تقارير

الصين- جورجيا.. تنامي الشراكة الإستراتيجية


  • 15 أغسطس 2023

شارك الموضوع

أصدرت حكومة جورجيا، يوم 31 يوليو (تموز) 2023، بيانًا مشتركًا مع الصين بشأن إقامة “شراكة إستراتيجية” بين البلدين. وبحسب البيان الذي أصدره رئيس الوزراء الجورجي إيراكلي غريبشفيلي، في زيارة رسمية لبكين، فإن “جورجيا تؤيد- بشكل حاسم- مبدأ الصين الواحدة”، والتقى غريبشفيلي الرئيس الصيني شي جين بينغ ورئيس الوزراء لي تشيانغ خلال الزيارة.

وأعلنت جورجيا ترحيبها بمبادرة “الحزام والطريق” الصينية، ووقع الطرفان على وثائق، منها خطة للتعاون الثنائي لتعزيز الاستثمار المتبادل والتجارة والنقل، والاتصالات، وتحديث البنية التحتية، وتطوير الممر الأوسط وتعزيزه، والتقنيات الرقمية، والتصنيع، ورفع مستوى شبكات السكك الحديدية وتطويرها، والزراعة وسلامة الغذاء، والموارد المائية، وحماية البيئة، ومكافحة التصحر، وتنقية المياه، ومشاركة التكنولوجية والمعرفة، وإعادة تدريب الموظفين، وستدرس بكين قضية الإقراض التفضيلي لتنفيذ المشروعات الاجتماعية والبنية التحتية مع تبليسي، وهذا من أجل استخدام البنية التحتية للمرور عبر جورجيا لتصدير المنتجات الصينية دون عوائق إلى الأسواق الاستهلاكية الغربية.

اكتسبت العلاقات الجورجية الصينية أهمية جديدة وسط التحولات الجيوسياسية الناتجة عن الحرب الروسية- الأوكرانية، حيث جعلت عزلة موسكو من جراء العقوبات الغربية طرق الشحن البرية التي تَمر مِن أراضيها غير ملائمة للتجارة الدولية، ما دفع الشركات إلى تحويل مساراتها إلى الممر الأوسط الذي يربط الصين بأوروبا عبر آسيا الوسطى، وجنوب القوقاز، والبحر الأسود؛ ومن هُنا برزت جورجيا، نقطة الوصل المهمة بالممر الأوسط، واكتسبت تبليسي أهمية استثنائية في مجال النقل، وتحاول الآن الاستفادة القصوى منها؛ من خلال تكثيف الاستثمارات في مشروعات البنية التحتية الجديدة، وتفعيل الشراكات التجارية، لا سيما مع الصين.

ولطالما أبدت بكين اهتمامًا بالممر الأوسط كجزء من مبادرة الحزام والطريق (BRI). وتعد الصين حاليًا رابع أكبر شريك تجاري لجورجيا، وقد شهدت الصادرات الجورجية إلى الصين نموًا قويًّا خلال السنوات الماضية. وبدأت العلاقات بين الصين وجورجيا رسميًّا عام 1992، وتشمل- بشكل رئيسي- الشراكة الاقتصادية التي تزداد قوة تدريجيًّا. عام 2017، أصبحت جورجيا أول دولة في منطقة أوراسيا توقع اتفاقية تجارة حرة مع الصين، وتحتل بكين المركز السادس في قائمة أكبر المُستثمرين في جورجيا، بحجم استثمار مباشر بلغ (108) ملايين دولار أمريكي. عام 2022، أصبحت الصين أكبر شريك تصدير لجورجيا، وثالث أكبر شريك استيراد.

تاريخيًّا، لم تكن لجورجيا علاقات وثيقة مع الصين، وسعت تبليسي دائمًا إلى إقامة شراكات مع الغرب، وتضمن دستورها مبادئ للانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي، لكن رئيس الوزراء غريبشفيلي يرى نهج الصين بأنه “ذكي جدًّا” بما يكفي ليُعلن شراكته الإستراتيجية مع بكين بعد أيام مِن بيان الناتو في قمة فيلنيوس في يوليو (تموز) 2023، والذي جاء فيه: “إن الطموحات والسياسات المعلنة لجمهورية الصين الشعبية تتعارض مع مصالحنا وأمننا وقيمنا؛ وتعميق الشراكة الإستراتيجية بين الصين وروسيا وجهودهما المستمرة لتقويض النظام الدولي القائم على القواعد تتعارض مع قيمنا ومصالحنا”.

