مقالات المركز

سياقات الهجوم الأوكراني المُضاد ومآلاته


  • 3 أغسطس 2023

شارك الموضوع

في مارس (آذار) الماضي، قال وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن إنه نتيجة للدعم الغربي الكبير، سيكون هجوم الجيش الأوكراني “فرصة جيدة لهجوم مُضاد ناجح”، في حين أعلن الرئيس السابق لهيئة الأركان العامة البريطانية، الجنرال ريتشارد دانات، أن الهجوم الأوكراني سيكون ناجحًا إلى درجة أن بوتين “قد يُطرد من الكرملين” نتيجة لذلك. ومع حلول الثامن من حزيران (يونيو)، شنت القوات الأوكرانية هجومًا مدفعيًّا كبيرًا على مواقع روسية في مقاطعة زابوريجيا، وذلك قبل البدء بهجوم بري بلغ (120) عربة مدرعة وعشرات الدبابات. أعلنت روسيا أنها صدت الهجمات الأوكرانية، مما أدى إلى سقوط مئات القتلى، وتدمير عشرات اللآليات، حينئذ قال المسؤولون الغربيون إن أوكرانيا أحرزت تقدمًا معقولًا في اليوم الأول أو الثاني من القتال، لكن منذ ذلك الحين لا يزال الطريق الأوكراني طويلًا، أو يكاد يكون مُستحيلًا للوصول إلى خط الدفاع الروسي الرئيسي.

يحاول المسؤولون الأوكرانيون والغربيون التخفيف من تعثر الهجوم الأوكراني من خلال الزعم أن التقدم “بطيء” فقط، لكنه يتم ويحتاج الأمر إلى الصبر، وأن القوات المسلحة الأوكرانية المُدربة مِن حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والمزودة بأفضل ترسانات الأسلحة الغربية وأحدثها، على الأقل فيما يتعلق بسلاح المُدرعات والمدفعية، تُبلي بلاءً حسنًا.

في 15 يونيو (حزيران)، قال الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، إن “هذه معركة صعبة جدًّا. إنها معركة عنيفة، وستستغرق على الأرجح وقتًا طويلًا وبتكلفة عالية”. بعد أسبوع، قال مسؤول أمريكي لشبكة CNN، إن الهجوم “لا يلبي التوقعات على أي جبهة”. وأقر الرئيس فولوديمير زيلينسكي بأن التقدم كان “أبطأ مما هو مرغوب فيه”، مشيرًا إلى أن “بعض الناس يعتقدون أن هذا فيلم من أفلام هوليوود، ويتوقعون النتائج الآن. ليس الأمر كذلك”.

لكن الحقيقة أن أوكرانيا، في الأسبوعين الأولين من الهجوم المضاد، خسرت ما يصل إلى (20) في المئة من الأسلحة التي أرسلتها إلى ساحة المعركة، وتشمل الخسائر بعض آلات القتال الغربية- الدبابات، وناقلات الجند المدرعة، و(30) في المئة من قوتها الضاربة، وفقًا لمسؤولين أمريكيين وأوروبيين. والآن بعد مرور أسابيع من بداية الهجوم المُضاد، لا تحقق أوكرانيا أيًّا من أهدافها التكتيكية الأولية في طريقها إلى ساحل آزوف، ويشكك المسؤولون الأمريكيون الآن في حدوث ذلك، إضافة إلى ذلك، تشير الاستخبارات الأمريكية إلى أن أوكرانيا لا تملك القدرة على دفع القوات الروسية المتمترسة بقوة، وقد ترسخ شعور مماثل بعد الأداء في ساحة المعركة.

يلوم المسؤولون الأوكرانيون- على نحو متزايد- الغرب على عدم توفير ما يكفي من الدروع، والطائرات، والمدفعية، والصواريخ، والذخيرة. ويلقي مسؤولون أمريكيون باللوم على الأوكرانيين لعدم إجرائهم عمليات مشتركة بين الأسلحة المُختلفة على الطريقة الغربية للتغلب على الدفاعات الروسية.

بغض النظر عمن هو المخطئ، أسباب الخسارة مفهومة تمامًا؛ لقد أمضت روسيا أكثر من ستة أشهر في بناء أحزمة دفاعية قوية ومتقنة، ولديها ميزة كبيرة في القوة الجوية، والدفاع الجوي، والمدفعية، وأفضلية كبيرة في حقول الألغام المضادة للدبابات، والقوة الصاروخية، والحرب الإلكترونية (لهزيمة الطائرات بدون طيار الأوكرانية والصواريخ الموجهة بدقة) ومهاجمة الطائرات بدون طيار.

ولا توجد حلول سريعة أو سهلة للمشكلات التي تواجه الهجوم المضاد. حتى لو كان لدى الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي كميات كافية من الأسلحة والذخيرة لتزويد أوكرانيا، فلا يمكن حل المشكلة الأساسية ببساطة عن طريق تزويد أوكرانيا بأسلحة متطورة. وتعد عمليات الأسلحة المشتركة من أكثر المساعي تعقيدًا في الحرب التقليدية، ولا يتم تعلمها بسرعة.

