نشر المعهد الملكي للخدمات المتحدة (RUSI) مقالًا مطولًا للباحث الفرنسي توماس دي غاريتس غيديس (Thomas des Garets Geddes)، مؤسس ومحرر موقع الصيننة (Sinification)، وهي نشرة إخبارية تركز على الشؤون الخارجية والداخلية للصين. ونظرًا إلى أهمية ما ورد فيه، على وقع الحرب الروسية-الأوكرانية، والصراع العالمي الدائر حاليًا، والتساؤلات عن موقف الصين من هذا الصراع بعيدًا عن التصريحات الدبلوماسية الرسمية، ترجمت “وحدة الرصد والترجمة”، في مركز الدراسات العربية الأوراسية، المقال كاملًا؛ لما فيه من فائدة للقراء والباحثين.
تميل التحليلات الخاصة بعلاقات بكين مع موسكو إلى التركيز على البيانات الرسمية والسلوك الدبلوماسي. لكن ماذا يقول الخبراء الصينيون عن هذا الأمر؟ وكيف يمكنهم أن يقدموا المشورة إلى حكومتهم؟
تظل ديناميكيات علاقة بكين مع موسكو غامضة مثل الأنشطة الداخلية للحزب الشيوعي الصيني، ونتيجة لذلك؛ نعتمد على خبراء لغة الجسد لتشريح كل جانب من جوانب المصافحة بين شي جين بينغ وفلاديمير بوتين؛ للمساعدة على تأكيد ما نعتقد أننا نعرفه بالفعل. لكن السؤال المعلق: هل العلاقات بين الصين وروسيا تعاني انعدام ثقة متبادلًا إلى درجة أنها مهيأة للإضعاف، أو حتى لانهيار لا مفر منه؟ أم أنها علاقة قوية قد تتطور إلى تحالف رسمي يؤدي إلى تقديم الصين دعمًا عسكريًّا لموسكو؟ هناك كثير من الحجج في كلا الاتجاهين، بعضها مقنع أكثر من البعض الآخر، ومع ذلك فإنها في النهاية أشبه بقارئ الفنجان في محاولاتها فهم طبيعة العلاقة بين الطرفين، وهو ما سيحاول هذا المقال القيام به أيضًا.
نظرًا إلى أن إجراء محادثات صريحة ومفتوحة مع مسؤولي الحكومة الصينية يكاد يكون مستحيلًا، فقد أصبحت متابعة المناقشات الأكاديمية إحدى الطرق القليلة للحصول على تلميحات عن كيفية تفكير القادة الصينيين في بعض القضايا، ونوع النصائح التي قد يتلقونها. قد يقدم تشاو هواشينغ (Zhao Huasheng)، أحد أشهر الخبراء الصينيين في شؤون روسيا، بعض الأدلة. في أحد التحليلات الأكثر شمولًا للعلاقات الصينية الروسية التي نُشرت في الصين منذ بداية الحرب في أوكرانيا، يشرح تشاو سبب اعتقاده أن بلاده يجب أن تحافظ على علاقاتها الوثيقة مع موسكو على الرغم من العوائق الكثيرة التي تعترضها. ومن غير المستغرب أن يصف الأمن بأنه مصلحة بكين الأولى في علاقتها الثنائية مع الكرملين، حيث يقول: “نظرًا إلى أن الضغط الإستراتيجي الأكبر على الصين يأتي من البحر؛ يمكن للعلاقات الصينية الروسية الجيدة أن تضمن أن يكون للصين خلفية إستراتيجية مستقرة نسبيًّا، وهو أمر له فوائد إستراتيجية كبيرة للصين”. ثم يكمل: إن أهمية ذلك غير مرئية، ويبدو أنها غير ملحوظة في أوقات السلم، ولكن “سيُكشَف عن أهميتها الإستراتيجية للصين إذا واجهت بلادنا اضطرابًا كبيرًا قادمًا من الخارج”.