فهل يُمكن لجورجيا أن تكون حليفة الولايات المتحدة- تم توقيع ميثاق شراكة إستراتيجية معها عام 2009- والصين في الوقت نفسه؟ بالإضافة إلى أن لدى تبليسي أيضًا اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي، وتنتظر قرارًا بشأن وضعها كمرشح، لكن يبدو أن مرارة التجربة الأوكرانية جعلت النموذج الغربي السياسي والعسكري غير مُرحب به في أوراسيا، أو أصبح أقل شعبية داخل جورجيا حاليًا، وخصوصًا أن الشركات الصينية المملوكة للدولة تُشارك في مشروعات ضخمة في قطاع البنية التحتية في جورجيا، بما في ذلك بناء الطرق السريعة، والسكك الحديدية، والأنفاق. وفقًا لسفير الصين لدى جورجيا، لي ين، فإن نحو (20) شركة تأسست برأس مال صيني تعمل في أنشطة ريادة الأعمال في تبليسي، ومعظمها مُتخصص في إنشاء البنية التحتية، والاستثمارات، والخدمات اللوجستية، وغيرها من المجالات.

وتحظى الشركات الصينية باهتمام وشعبية في تبليسي إلى درجة تسببت في حرب دبلوماسية بين جورجيا وبولندا عام 2020، عندما تساءل السفير البولندي لدى جورجيا، ماريوز ماشكيويتز: لماذا يتم الاعتماد في جورجيا على الشركات الصينية لبناء الطرق وتبليسي تتلقى الأموال من الاتحاد الأوروبي؟ لترد وزارة البنية التحتية الجورجية: “عند طرح المناقصات الدولية، لا تستطيع الشركات الأوروبية والأمريكية غالبًا منافسة الشركات الصينية الكبيرة من حيث الإمكانيات والسعر”. وفي الوقت نفسه، تعد جورجيا عضوًا في المؤسسات الدولية التي تقودها الصين، مثل البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية.

الآن، يدور صراع على ميناء أناكليا الجورجي، فبعد إعلان المناقصة للميناء في السنوات الماضية، مُنح اثنان من مقدمي العطاءات الحق في تقديم العروض النهائية، أحدهما كان صينيًّا. حذرت حكومة الولايات المتحدة تبليسي مِن إسنادها إلى الصين، وتولى الأمريكيون ملف الميناء عام 2017، عبر شركة كونتي إنترناشونال الأمريكية، وشركة (TBC) القابضة الجورجية. وفي عام 2019، أعلن وزير الخارجية الأمريكي آنذاك مايك بومبيو أن “الميناء سيعزز علاقات جورجيا بالاقتصادات الحرة، ولن يسمح لجورجيا بأن تكون تحت التأثير الاقتصادي لروسيا أو الصين”، لكن في عام 2020 فسخت حكومة تبليسي العقد لعدم وفاء الأمريكيين ببنود التعاقد.

ويبدو أن هناك توجهًا جورجيًّا بتسليم الميناء لبكين، حيث أعلن رئيس البرلمان الجورجي شالفا بابواشفيلي أن مِن غير المُستبعد إعطاء الصين دورًا في ميناء أناكليا، في حين سبقه تصريح لرئيس الوزراء الجورجي خلال زيارته للصين أمام منتدى الأعمال الجورجي الصيني، قائلًا فيه: “إن تطوير الميناء يظل مشروعًا طموحًا لحكومتنا”.

خلال فترة حكم “الحلم الجورجي”، كان التوجه الخارجي السياسي يتطابق- بشكل أكبر- مع المصالح الاقتصادية الجورجية أكثر منها مع مصالح حلف شمال الأطلسي، وتُحاول تبليسي أن تتحرر من قيود الولايات المُتحدة، وتعيد بناء توازن في علاقاتها الخارجية من خلال الحضور الصيني الذي سيعطي للجورجيين قدرة تنافسية أفضل في التعامل مع روسيا دون صدام. وبحسب هذا المنطق، فإن مشروع قانون “عملاء النفوذ الأجنبي” للحد من أنشطة الجمعيات والمنظمات غير الحكومية الممولة من أوروبا والولايات المتحدة داخل البلاد كان محاولة لإضفاء الطابع الرسمي على هذه السياسة.