ولطالما اعتمد الجيش الأمريكي- على سبيل المثال- على المرونة التكتيكية والمبادرة من ضباط الصف، وصغار الضباط. وهذا المفهوم يُسمى “قيادة المهمة”، وهو عنصر حاسم في عمليات الأسلحة الأمريكية المشتركة يمكّن حتى أقل جنود المشاة تدريبًا مِن التكيف في ساحة المعركة لبناء أو الحفاظ على زخم الهجوم، خاصة في أثناء عمليات الأسلحة المشتركة، التي تتميز بالديناميكية والسلاسة العالية، لكن هذا النهج يُحسَّن على مدار ما يقرب من مئة عام من التطوير والتدريب المستمر. على النقيض من ذلك، فإن أوكرانيا لديها خبرة قليلة في عمليات الأسلحة المشتركة على النمط الغربي، والوقت غير الكافي لتدريب قوة كبيرة على هذا النهج للحرب. ولا يزال الجيش الأوكراني متجذرًا بعمق في التكتيكات الهجومية، وثقافة الحقبة السوفيتية، مما يجعل صنع القرار مركزيًّا في الأعلى، حيث يعاقب القادة الجنود الذين يجرؤون على الانحراف عن الخطة.

ولكن حتى مثل هذا التحول الشامل لن يحل الفجوة الحرجة لأوكرانيا في هذه الحرب، وهي: القوة الجوية. وفقًا لخدمة أبحاث الكونغرس، تمتلك القوات الجوية الأوكرانية (132) طائرة، مقارنة بـ (1391) طائرة في روسيا؛ ما يعني أن حتى تزويد أوكرانيا بعشرات من مقاتلات (F-16) لن يُمثل فارقًا إلا بمقدار تورط الولايات المتحدة في الحرب غير المباشرة مع روسيا؛ لذا أعلن رئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال مارك ميلي: ” لا توجد أسلحة سحرية في الحرب، لا طائرات (F-16)، ولا أي شيء آخر”.

وجاء تعليق ميلي في أعقاب تصريح مماثل أدلى به وزير القوات الجوية فرانك كيندال، الذي قال إن الطائرات “لن تغير قواعد اللعبة تغييرًا كبيرًا” بالنسبة لأوكرانيا، فالطائرات المقاتلة أغلى بكثير من قذائف المدفعية والمدرعات، التي ركز الحلفاء الغربيون على غمر أوكرانيا بها لوقف تقدم الروس، وقال ميلي إن إنفاق الأموال على تلك الأسلحة القصيرة المدى، بدلًا من الطائرات الحربية الباهظة الثمن، مع احتياجاتها اللوجستية المعقدة، كان مجديًّا. وأضاف ميلي: “إذا نظرت إلى طائرات (F-16)، فإن (10) طائرات من طراز (F-16) تكلف مليار دولار، والدعم الفني يكلف مليار دولار أخرى، إذن فأنت تتحدث عن ملياري دولار لعشر طائرات”، وإذا كانت الطائرات أُرسِلَت أولًا، لالتهمت تمويل تلك الأسلحة الأخرى التي قدمت لكييف.

مشكلة أخرى تواجهها كييف، وهي الجغرافيا، حيث تتميز منطقة العمليات العسكرية بأن تضاريسها مفتوحة ومسطحة، يتخللها شرائط غابات رفيعة. ونظرًا إلى أن موسكو تمتلك الأجواء، ولديها قدرة كبيرة على استخدام الطائرات بدون طيار، فهي قادرة على كشف وإستهداف أي تحرك أوكراني، سواء على مستوى المشاة، أو مستوى المدرعات والدبابات؛ ما دفع الجيش الأوكراني إلى اعتماد أساليب التسلل بأعداد صغيرة من جنود المشاة في الخنادق حيث توجد القوات الروسية.

وقد قامت الطائرات الروسية ذات الأجنحة الثابتة بعمليات استهداف دقيقة لمناطق تجميع القوات والمعدات الأوكرانية قبل إرسالهما إلى ساحة المعركة. كما أدّت الصواريخ الموجهة المضادة للدبابات K(ATGMs) التي أطلقتها المروحيات الروسية، دورًا مهمًّا في تحييد المدرعات الغربية على خطوط التماس. وتسببت الذخائر الروسية الذكية (مثل “طائرات كاميكازي”) في خسائر فادحة للقوات الأوكرانية.