يتجاوز هذا المفهوم ما هو أكبر من مجرد تثبيت حدود الصين التي يبلغ طولها (4.300) كيلومتر مع روسيا. يجادل تشاو بأنه بسبب نفوذ موسكو المتبقي في جوار الصين وحولها، فإن العلاقات الصينية الروسية الجيدة “يمكنها- في الحد الأدنى- ضمان الاستقرار الأساسي لنصف منطقة أوراسيا”، في حين، على العكس من ذلك، “تدهور العلاقات الصينية الروسية من شأنه أن يُغرق القارة الأوراسية بكاملها في حالة من الاضطراب وعدم اليقين”. وبحسبه، سيكون هذا ضارًّا جدًّا بـ”المصالح الأمنية والاقتصادية” للصين.
مع استقرار المناطق النائية، أصبحت بكين قادرة على تركيز معظم مواردها وطاقاتها العسكرية على سواحلها والبحار المحيطة بها، وأهم من ذلك “جزيرة تايوان”، التي -بحسب تشاو- تعد: “أكبر تحدٍّ إستراتيجي يواجه الصين”. بمعنى ما، قضية تايوان مثل “سيف ديموقليس” المعلق فوق رأسنا (حسب وصفه)، فنحن- والحديث هنا لتشاور- لا نعرف متى ستسقط، ربما فجأة، وربما في المستقبل البعيد. لكن على أي حال، لا تستطيع الصين [تحمل] عدم الاستعداد لجميع التغييرات المحتملة [التي قد تؤثر] في الوضع في مضيق تايوان. إذا اضطر البر الرئيس في يوم من الأيام إلى إعادة توحيد جزيرة تايوان باستخدام الوسائل العسكرية، فيمكننا التأكد من أن الصين ستجد نفسها بعد ذلك في بيئة دولية صعبة جدًّا ومعقدة. ومع أن تشاو لا يتوقع أن تكون روسيا داعمة “بالكامل” للصين في حالة حدوث مثل هذه الأزمة (ربما سيشبه موقفها- إلى حد كبير- موقف الصين بشأن أوكرانيا) فإنه يتوقع أن تحافظ موسكو على علاقاتها مع بكين، وألا تشارك في فرض عقوبات على الصين. يُذكر تشاو قراءه بأن “من بين القوى الكبرى، ربما تكون روسيا هي الوحيدة التي لا تعارض الصين”. إذا انزلقت العلاقات الأمريكية الصينية في أي وقت إلى مواجهة صريحة، يمكن لموسكو أن تسعى إلى اللعب في كلا الجانبين. لكنه يضيف: “لكن ما دامت لا تقف إلى جانب الولايات المتحدة، فسيكون هذا نجاحًا إستراتيجيًّا كبيرًا للصين”.
من الناحية الاقتصادية، قد تمثل روسيا فقط حصة صغيرة (نحو 3%) من التجارة الخارجية للصين، كما يقول تشاو، ولكن في حالة حدوث أزمة دولية كبرى، ستكون روسيا أهم مصدر أجنبي للطاقة، بل [ربما] حتى المصدر الأجنبي الوحيد للنفط (يمكن للصين أن تستمر في الحفاظ عليه)، في حين يسلط باحثون آخرون في الصين الضوء أيضًا على دور روسيا المهم في المساعدة على تحقيق بعض الأهداف الاقتصادية والمالية الأوسع لبكين، مثل تدويل اليوان، والسعي المستمر إلى إيجاد بديل موثوق به لأنظمة الدفع خارج نطاق السيطرة الغربية؛ بهدف تقليل اعتماد الصين والعالم على النظام المالي الحالي، الذي تُهيمن عليه الولايات المتحدة. على نطاق أوسع، تُصَوَّر موسكو بانتظام على أنها شريك رئيس، إن لم يكن الشريك الأكثر أهمية لبكين، فيما يسميه تشاو: “دفع الصين إلى بناء نظام دولي جديد”. بعبارة أخرى، نظام سيهيمن عليه الغرب بشكل أقل من الوضع الحالي، بما يتماشى مع مصالح موسكو وبكين، وأعضاء آخرين في جنوب الكرة الأرضية. إن فقدان دعم عضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ومشارك رئيس في تجمعات مثل مجموعة البريكس، ومنظمة شنغهاي للتعاون، من شأنه أن يعرض هذه الخطط للخطر. يلخص وانج شياوكوان (Wang Xiaoquan)، المتخصص في الشؤون الروسية في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، العلاقات بين الصين وروسيا، قائلًا: “الصين وروسيا هما نصف السماء بالنسبة للأمن والتنمية لبعضهما البعض”.
جاء الغزو الروسي لأوكرانيا صدمة لمعظم الخبراء في الصين. تتميز الأوساط الأكاديمية الصينية بموقفها الداعم لروسيا، وإلقاء اللوم في نشوب الحرب على واشنطن وحلف شمال الأطلسي؛ نتيجة توسعه باتجاه الشرق. ومع ذلك، فهم يتحسرون أحيانًا على العواقب السلبية للحرب على الصين. من المؤكد أن البعض يرى أن الصراع قد ساعد على دفع روسيا أكثر إلى فلك الصين، وتسريع ظهور النظام العالمي الجديد المتعدد الأقطاب والأقل تركيزًا على الغرب، وصرف انتباه الولايات المتحدة (وإن كان مؤقتًا) عن جهودها في “احتواء” الصين في المحيطين الهندي والهادئ. ومع ذلك، في هذه المناقشات العلمية على الأقل، يبدو أن سلبيات هذه الحرب تفوق الإيجابيات. كما قال الاقتصادي الصيني شو مينغتشي (Xu Mingqi)، العام الماضي: “كانت تداعيات الصراع العسكري بين روسيا وأوكرانيا سلبية إلى حد كبير [لنا]، ولا أستطيع أن أرى الصين تستفيد منه؛ أولًا: لقد أعاق الاقتصاد العالمي [ما بعد الوباء] عن استعادة عافيته. ثانيًا: لقد غذى الاتجاه الأيديولوجي نحو نزع العولمة. ثالثًا: لقد عرّض الحوكمة الاقتصادية العالمية للخطر”. ثم يضيف: “إن الاستقرار في الخارج لا يزال مفتاحًا لاستدامة التنمية الاقتصادية في الصين”. في هذا الصدد على الأقل، من الواضح أن الحرب في أوكرانيا تتعارض مع مصالح بلاده.
لكن ربما كان الضرر الأكثر على الصين من الحرب نفسها هو رفض بكين إبعاد نفسها عن المعتدي. بعد أشهر قليلة من الغزو، اعترف يان شوتونغ (Yan Xuetong)، أحد خبراء العلاقات الدولية البارزين في الصين، بأن “رفض إدانة روسيا أدى إلى توتر علاقات الصين مع بعض جيرانها، وأبعد بكين عن كثير من الدول النامية”. مثل كثيرين آخرين في الصين، يأسف تشو بو (Zhou Bo)، وهو كولونيل بارز سابق معروف في جيش التحرير الشعبي، ويعمل الآن في مؤسسة فكرية، على التأثير السلبي للحرب في علاقات الصين مع أوروبا على وجه الخصوص. وقد علق على هذا الأمر بالقول: “آخر ما تريده الصين هو تدهور علاقاتها مع الدول الأوروبية. من المهم جدًّا لنا ألا تكون أوروبا دائمًا إلى جانب الولايات المتحدة”؛ لذا فإن الخلاف والعداء المتزايد الذي ظهر بين روسيا والصين من جهة، والغرب وحلفائه من جهة أخرى (وهو يلوم واشنطن بالطبع) يجعله- مثل كثير من أقرانه- قلقًا بشأن تأثير الغزو الروسي لأوكرانيا في العلاقات عبر المضيق، حيث ينوي الغرب (بحسبه)- أكثر من أي وقت مضى- تقديم الدعم الدبلوماسي والعسكري لتايوان.
مع أن الرقابة العامة والذاتية، وآلة الدعاية الصينية، تضمن أن العلاقات بين الصين وروسيا تُصوَّر في الغالب على أنها مزدهرة، فإن عدم الموافقة على تصرفات روسيا يظهر أحيانًا حتى بين أشد المتعاطفين مع موسكو. على سبيل المثال، وانغ وين (Wang Wen)، مدير معهد تشونغ يانغ للدراسات المالية في جامعة رينمين الصينية، والصحفي السابق في صحيفة غلوبال تايمز، سأل مؤخرًا المفكر الروسي ألكسندر دوغين (الملقب في الصين بـ”عقل بوتين”): “لماذا لا تنصح النخبة الروسية الرئيس بوتين ببذل قصارى جهده لتجنب النزاعات، أو تبني مقاربات قد تكون أفضل من عملياته العسكرية الخاصة؟”. الطعنات العرضية في كلٍ من بوتين وروسيا بسبب ميولهما الإمبريالية المزعومة، وأيديولوجياتهما المسيَّانية وسلوكهما المتهور، من الأمور التي تبدو حاضرة- حضورًا رئيسًا- في كتابات الباحثين الصينيين وتصريحاتهم. يؤكد فنغ يوجون (Feng Yujun)، أحد أكثر منتقدي موسكو صراحةً منذ بداية الحرب، ومدير مركز دراسات روسيا وآسيا الوسطى في جامعة فودان، أن “المنطق الإمبراطوري الروسي الذي يكمن وراءه رفض أوكرانيا بوصفها كيانًا وطنيًّا مستقلًا بشكل علني، والمطالبة باستعادة الأراضي التقليدية [لروسيا] مقلقة”. كما يصف الثقافة الروسية بأنها تعاني “عقدة التفوق الغربي”، في حين يصف محافظة بوتين بأنها “فقاعة خطابية” فارغة لا وجود لها على أرض الواقع في روسيا، ومجرد أداة لموسكو لتعزيز مصالحها السياسية، وتعزيز شرعيتها.
إن المظالم التاريخية ضد روسيا عميقة في الصين، وتعاود الظهور- بانتظام- حتى بين المواطنين العاديين. كما لاحظ يوان غانغ (Yuan Gang)، الأستاذ في جامعة بكين، ذات مرة: “في العقود الأخيرة، كان للصين نصيبها من الغزوات والانتهاكات التي تعرضت لها على أيدي القوى العظمى، ومع ذلك فإن استيلاء روسيا على الأراضي الصينية كان أكبر كارثة حلت بها على الإطلاق”. من المؤكد أن ذكريات الخيانة والبلطجة، وحتى العدوان من جانب شقيق الصين السوفيتي السابق، لا تزال حية إلى حدٍ كبير، لا سيما في جيل الرئيس شي جين بينغ، الذي عاش بعضًا من أكثر اللحظات توترًا في العلاقات بين الصين والاتحاد السوفيتي.
التعليقات الأخيرة للسفير الصيني في فرنسا لو شاي (Lu Shaye)، التي يبدو أنها تشكك في الوضع القانوني لدول الاتحاد السوفيتي السابق، يجب ألا تصرف الانتباه عن القلق الملموس بين المثقفين الصينيين بشأن نهج روسيا المتعارض مع مفهوم “السيادة الوطنية”، وهو مفهوم لا يزال يمثل أهمية قصوى للصين. بعد فترة وجيزة من ضم موسكو شبه جزيرة القرم، في عام 2014، سأل الباحث الصيني يوان غانغ، بسخرية: “هل يمكن استعادة (تانو أوريانخاي) الصينية، التي تشكل مساحتها 170 ألف كيلومتر مربع من الأراضي، والتي استولى عليها الاتحاد السوفيتي تحت حكم لينين، و[لاحقًا] سُمّيت بـ”جمهورية توفا الاشتراكية السوفيتية الذاتية الحكم”. ثم أكمل: “هل يمكن إعادتها إلى الصين من خلال إجراء استفتاء للسكان المحليين، الذين يميلون- منذ فترة طويلة- نحو الانفصالية، مع وعد بمضاعفة رواتبهم ثلاث مرات من جانب الصين؟ وأسوأ من ذلك، إذا كانت غالبية التايوانيين ستصوت لصالح الاستقلال، فهل ستستسلم الصين لهذا المصير؟ هل يمكن دعم العبث بأراضي البلدان الأخرى، واعتبارها “فضاءً” خاصًا، ثم ادعاء عدم تحمل “تعدي” الغرب على “فضائهم الإستراتيجي”. ما الفرق بين هذا وبين صرخة هتلر من أجل “المجال الحيوي”؟ من المسلم به أن يوان، في الطرف المتطرف من الطيف السياسي الصيني عندما يتعلق الأمر بانتقاد روسيا (وحكومته)، لكن النسخ الأكثر اعتدالًا من آرائه لا تزال موجودة في الصين. من الصعب معرفة ما إذا كان الرئيس شي وزملاؤه أقرب إلى تصور السفير لو شاي عن دول الاتحاد السوفيتي السابق أم تصور يوان، لكن دحضهم الرسمي لتعليقات لو شاي، المثيرة للجدل، ورفضهم الاعتراف بضم روسيا شرق أوكرانيا (بما في ذلك شبه جزيرة القرم) يُظهر على الأقل أن السلوك الروسي يمثل تحديًا لأحد المبادئ الأساسية للصين.
