تبدو سياسة “تحسين العلاقات” عبر الأطلسي أولوية على أجندة الرئيس الأمريكي جو بايدن، حيث بدأ بزيادة الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا بإرسال 500 جندي إضافي إلى ألمانيا، وذلك في ظل مرحلة حرجة من الصدامات السياسية مع روسيا، وهذه الزيادة العسكرية قد تُعد رسائل طمأنينة لأوروبا، لكنها تحمل في طياتها تعقيدات سياسية وعسكرية أوسع، خاصةً في منطقة البلطيق.
يتشكل نهج بايدن منذ توليه الرئاسة الأمريكية نحو أوروبا عبر التركيز على روسيا، وصياغة سياسات في ضوء اتهامات ضد ما يسمى “حرب روسيا الهجينة”؛ لذا هناك أولوية لوقف فقدان حلف الناتو قدراته الدفاعية الجماعية، وقدرته الهجومية. على سبيل المثال، تم تعزيز الوجود العسكري للحلف في دول البلطيق وبولندا. وبالمثل، أصبحت عملية التخطيط الدفاعي تأخذ مساحة أكبر في سياسات الحكومات الأوروبية، سواء على مستوى النقاشات السياسية، أو المخصصات المالية.
صرح بايدن في مؤتمر ميونيخ الأمني الافتراضي: “أمريكا عادت. لقد عاد التحالف عبر الأطلسي، ونحن لا ننظر إلى الوراء. نحن نتطلع معًا إلى الأمام”. تبدو هذه كلمات في إطار الطمأنة على علاقة الأمن المشترك بين أمريكا وأوروبا، تلك العلاقة التي اتسمت بعد فترة تولي ترمب بالاضطراب، وعدم الثقة، لكن من ناحية أخرى، حتى عام 2021، يبقى الناتو مثل مُقاتل مصاب بكدمات، بعد أن تحمل صدمتين:
الأولى: حقيقة إمكانية الانسحاب الأمريكي في أي وقت، من جرّاء التحول السياسي في الإدارات الأمريكية التي ترى- بشكل مُتزايد- ضرورة جدية لمعالجة الموقف العسكري لقواتها في الخارج.
الثانية: التذكير الأمريكي بأن على الأوروبيين والحلفاء دفع تكاليف حمايتهم.
وجدير بالذكر أن الزيادات المعلنة في الوجود العسكري الأمريكي في ألمانيا ليست كبيرة من حيث العدد.. هناك فقط وحدتان تضمان نحو 500 جندي من وحدات (MDTF) التي تُعد «حديثة الإنشاء نسبيًّا» في الجيش الأمريكي، والتي تستهدف عمليات التحديث العسكري أكثر منها العمليات القتالية، بالإضافة إلى قدرتها التدريبية في ميداني المدفعية والدفاع الجوي، لكن هذه الوحدات تُركز- بشكل أساسي- على تطوير القدرات الاستخباراتية والحرب الإلكترونية؛ ما يعني «استهدافًا مُباشرًا ضد روسيا”، دون اللجوء إلى ضرورة الانخراط في مواجهة عسكرية».
ستدخل هذه الوحدات الخدمة الفعلية آخر عام 2021، ولن تكتفي بالتدريب والتحديث العسكري، بل ستركز على دراسة التقدم الروسي، لا سيما في مجال المدفعية البعيدة المدى الموجهة بدقة، والصواريخ، إلى جانب وضع آلية قيادة وتحكم جديدة للقيام بعمليات عسكرية هجومية (إذا تطلب الأمر) في أوروبا.
إن إعلان السياسات الأمريكية الموضحة أعلاه، هو تحرك مضاد “دائم” لأي حشد عسكري روسي على نطاق عريض، يشبه ما حدث مؤخرًا شمال الحدود الروسية مع أوكرانيا، وفي شبه جزيرة القرم التي يرفض الغرب عودتها/ ضمها إلى روسيا، إلى جانب تصريحات الرئيس بايدن للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن التزام الولايات المتحدة بسيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها، والعقوبات الإضافية على روسيا.
ولم تُبدِ إدارة بايدن حتى الآن نشاطًا فعليًّا يدل أنها تنوي القيام بدور فاعل في الجوار الشرقي، خاصة فيما يتعلق ببيلاروس وأوكرانيا (على عكس إدارة ترمب التي أعلنت نيتها زيادة حوارها مع بيلاروس)، وتعثرت هذه الخطوة بشكل أساسي بعد الانتخابات الرئاسية في بيلاروس، والاحتجاجات الجماهيرية المناهضة للوكاشينكو التي تلت ذلك. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الولايات المتحدة “سلبية” نسبيًّا، لأسباب ليس أقلها الخلافات السياسية الأمريكية الداخلية.
أوكرانيا، مع أنها موالية للغرب بشكل علني، لا سيما الاتحاد الأوروبي، وترغب في دور أمريكي أكبر لا يقتصر فقط على المسائل الأمنية والعسكرية؛ بل يشمل فرض عقوبات أمريكية على مشروع (نورد ستريم 2)، حيث سيؤدي تشغيل خط الأنابيب هذا إلى خسارة كبيرة في الإيرادات الأوكرانية التي كانت تجمعها من رسوم مرور الغاز الروسي عبر أراضيها إلى أوروبا، لكن الولايات المتحدة أوقفت فرض عقوبات على شركة (Nord Stream 2 AG) الروسية الأوروبية المشتركة، التي تشرف على بناء خط الأنابيب الذي سينقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا، وقال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في أثناء جلسة استماع أمام مجلس النواب الأمريكي: “إن إتمام مد خط الأنابيب بات أمرًا واقعًا”؛ لذا يبدو أن الرئيس بايدن «يريد تجنب المواجهة مع ألمانيا والحلفاء الآخرين في الاتحاد الأوروبي الذين يدعمون المشروع».
تُعمق السياسات الأمريكية- الأوروبية قصور الدفاع والردع في بلدان البلطيق، ولا تتعلق نظرة هذه البلدان بأمن الطاقة بقدر ما تتعلق بالأمن العسكري، حيث لديها القليل مما يدعوها إلى القلق بشأن طرق عبور وإمدادات الغاز الخاصة بها، في حين تولي أهمية خاصة بالانقسامات الموجودة بالفعل بين ألمانيا والدول ذات التفكير المماثل في مواجهة دول أوروبا الشرقية في كل من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، ما قد يفتح الباب أمام نفوذ روسي أكبر مع برلين وحلفائها، الذين- على عكس واشنطن- لا يضخمون من أخطار العلاقات المستقرة مع روسيا؛ ما قد يعني بالتبعية تحييدًا لحلف الناتو. وبالنظر إلى أن الأنظمة السياسية في البلطيق تعتمد على الناتو في أمنها؛ فإن هذا قد يُمثل تهديدًا وجوديًّا.
وفي محاولة لطمأنة بلدان البلطيق أنها لن تدفع ثمن الصراعات الأطلسية- الروسية، ونظرًا إلى غياب الوجود العسكري الأمريكي الدائم عن هذه الأراضي، أنشأ الناتو أربع مجموعات قتالية قوامها نحو ألف جندي في كل من بولندا ولاتفيا وليتوانيا وإستونيا. وقد تعهدت قمة وارسو عام 2016، التي عقدها حلف الناتو، بتوفير الدعم اللازم، وعدم التخلي عن دول البلطيق في حال نشوب أي مواجهة عسكرية.