاتية، لتزيد من أخطار الشركات الأمريكية بفقدان السوق الصينية، وهذه هي القضية الأكثر إثارة للقلق لدوائر الأعمال الأمريكية في الصين.
مؤخرًا، بدأت إدارة بايدن بتغيير إستراتيجيتها تجاه الصين، وأرسلت كبار مسؤوليها، مثل وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكين، ووزيرة الخزانة جانيت لويز يلين، والمبعوث الأمريكي الخاص بتغير المناخ جون كيري. ومع ذلك، لا يزال من غير المعروف ما إذا كانت واشنطن مستعدة لإنشاء آلية حوار منتظمة لحل التناقضات والخلافات مع بكين.
تتأثر السياسة الأمريكية الحالية تجاه الصين بشدة الصراعات السياسية الداخلية، حيث أصبح للجمهور الأمريكي آراء سلبية بشكل متزايد تجاه الصين، فالاستقطاب السياسي للولايات المتحدة، والصراع بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري مُشتد، وأصبحت السياسة مع الصين في قلب الصراع بين الطرفين.
ويواصل الحزب الجمهوري الأمريكي، الذي بدأ السيطرة على الكونغرس هذا العام، تصعيد خطابه ضد الصين، متهمًا إدارة الحزب الديمقراطي بايدن بأنها ليست صارمة بما فيه الكفاية ضد بكين، وهذا من أجل الحصول على ميزة في الانتخابات الرئاسية المُقبلة. وأدى هذا إلى فرض ضغوط أكبر على حكم الحزب الديمقراطي. وفي هذا الجو السياسي، تعاملت إدارة بايدن بشدة “نسبيًّا” مع ما يسمى بحادثة منطاد التجسس الصيني؛ مما أدى إلى تدهور العلاقات الصينية الأمريكية.
وتأمل إدارة بايدن أن يضمن تعديل موقفها تجاه الصين استعادة الاتصالات العالية المستوى بين الطرفين لتجنب خطر حدوث صدام عسكري وخروج الأزمة عن السيطرة. وأدّت زيارة وزيرة الخزانة يلين دورًا في تحسين التواصل بين البلدين، حيث تساعد يلين في استعادة وتعزيز الفهم بأنه لا تزال هناك مصالح مشتركة ضخمة بين الصين والولايات المتحدة، وتساعد على تغيير النظرة الأحادية الجانب داخل واشنطن وخارجها التي تؤكد “المنافسة الإستراتيجية” بين القوى الكبرى.
فلا تزال الصين والولايات المتحدة يمثل كل منهما شريكًا تجاريًّا للآخر. وعلى مر السنين، أدت العلاقات الاقتصادية والتجارية دورًا نشطًا بوصفها “حجر زاوية” للعلاقات الصينية الأمريكية، وأدت دورًا مهمًّا في تخفيف التوترات في المجالات الأخرى. ومع ذلك، بعد وصول ترمب إلى السلطة شن حربًا جمركية وتجارية ضد الصين؛ مما جعل العلاقات الاقتصادية والتجارية ساحة معركة بين البلدين.
وتعد الوزيرة يلين واحدة من عدد قليل من المسؤولين المعتدلين بشأن الصين في إدارة بايدن، وهذا له علاقة كبيرة بمهنيتها بوصفها خبيرة اقتصادية كبيرة، وتمرسها في العمل المالي والاقتصادي، وهي تدرك بشدة أهمية الحفاظ على علاقات اقتصادية وتجارية طبيعية بين الصين والولايات المتحدة بالنسبة للاقتصاد الأمريكي. على سبيل المثال، في مجلس وزراء إدارة بايدن، دعت إلى إلغاء التعريفات الإضافية التي فرضتها إدارة ترمب على الصين. وفي خطابها العام في 20 أبريل (نيسان)، شددت يلين على أن “الانفصال” عن الاقتصاد الصيني سيكون له تأثير كارثي في الاقتصاد الأمريكي، ودعت إلى إقامة “علاقة إيجابية وبناءة” بين الصين والولايات المتحدة. وبالطبع قالت أيضًا إن العلاقات الاقتصادية مع الصين يجب ألا تؤثر في مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة، ويجب أن تخضع المصالح الاقتصادية للمصالح الأمنية.
في السياق نفسه، قام أحد أبرز وزراء الخارجية الأمريكية التاريخيين، وهو هنري كيسنجر، بزيارة للصين لعقد مشاورات بشأن تجنب الصراع بين البلدين، وأعطت الحكومة الصينية لكيسنجر لقاء استثنائيًّا (بدأ أكثر حفاوة عن نظيره وزير الخارجية الأمريكي الحالي أنتوني بلينكين) لشكره على إسهامه التاريخي في تطبيع العلاقات الثنائية منذ نحو 50 عامًا، لكن في الوقت نفسه من غير المرجح أن تستخدم الحكومة الصينية كيسنجر، الذي ترك السلطة منذ فترة طويلة، كقناة اتصال مهمة لمناقشة القضايا الرئيسية.