على الرغم من كل الصداقة الحميمة التي يتم التبجح بها بين شي وبوتين، وكلمات الوداع في الزيارة الأخيرة حينما خاطب بوتين شي بـ”صديقي العزيز”، وبأن العالم يمر بأكبر تغيير له منذ قرن، وأننا: “نقود هذا التغيير معًا”، لا يتردد العلماء الصينيون في الإشارة إلى أن رؤية روسيا لنظام عالمي جديد تختلف اختلافًا كبيرًا عن رؤية الصين. يشير تشاو لونغ (Zhao Long)، الباحث في أحد أكبر مراكز الأبحاث في الصين (SIIS)، إلى أنه: “بينما تؤكد الصين الإصلاح الدقيق، وتحسين النظام [الحالي]، تأمل روسيا تفكيكه الكامل”. يقول الباحث المعروف هوانغ جينغ (Huang Jing) “العائد” من الولايات المتحدة، الشيء نفسه، مضيفًا أن رغبة موسكو في مواجهة الغرب وإضعافه “لا تتوافق مع المصالح التنموية للصين”، في حين يضيف فينغ أنه “إذا كان بوتين يسعى بالفعل إلى قلب النظام الحالي؛ فعليه على الأقل أن يكون لديه بديل موثوق به يقدمه، لكنه لا يفعل ذلك”. وبينما قد لا يذهب معظم الباحثين الصينيين إلى أبعد من فنغ في انتقادهم العقلية والسياسة والمجتمع الروسيين بشكلٍ عام، يشير الكثيرون إلى نقاط الضعف الواضحة- بشكل متزايد- في الاقتصاد الروسي، والتأخر العسكري والتكنولوجي. يصف شيبينغ تانغ (Shiping Tang)، وهو باحث بارز آخر في العلاقات الدولية في جامعة فودان، كيف تضررت قوة روسيا الشاملة، وتأثرها بشدة بسبب الحرب، ويخلص في مقالٍ له (باللغة الإنجليزية) إلى أنه: “مع أن روسيا لا تزال شريكًا إستراتيجيًّا مهمًّا للصين، فإن الشراكة الإستراتيجية الصينية الروسية تواجه بالتأكيد تحديات متزايدة”.
تندر الدعوات العلنية من جانب الباحثين الصينيين لبكين بالنأي بنفسها عن موسكو لأسباب واضحة. الأكثر شيوعًا- إلى حدٍ ما- هو الانتقادات الضمنية والصريحة لغزو روسيا لأوكرانيا، مع أن الرقباء الصينيين منعوا على الأقل بعض هذه الأصوات، في حين- كما يشير فنغ، تلاشت الإشارات إلى شراكة الصين “بلا حدود” مع روسيا بالفعل من التصريحات الرسمية الصينية، مع أن العلاقات مع موسكو لا تزال قوية بعد 15 شهرًا من الحرب، وتستمر التدريبات العسكرية المشتركة بين الصين وروسيا على قدمٍ وساق. قد تكون هناك تحديات في العلاقة، لكن قلة منهم يتوقعون تغييرًا مفاجئًا ومهمًّا في نهج بكين تجاه روسيا، باستثناء حدوث اضطراب كبير.
بالنظر إلى الموقف الأخير لبكين تجاه كلٍ من روسيا وأوكرانيا، يظل تحليل تشاو للعلاقات الصينية الروسية في سياق هذا الصراع من أكثر التحليلات إلحاحًا. وهو يقر بأن رفض حكومته إدانة موسكو لأفعالها قد شوه صورة الصين، ولا سيما في الغرب، لكنه يرى أن فوائد الحفاظ على العلاقات الوثيقة مع موسكو تفوق الفوائد التي قد تكسبها بكين من خلال إدانة روسيا(وإهانتها). تشاو هو من دعاة السياسة الواقعية، ومنتقد للدبلوماسية التي تحركها القيم. مثل كثير من أقرانه، من المحتمل أنه لا يوافق على تصرفات روسيا، لكنه لا يقول ذلك صراحةَ، مشيرًا ببساطة إلى أن “الحفاظ على التعاون الصيني- الروسي لا يعني دعم جميع الإجراءات والسياسات الروسية”. يدعي أنه ليس مؤيدًا للولايات المتحدة، وليس معاديًا لها، ولا مؤيدًا لروسيا، ولا مناهضًا لها؛ بل إنه يسترشد- أولًا وقبل كل شيء- بالمصالح الوطنية لبلاده. ثم يتساءل: “روسيا لا تنتهك المصالح الأساسية للصين، فلماذا نأخذ زمام المبادرة لتدمير العلاقات الودية؟ هناك مقولة مفادها أنه لا يوجد شيء أصعب من البناء وأسهل من تدمير الثقة. كان من الصعب جدًّا تحقيق الصداقة بين الصين وروسيا، لكن تدميرها سيكون أسهل بكثير. كل ما يتطلبه الأمر هو بيان إدانة [من الصين]، والمشاركة في العقوبات على روسيا لتدمير أسس الصداقة والثقة التي بنتها الصين وروسيا على مدى عقود”. إن عدم الاعتقاد بأن الانضمام إلى الغرب في إدانة روسيا كان من شأنه أن يؤدي بواشنطن إلى تخفيف نهجها تجاه الصين، والانحياز- بوضوح- إلى الغرب وأوكرانيا، سيكون أقرب إلى “فقدان العروس والجيش معًا” كما يقول المثل الصيني.
الآن، إذا افترض المرء- بجرأة- أن قيادة الصين تُقيم علاقتها مع الكرملين من خلال عدسة مماثلة لتلك التي لدى تشاو وغيره من الواقعيين الصينيين المتشابهين في التفكير، فإن احتفاظ بكين بحيادها في هذا الصراع سيبدو أكثر صعوبة. إذا كان يجب على القيم الأخلاقية أن تفسح المجال للمصالح الإستراتيجية لدولة ما، فإن الصين ستحتاج إلى أن تحقق روسيا تقدمًا ما، أو (على الأقل) ألا تخسر بشدة في أوكرانيا. هذا هو في الأساس الذي اقترحه تانغ، في مقالٍ له العام الماضي. من المحتمل أن يوافق يانغ جيمييان (Yang Jiemian) على ما يلي: “في حالة استمرار ضعف روسيا إلى الحد الذي يجعلها غير قادرة، أو غير راغبة، أو تشعر بالخوف من مواصلة صراعها ضد الولايات المتحدة والغرب”، سيؤدي ذلك في النهاية- كما سبق أن كتب- “إلى وضع إستراتيجي غير مواتٍ جدًّا للصين”. فينغ شاولي (Feng Shaolei)، وهو متخصص بارز آخر في الشؤون الروسية، قلق بشأن ما يمكن أن يحدث إذا استولى نظام مؤيد للغرب، أو قوة أكثر راديكالية من نظام بوتين، على السلطة في الكرملين، وأصبح جارًا للصين؛ لذلك دعا فينغ حكومته إلى اتخاذ موقف أكثر “استباقية” في محاولة حل هذا الصراع، واستخدام التأثير الذي تتمتع به لتشجيع محادثات السلام.
إن مسألة ما إذا كانت الصين ستقدم دعمًا عسكريًّا لموسكو (وقد نفت ذلك مرارًا وتكرارًا) هي مسألة شائكة، وتتطلب دراسة متأنية أكثر من تحليل قصير لوجهات نظر الباحثين الصينيين. ومع ذلك، ومن خلال استخدام عدسة تشاو الواقعية في تقييم الأحداث، قد يبدو من المنطقي أن ترغب بكين في منع ظهور جار غير معروف فجأة على عتبة بابها، والسماح بإضعاف الكرملين إلى درجة يصبح فيها هناك فراغ في السلطة في جوار الصين الهش في آسيا الوسطى. وغني عن القول: من الصعب تخيل شحن الصين البضائع العسكرية مباشرة إلى روسيا بوقاحة، وهو ما لا يتماشى مع موقفها الداعم للسلام، وعدم الانحياز، وعدم التدخل. ولكنْ، هناك بالطبع طرق أخرى لإبقاء الصديق واقفًا على قدميه. ما يتضح تمامًا أيضًا من هذه المناقشات هو أن الانجرار إلى مزيد من هذا المستنقع هو آخر شيء تريده الصين، في حين تظل حماية علاقاتها المتوترة بالفعل مع الغرب إحدى أولوياتها القصوى.
في وقتٍ سابق من هذا الشهر، كتب موظف حكومي بريطاني متخصص في العلاقات بين الصين وروسيا مقالًا تحت اسم مستعار، حذر فيه من أنه من المرجح أن تتعزز العلاقات بين الصين وروسيا، وأنها قد تتطور حتى “إلى شكل ما من أشكال هيكل التحالف الرسمي”، حيث “ينظر كل منهما إلى الآخر للحصول على الدعم ضد التطويق الغربي المتصور”. إن النظرية الصينية التي تدعي وجود “تناقضات” مع الغرب، وبشكل أكثر تحديدًا مع الولايات المتحدة؛ هي القوة الرئيسة المُلزمة، والمحرك الرئيس للعلاقات بين الصين وروسيا، هي بالتأكيد نظرية قوية جدًا (ومقبولة على نطاق عريض). لكن في ضوء ما يدافع عنه الخبراء الصينيون، فإن اقتراح المؤلف بأن شراكة بكين مع موسكو قد تتطور إلى تحالف رسمي يبدو أقل إقناعًا إلى حدٍ ما. يبدو أن المؤلف يبني جزءًا من حجته على مصدرين صينيين أوصيا بهذا التغيير؛ الأول هو يان شويتونغ (Yan Xuetong)، والمصدر الثاني هو “الكتاب الأزرق” للأمن القومي، الذي صدر بتكليف من الحكومة، وكتبته مؤسسة معاهد الصين للعلاقات الدولية المعاصرة (CICIR)، وهو مركز أبحاث رئيس مرتبط بأمن الدولة الصينية. لكن لسوء الحظ، لا يوجد رابط يحتوي على هذا التقرير، ولكن نظرًا إلى أن الآراء المؤيدة للتحالف قد عُبِّرَ عنها سابقًا في الصين، يجب على المرء أن يفترض أن هذا كان بالفعل جزءًا من توصياته. ومع ذلك، فإن أحد التقارير المنشورة منذ ما يقرب من 10 سنوات غير كافٍ لإثبات فكرة أن الخبراء الصينيين يدفعون حاليًا من أجل هذا التغيير. في الواقع، نشر مدير مؤسسة (CICIR)، دينغ شياوكسينغ (Ding Xiaoxing)، ورقة في الشهر الماضي فقط، أكد فيها أن “إقامة شراكة دون تشكيل تحالف هو أكثر ملاءمة لتنمية العلاقات الصينية الروسية على المدى الطويل”. أما يان شويتونغ، فيعرف معظم مراقبي الشؤون الصينية أنه كان يجادل- منذ فترة طويلة- من أجل أن تشكل الصين تحالفات مع بعض جيرانها، ولكن اقتراحه- كما صرح بنفسه- رُفض، ليس فقط من معظم زملائه، ولكن أيضًا من حكومته.