كما ترى التيارات الجورجية القومية أن الصين- على عكس الغرب- لا تطلب من أي شخص تغيير أيديولوجيته، أو نظامه السياسي؛ بل تهتم فقط بمصالحها الاقتصادية والجيوسياسية؛ لذلك، فهي أكثر مرونة، في حين يريد الغرب أن يفرض قيمه على دول مختلفة عنه، سواء أكانت قيمًا ليبرالية أم نظامًا سياسيًّا، إلخ؛ ولهذا تبدو الصين لعدد من الدول شريكًا أفضل من الولايات المتحدة.

مِن الجدير بالذكر أن هناك إحباطًا بين دول البلقان وأورواسيا مِن تعامل بلدان الاتحاد الأوروبي، وهذا لا يعود إلى شروطهم المرهقة اقتصاديًّا وسياسيًّا فحسب؛ ولكن على مستوى التقدير الثقافي أو “الاحترام”، حظى الوفد الجورجي بلقاء فخم في الصين، وكشف رئيس الوزراء غريبشفيلي عن تمثال نصفي لشوتا روستافلي؛ أشهر شاعر جورجي عاش في القرن الحادي والعشرين، ويعد روستافلي من أعظم رموز الأدب في القرون الوسطى في جامعة بكين للغة والثقافة.

لا تتعامل الصين مع جورجيا بانتقاص؛ بل على العكس، كلا البلدين يعترف رسميًّا بسيادة الآخر وسلامة أراضيه. ولم تدعم الصين ​​العمل العسكري الروسي ضد جورجيا عام 2008، وفي 26 أبريل (نيسان) 2023، أيدت الصين- من الناحية الفنية- قرار الأمم المتحدة الذي يعترف بالعمل العسكري الروسي ضد جورجيا، وعندما جرى تصويتان على القرار، أحدهما- على وجه التحديد- على فقرة القرار التي يُعترف فيها بالعدوان الروسي، والآخر على القرار ككل، امتنعت الصين فقط عن التصويت على فقرة منفصلة.

وتشكل السيادة إحدى القضايا المهمة في السياسة الخارجية لجورجيا كما للصين فيما يخص تايوان، وهذا ما يحدد مدى التقارب الجورجي- الصيني، بالإضافة إلى عامل آخر؛ هو مدى قدرة تبليسي على الموازنة بين التنافس الإستراتيجي الصيني- الغربي. ومن وجهة نظر الاتحاد الأوروبي، فإنه فور حصول جورجيا على وضع المرشح؛ يجب أن تصبح جزءًا من السياسة الخارجية والأمنية المشتركة للاتحاد، وهذا يعني أن سياسة تبليسي فيما يتعلق بالصين مرفوضة تمامًا، وقد تتطلب رد فعل مِن بروكسيل. وقد صرحت السفيرة الأمريكية كيلي ديجنان في جورجيا للصحفيين في 31 يوليو (تموز): “المسألة تتعلق بمن سيكونون شركاء جورجيا، لكن ستظل الولايات المتحدة داعمًا قويًّا كما كانت طوال الثلاثين عامًا الماضية”. ومؤخرًا، شهدت جورجيا تظاهرات كانت مدعومة ضمنيًّا مِن واشنطن كادت تُطيح بالنظام الحاكم.

توافق روسيا- من جانبها- على التقارب الصيني- الجورجي في ضوء إبعاد تبليسي عن الناتو والاتحاد الأوروبي، لكن في الوقت نفسه تمثل الشراكة الإستراتيجية بين الجانبين فقرة جديدة من تمدد النفوذ الصيني في الفضاء السوفيتي القديم لتُشكل مُنافسًا مستقبليًّا لموسكو، ولكن يبدو أن الأخيرة تُركز أكثر على ضرورة انحسار الحضور الأمريكي في أورواسيا والبحر الأسود كهدف قصير المدى ذي أولوية قصوى حاليًا.


شارك الموضوع