في ظل هذه الظروف الصعبة، ما خيارات كييف؟ قد يكون أحد الخيارات هو الحفاظ على المسار الحالي، والمراهنة على أن الخلافات الداخلية في موسكو ستتسبب في انهيار الجيش الروسي، وفي نهاية المطاف نظام بوتين. ومع ذلك، فإن أخطار هذه المقامرة ستكون كبيرة. إذا واصلت أوكرانيا هجماتها التي تعاني قلة عدد الأفراد، وقلة الدعم على الدفاعات الروسية، فقد تستنفد مواردها وتترك نفسها عرضة بشكل خطير لهجوم روسي مضاد. حدث هذا من قبل، في عام (1943)، استنزفت معركة كورسك ألمانيا النازية، وسمحت للسوفيت بالهجوم المضاد عبر خط المواجهة مدة طويلة جدًّا بحيث يتعذر على النازيين إدارة الحرب، وكانت النتيجة معركة لم تتوقف حتى وصل الجيش الأحمر إلى برلين.

علمًا بأن إحدى المآسي الكثيرة في الحرب الروسية- الأوكرانية المستمرة هو أن كثيرًا مما تفعله أوكرانيا في ساحة المعركة لا تمليه الضرورة العسكرية؛ بل بالأحرى حتمية سياسية. معركة أرتيموفسك (باخموت)، التي استمرت أشهرًا، هي مثال على ذلك، حيث أصر الرئيس الأوكراني زيلينسكي على ضخ القوى البشرية والمعدات في معركة من أجل بلدة يعتقد معظم الخبراء العسكريين أنها تحمل أدنى قيمة عسكرية إستراتيجية. وبذلك، لم تحدد الجغرافيا أو الإستراتيجية نطاق المعركة وحجمها؛ بل البروبغندا الأوكرانية عن الأسطورة الدفاعية، ونتيجة لذلك فقدَ ما بين ستين ألفًا إلى خمسة وسبعين ألف  جندي أوكراني حياتهم في محاولة خاسرة.

وبالمثل، الآن يُطلب من الجيش الأوكراني القيام بما يرقى إلى مستوى هجوم انتحاري ضد الدفاعات الروسية المعدة جيدًا، في ظل ظروف لن تؤدي إلا إلى هزيمة أوكرانية حاسمة. هذه المرة، المخطئ هو حلفاء أوكرانيا في الناتو، حيث يضحون بالأوكران من أجل الضغط على الروس للحصول على تنازلات، مع إدراكهم أن أي مكاسب، إن أمكن تحقيقها، ستكون باهظة الثمن وغير مستدامة على المدى الطويل.

في النهاية، يتوقع أستاذ جامعة هارفارد، جراهام أليسون، قليلًا من المكاسب الأوكرانية. ويشير إلى الصعوبة التي يواجهها كلا الجانبين، خاصةً في الحشد، الذي يجب أن تكون نسبة القوات الهجومية فيه ثلاثة أضعاف نظيرتها الدفاعية لتحقيق اختراق، وهذا ما لا تملكه كييف. وبالنظر إلى أن روسيا تحتل حاليًا (17) في المئة من أراضي أوكرانيا، ومع معدل التقدم الحالي للهجوم المضاد، خلص أليسون إلى أن الأمر سيستغرق (16) عامًا أخرى لاستعادة أراضي أوكرانيا بكاملها.

كما توقع جون ميرشايمر، من جامعة شيكاغو، أن يكون النصر حليف روسيا في نهاية المطاف، ليس من خلال غزو كل أوكرانيا؛ ولكن بضم مساحة من الأراضي الأوكرانية، مع تحويل أوكرانيا إلى دولة مختلة وظيفيًّا. وحتى لو تمكن الأوكرانيون من اختراق خطوط دفاعية جيدة الإعداد، فإن موسكو لديها قوات كافية لتحقيق الاستقرار في الجبهة، ومواصلة المعارك الاستنزافية، فالأوكرانيون في وضع غير مواتٍ في هذه المواجهات؛ لأن الروس لديهم ميزة كبيرة في القوة النارية، حتى إن ميرشايمر رفض الادعاءات القائلة بأن روسيا عانت خسائر أكثر من أوكرانيا.

من ناحية أخرى، إذا ظلت القوات الأوكرانية متعثرة، ينبغي أن نتوقع أن يحدد البعد السياسي سيناريو نهاية هذه الحرب. وقد كتب كريستوفر لين، من جامعة تكساس، مع بنيامين شوارتز، محرر مجلة (The Atlantic) أن هذه الحرب هي حقًا خطأ الولايات المتحدة، وأن المفاوضات هي الحل؛ لأن أوكرانيا لا يمكنها استعادة جميع أراضيها، مع أنه من غير المرجح أيضًا أن تحرز روسيا مزيدًا من التقدم. وسيدعم هذا التوجه السياسي انضمام كثير من ساسة أوروبا، وحتى ساسة الولايات المتحدة، إلى أغلب بُلدان الجنوب العالمي التي تطالب كلا الجانبين بوقف الحرب، وبدء مفاوضات جادة بشأن مصير أوكرانيا، ومطالب روسيا الأمنية.

ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع