أجرى البروفيسور فيودور لوكيانوف، رئيس تحرير مجلة روسيا في الشؤون العالمية، ومدير الأبحاث في نادي فالداي الدولي للحوار، مقابلة خاصة مع صحيفة موسكوفسكي كومسوموليتس. ونظرًا إلى أهمية ما ورد فيه، تقدم «وحدة الرصد والترجمة»، في مركز الدراسات العربية الأوراسية، ترجمة كاملة له.
ما احتمال ألا تنتهي المرحلة العسكرية من الصراع في أوكرانيا في عام 2023 أو حتى عام 2024؟
لسوء الحظ، يبدو أن هذا السيناريو هو المتوقع إلى حد كبير. يعود ذلك إلى وجود مصالح مختلفة للمشاركين المباشرين وغير المباشرين؛ لذا فقد اكتسب الصراع نطاقًا كبيرًا جدًّا. إن المسألة الأوكرانية نفسها- وهي أمر واقع موجود بالطبع- ليست سوى جزء من هذا الصراع. بكل المؤشرات، أصبحت أوكرانيا نوعًا من ساحة اختبار، أو إذا شئنا التوصيف توصيفًا أكثر دقة، موقع بناء، حيث يُبنَى فيها تسلسل هرمي دولي جديد، ولا أحد يخفي هذا بعد الآن. لكن من الواضح أن هذه العملية طويلة، وتتسم بالعناد؛ لذا فمن غير المجدي تقريبًا التكهن بآفاق الوقت. قد تكون هناك فترات راحة، ولكنها ليست طويلة. بشكل عام، خلال هذا العام (2023) أخشى أنه سيكون هناك شيء لمناقشته بشأن هذا الموضوع.
في مجتمع الخبراء الروس، بات من البديهي الحديث عن أن إطالة أمد الصراع في أوكرانيا يصب بالكامل في المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة. لكن في الآونة الأخيرة، أصدرت “مؤسسة الأبحاث” الأمريكية المؤثرة “رند” تقريرًا مغايرًا تمامًا لهذه الفرضية. أين الحقيقة من وجهة نظرك في هذا الأمر؟
في العادة، تصدر كثير من المواد المختلفة تحت العلامة التجارية لـ”مؤسسة رند”، وهي بالفعل مؤسسة فكرية مؤثرة ومحترفة جدًّا، حيث يحاولون النظر إلى الموقف من زوايا مختلفة. التقرير الذي ذكرته هو وجهة نظر باحثين محددين، متخصصين، يمكن تصنيفهم على أنهم معتدلون. وهم نعم، ينتبهون للأخطار التي تجلبها إطالة أمد الصراع لأمريكا، خاصة فيما يتعلق بإمكانية حدوث تقلبات غير متوقعة في المخطط الأمريكي، ولا يمكن استبعاد ذلك أبدًا. من الناحية الموضوعية، تتحمل الولايات المتحدة أقل تكلفة لجميع المشاركين النشطين في المواجهة، ويحتمل أن تكون مستفيدة. هناك بعض الدلائل على أن تقييم المخاطر يتحول ببطء نحو مخاوف أكثر قليلًا، ولكن هذه مجرد بداية، ولا تعني تغييرًا في المواقف.
في نهاية العام الماضي، كتبت: “بمعنى ما، تفضل أوروبا الآن استمرار الصراع في أوكرانيا”. ماذا تقصد؟ بعد كل شيء، أعلن جميع الخبراء الروس الجادين- بالإجماع تقريبًا- أن أوروبا هي من بين الخاسرين الرئيسين من الصراع في أوكرانيا.
كان في ذهني شيء محدد جدًّا، سياسيًّا: المواجهة الروسية الأوكرانية- كما هو مفهوم في أوروبا- تسمح بتنحية الخلافات جانبًا، وتهميش المنشقين، والتجمع تحت شعار “العدو على الأبواب”؛ لذا فإن الصراع مع روسيا يوحد أوروبا المنقسمة على نفسها. لكن، فور توقف الأعمال الحربية، بغض النظر عن الطريقة التي ستنتهي بها، ستظهر الخلافات الداخلية في أوروبا على السطح في مجموعة متنوعة من الموضوعات، في حين أن استمرار المواجهة المسلحة يجمد التناقضات الداخلية في أوروبا، لكن هذا ليس إلى الأبد.