مع أن نظرة عامة أكثر شمولًا إلى كل من الآراء الصينية والروسية بشأن هذا الموضوع ستكون موضع ترحيب، فإن أيًّا من الأوراق التي روجعت لهذا المقال لم تُشر إلى أن المد قد يتحول لصالح تنفيذ هذا التغيير؛ بل (على العكس تمامًا) يعتقد دينغ وتشاو وآخرون أن التحالف الرسمي من شأنه أن يخلق “مخاطر غير ضرورية لعلاقة تظل هشة بطبيعتها، ومهددة بالفشل، كما حدث سابقًا للتحالف الصيني- السوفيتي”. يكتب دينغ أنه في حال تشكيل تحالف جديد على الإطلاق، “لا يمكن استبعاد احتمال حدوث انهيار آخر في العلاقات بين البلدين إذا عادت التفاوتات في العلاقة إلى الظهور”. يدرك الباحثون الصينيون تمامًا التأثير الذي يحدثه التحول الدراماتيكي في القوة النسبية لبلدهم على دولة فخورة مثل روسيا. بالإضافة إلى ذلك، قد يؤدي التحالف إلى تفاقم ثنائية القطبية في السياسة العالمية، وجر الصينيين إلى صراعات ليست صراعاتهم ليقاتلوا فيها، وإلغاء مبدأ بكين الذي “تتبجح” به بعدم الانحياز. يقولون إن بكين أفضل حالًا إذا كان لديها إطار تعاوني أكثر غموضًا، وأكثر مرونة. ويخلص وانغ دونغ (Wang Dong)، الأستاذ في جامعة بكين، إلى أنه “ما لم تزد واشنطن من ضغطها الإستراتيجي على بكين وموسكو، إلى الحد الذي يجعل الدولتين تشعران بضرورة تعزيز تعاونها إلى تحالف رسمي، فإن الصين وروسيا ستستمران في اتباع إستراتيجية تحوط، لكنهما تتجنبان الدخول في تحالف صريح”.
كانت الحرب في أوكرانيا لحظة حاسمة في العلاقات بين الصين وروسيا، وقد أظهرت بكين أنها مستعدة لتحمل تكاليف باهظة نسبيًّا من أجل الحفاظ على علاقاتها مع الكرملين. تقول بكين إن علاقتها مع موسكو لها “حد نهائي”، لكن نادرًا ما يتم التطرق إلى المدى الذي يمكن أن يذهب إليه بوتين، مما يؤدي إلى خرقها. حتى الآن، ألمح عدد قليل من الباحثين الصينيين إلى تحول كبير في سياسة بكين الحالية تجاه موسكو. من المؤكد أن الحرب أدت إلى حدوث “تحديات” في العلاقة الصينية الروسية لم تُعالَج بعد، لكن يبدو أن روسيا مهمة من الناحية الإستراتيجية للصين بحيث لا تخاطر بفقدانها الآن. إن الإطاحة ببوتين من جانب قوة موالية للغرب، أو شل الكرملين، سيكون- على الأرجح- كارثة لبكين. ومع ذلك، فإن الشك بالنسبة للبعض، بل حتى الكراهية العميقة تجاه هذا الشريك المهم، واضحة أيضًا في هذه المناقشات. هذا هو أحد الأسباب التي تجعل كثيرًا من الخبراء الصينيين يواصلون المجادلة ضد إقامة تحالف رسمي مع روسيا. يشير عدم الثقة (على كلا الجانبين) مرة أخرى إلى الهشاشة الكامنة للعلاقات بين الصين وروسيا، وربما يكون أحد الأسباب التي جعلت بكين تخشى الإساءة إلى شريكها.[1]
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.