عمومًا، السبب وراء استعداد إدارة بايدن لبدء تحسين العلاقات الصينية الأمريكية، بما في ذلك العلاقات الاقتصادية والتجارية، هو الاعتراف- إلى حد ما- بأن واشنطن قد عانت بالفعل حرب الرسوم الجمركية، والحرب التجارية ضد بكين. ويرجع ذلك إلى أن أغلب التعريفات الإضافية التي فرضتها واشنطن على الصادرات الصينية قد تحملتها الشركات والمستهلكون الأمريكيون في نهاية المطاف، كما أدت إلى تفاقم التضخم في الولايات المتحدة. وأهم من ذلك، إدراك إدارة بايدن أنه من أجل حل المشكلات الصعبة للاقتصاد الكلي للولايات المتحدة، بما في ذلك السيطرة على التضخم، وتمويل ديون الخزانة، فإن تدفق الأموال الصينية ضروري، بالإضافة إلى أن استقرار الاقتصاد الكلي العالمي يتطلب التعاون بين الطرفين.
لذا يمكن القول إنه قبل الدخول رسميًّا في الانتخابات العامة الأمريكية عام 2024، فُتحَت “نافذة” صغيرة لتحسين العلاقات بين الولايات المتحدة والصين. ومع ذلك، لا يزال من غير المعروف ما إذا كان بإمكان يلين وبلينكين وكيري وشاغلي المناصب الأخرى في الحزب الديمقراطي مقاومة الهجمات السياسية من الجمهوريين أم لا.
وستظل العلاقة بين الصين والولايات المتحدة في المستقبل تواجه تحديات كبيرة، وأظهر تاريخ الزيارات بين الصين والولايات المتحدة على مدى العقد الماضي مرارًا وتكرارًا أن الاتصالات نفسها غالبًا ما تكون قليلة الأهمية، خصوصًا فيما يتعلق بالتخفيف الملحوظ والدائم للتنافس الصيني الأمريكي في أي نقطة رئيسية؛ لذا فإنه يُمكن القول إن الزيارات الأمريكية الأخيرة المتتالية إلى الصين لم تسفر عن أي شيء جوهري حقًّا.
لم يحدث شيء خلال هذه الزيارات يتجاوز التوقعات، حيث حافظت على خطوط اتصال دبلوماسية رفيعة المستوى (بدلًا من العسكرية)، ولم تُوقف التنافس المحتدم بين الولايات المتحدة والصين. ولكن أُعيدَ تأكيد مبدأ السيطرة على المنافسة، وضرورة الحاجة إلى التعاون، ومع أن هذه الأمور إيجابية، فإنه من الصعب تنفيذها بشكل ملموس.
من ناحية أخرى، لم يتغير الموقف العسكري الصيني تجاه تايوان، حيث شهد الفترة من 7 إلى 8 يوليو (تموز)، في أثناء زيارة وزيرة الخزانة الأمريكية يلين للصين، نشاطًا مُكثفًا لـ(13) طائرة عسكرية صينية، حلق (4) منها فوق الخط المركزي لمضيق تايوان، ونشطت (6) سفن حربية بالقرب من الجزيرة.
وفي 11يوليو (تموز) 2023، أصدرت قمة الناتو المنعقدة في فيلنيوس بيانًا مشتركًا تتهم فيه الصين بشدة، ليأتي الرد الصيني سريعًا في الفترة بين 13 و14 يوليو (تموز) بتحليق (73) طائرة عسكرية فوق “الخط المركزي لمضيق تايوان”، ودخول بعضها “منطقة تحديد الدفاع الجوي” في جنوب شرق تايوان وجنوب غربها. ومن 14 إلى 15 يوليو (تموز)، أبحرت (16) سفينة حربية في المياه الساحلية لجزيرة تايوان، وهو أكبر عدد سجلته “وزارة الدفاع الوطني” التايوانية منذ أغسطس (آب) 2022.
لذا أصبحت الأولوية الأولى لسياسة الولايات المتحدة تجاه الصين هي ضمان المنع، وتجنب النزاعات العسكرية بين الجيشين، لكن الصين رفضت دائمًا هذا الضمان؛ خوفًا من أنها ستسمح لواشنطن بمواصلة دعمها المتزايد لتايوان، وخصوصًا الدعم العسكري، ودفع سلطات تايوان للسعي إلى “الاستقلال” دون مخاوف كبيرة؛ لذلك- وفقًا للخطاب الحالي للحكومة الأمريكية- من المحتمل ألا توافق الحكومة الصينية أبدًا على استعادة الاتصالات العسكرية الرفيعة المستوى بين البلدين وتعزيزها، ولكن في الوقت نفسه، تضع بكين منع النزاعات العسكرية بين الصين والولايات المتحدة وتجنبها على رأس أولوياتها الوطنية، وتعتمد- بشكل أكبر- على الخبرة ذات الصلة للقوات الأمامية لكلا الجانبين، وعلى “مدى حكمة” واشنطن.