لقد ذكرت أنك لست “متفائلًا بشأن الوضع العالمي”، هل أنت متشائم أم واقعي؟ ومَن في ظل هذا الوضع الراهن يمكن اعتباره متشائمًا؟ ومَن الواقعي؟
أنا لست متفائلًا، بمعنى أن العالم قد دخل- بالفعل- فترة إعادة تشكيل، واضطراب، وانتهت مرحلة أو دورة معينة، سيصاحبها الانتقال إلى أخرى حتمًا ستشهد كوارث. الصراع الحالي بين روسيا وأوكرانيا لن يكون- بالتأكيد- الأخير. ليست هناك حاجة إلى انتظار أي عودة إلى النظام القديم، أو إنشاء نظام جديد، يجب فهم ذلك جيدًا. سنعيش فترة طويلة في عالم تسوده الفوضى، هذا الفهم هو الواقعية في نظري.
فيما يتعلق بالولايات المتحدة، أو حتى أوروبا، يمكن اعتبار أوكرانيا- بشكل ساخر- ورقة مساومة، أي إن مصيرها مهم لمصير الغرب، لكنه ليس حاسمًا. أما روسيا، وبسبب العوامل الثقافية، والتاريخية، والداخلية، فإن نتيجة معركة أوكرانيا لها أهمية كبيرة. سيضر الفشل في أوكرانيا بالمواقف الروسية في العالم بشدة؛ لأن العالم (غير الغربي) يقيم موقف روسيا من حيث القوة والفعالية، لكن النجاح في أوكرانيا، خاصة إذا كان غير مكتمل، وإذا تحقق بتكلفة غير معقولة، لن يعني- بالضرورة- صعود روسيا في التسلسل الهرمي العالمي. إضافة إلى ذلك، يمكن النظر إلى هذه القصة بهذه الطريقة: “في السنوات الأخيرة، منذ منتصف عام 2010 على الأقل، أعلنت روسيا نفسها لاعبًا عالميًّا، في الشرق الأوسط بشكل أساسي، وبشكل عام، اعترف بها الجميع، مع أن الكثيرين لم يكونوا سعداء.
لكن روسيا تركز الآن تركيزًا كاملًا على القضية الأوكرانية، وهي مجبرة على عزل نفسها عن مهامها في بقية العالم. مهما كان الأمر، فلا عودة إلى الوراء. سيتعين إعادة بناء المواقف، وهذا بالطبع سيكون أسهل بكثير إذا اكتملت الحملة بنجاح.
سأقتبس اقتباسًا آخر من اقتباساتكم: “لقد أكدت العملية العسكرية الخاصة وجود مشكلات أساسية في هيكل البلد، وضرورة تحديثه النوعي”. هل يوجد هذا التحديث في الحياة الواقعية؟ هل كانت هناك علامات على ذلك في الاثني عشر شهرًا الماضية؟
أما التحديث، فحتى الآن لم يحدث- في رأيي- الشيء الكثير منه. نحن بحاجة إلى مزيد من فاعلية الدولة، وتطوير الهيكل الاقتصادي، والتنظيم العسكري بحاجة إلى تحول جديد. العالم يتغير بالفعل بسرعة كبيرة. الأعمال العسكرية، والحرب الاقتصادية المصاحبة لها، تستدعيان ضرورة إعادة تنظيم الحياة بسرعة.
كما لاحظت أخيرًا، فإن الغرب يعمل الآن بنشاط على الترويج للفرضية القائلة بأن “روسيا قد تراجعت عن موقع القوة العالمية، وأصبحت معزولة في المشكلات الإقليمية، وفقدت قدرتها على التمركز العالمي”. كيف تعتقد أن الأمور تسير في الواقع؟
هذا صحيح جزئيًّا. في ظل وجود المهمة الحالية في أوكرانيا، فإن جميع المهام الأخرى تتلاشى في الخلفية. ويجب حل هذه المشكلة حتى نتمكن بعد ذلك من العمل على المهام الأخرى مرة أخرى.
وفقًا لمنطقك، من خلال “العملية العسكرية الخاصة”، دقت روسيا المسمار الأخير في نعش النظام العالمي السابق، لكن إذا لم تشن روسيا هذه العملية، فهل كان النظام العالمي السابق سيظل أم لا؟
لن أكون في عجلة من أمري لإصدار هذا الحكم بشأن “دق المسمار الأخير في نعش النظام العالمي السابق”؛ لأنه- رغم كل شيء- لا يزال يعمل. كان النظام العالمي يتجه نحو أزمة حتى من دون اتخاذ القرارات الروسية قبل عام. بمعنى ما، فإن قرارات موسكو نفسها هي مجرد نتاج للأزمة، وكذلك كثير من المظاهر الأخرى. هل كان من الممكن انتظار التدهور المتسارع للنظام الدولي، دون اللجوء إلى هذه الإجراءات الصارمة، حتى تطفو جثة الهيمنة العالمية الغربية على السطح؟ لا أدري، لكن كان يمكن أن ننتظر طويلًا؛ لذلك سيكون أمرًا لا يغتفر عدم إتمام مهمتنا بنجاح في أوكرانيا. اتضح أن روسيا أسهمت إسهامًا حاسمًا في خلق التغيير، لكن الآخرين سيجنون الفوائد إذا انسحبنا من الصراع دون حسمه. بما أننا جازفنا، لا ينبغي أن نيأس قبل أن يبدأ الرهان.
النظام العالمي القديم قد مات. هل من الواضح بالفعل ما النظام العالمي الجديد الذي سيأتي ليحل محله؟
لا، ليس واضحًا. ليس من الواضح ما إذا كان شيء ما يمكن أن يسمى نظامًا ما سيأتي على الإطلاق. ما يبدو هو عدم الاستقرار الطويل الأمد، ويمكن أن يكون نمطًا مستدامًا، لكن هذا الوضع أيضًا لا يمكن التكيف معه.
لقد درست الصين- كما تعلم- تجربة الاتحاد السوفيتي بعناية فائقة، وبالتفصيل، وتعلمت منها دروسًا قيمة.. ما الدروس التي تعلمتها الصين من خلال تحليل مسار “العملية العسكرية الخاصة”؟
من المؤكد أن الصين تدرس بعناية العنصر العسكري للصراع، ولكن أكثر من ذلك العنصر الاقتصادي العقابي. كيف تتجنب شيئًا كهذا، إذا كان على بكين الدخول في صراع حاد مع الولايات المتحدة، فما آليات المواجهة التي يمكنها استخدامها؟ بالمناسبة، لا يخفي الأمريكيون أنهم يتوقعون أن يكون للعقوبات على روسيا تأثير يرهب الصين. وإلى حدٍ ما، نجح هذا النهج، تفكر جمهورية الصين الشعبية بعناية، وتحسب الآن كل خطواتها. ومع ذلك، لا تنوي بكين التخلي عن أي من أهدافها الإستراتيجية.
أحد نجاحات روسيا التي لا جدال فيها خلال العام الماضي كان منع الاقتصاد المحلي من الانزلاق إلى الهاوية كما كان الغرب يأمل. هل توقعت هذا النجاح؟ أو كان- كما هي الحال للكثيرين- مفاجأة لك؟
لا أفهم الكثير عن الاقتصاد؛ لذلك أتحدث هنا كرجل عادي. نعم، لقد فوجئت بسرور. إن مرونة نظامنا الاقتصادي، وقدرته على التكيف، تعطينا الأمل في الأفضل، مع أنه من الواضح أن العقوبات لن تمر مرور الكرام.
يبذل الغرب جهودًا مضنية في محاولة إجبار “المحايدين” على وقف التعاون الاقتصادي مع روسيا.. ما رأيك؟ هل هناك فرصة لنجاح هذه المحاولات؟
لا أعتقد أن هناك أي فرصة للنجاح. يشعر “المحايدون” بالانزعاج الشديد من محاولة الولايات المتحدة إملاء كيفية التصرف عليهم. إنهم يريدون حرية التصرف، ويقررون بأنفسهم ماذا، وكيف يفعلون في حالة حصار روسيا من الجانب الغربي. أعتقد، كما في حالة الغرب في المراحل السابقة، أنهم يعرفون في العالم غير الغربي كيفية تقييم الفوائد. وإذا كان الأمر كذلك، فلن يجبرهم أي مهيمن على التخلي عنها.
هل يمكن التحدث بثقة كاملة عن فشل ضغوط العقوبات الغربية على روسيا؟ أم أنها لا تزال قادرة على التغيير في اتجاه غير سارٍ لنا؟
لم تنجح العقوبات في إيقاع ضربة قاضية بالاقتصاد الروسي، لكن سيكون للعقوبات تأثير تراكمي. إنها ليست قاتلة، لكنها تتصاعد، خاصة في العامين أو الثلاثة أعوام المقبلة.
أعرب الأمين العام للأمم المتحدة عن رأي مفاده أن الصراع الحالي في أوكرانيا يمكن أن يتصاعد بسهولة إلى صراع عالمي خطير. ما رأيك في ذلك؟
كما قلت في البداية، ما يحدث الآن هو صراع واسع النطاق بشأن توزيع مناطق النفوذ في التسلسل الهرمي العالمي، وهو دائمًا خطير. وحقيقة التصعيد الزاحف بين القوتين النوويتين العظميين- إحداهما تقاتل قتالًا مباشرًا، والأخرى تقاتل قتالًا غير مباشر- هي حالة غير مسبوقة إلى حدٍ ما، مع سيناريوهات مختلفة، قد تصل إلى صدام مباشر. كانت هذه المواجهة حتمية، لكن المصطلحات والأشكال يمكن أن تكون مختلفة، وربما أقل خطورة[1].
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير