في مقابلة مع أحد الدبلوماسيين الروس في القاهرة، بادرني بقوله: سوف تحتفلون هذا العام بمرور 50 عامًا على أعظم انتصار عسكري لمصر في العصر الحديث، وهو انتصاركم على إسرائيل في حرب أكتوبر 1973، ونجاحكم في إلحاق الهزيمة بجيش الدفاع الإسرائيلي، الذي قيل عنه في الماضي إنه الجيش الذي لا يقهر، وأرجو ألا تنسوا في غمرة الاحتفال ما قدمه إليكم السوفيت من معونة عسكرية للجيش المصري، وأعتقد أن ذلك حق لنا، ولكي تعرف الأجيال المصرية حب الشعب الروسي ودولة روسيا لمصر، وشعبها العظيم
وكانت إجابتي: بالطبع، هذا حدث وتاريخ لا يمكن إغفاله، ولن أبدأ بحرب 73 ومشاركة روسيا لمصر عسكريًّا؛ ولكن البداية كانت منذ ثورة 1952، عندما كان أحد أهداف الثورة الستة هو إنشاء جيش قوي. وبدأ عبد الناصر بإنشاء هذا الجيش المصري الحديث، حين تدخلت إنجلترا التي كانت تسيطر على الجيش المصري قبل الثورة، وطلبت من عبد الناصر أن تُحدَّد قوة الجيش المصري بعدد محدود من الجنود، والأسلحة، والدبابات؛ وهنا رفض عبد الناصر ذلك القرار البريطاني؛ ولذلك اتجه في هذا الوقت إلى الاتحاد السوفيتي الذي كان يساعد مصر في بناء السد العالي، وكانت أول صفقة سلاح لمصر عرفت باسم صفقة الأسلحة التشيكية، وكانت اتفاقًا بين الاتحاد السوفيتي ومصر برئاسة عبد الناصر في 27 سبتمبر (أيلول) 1955 لإمداد مصر بأسلحة قيمتها 250 مليون دولار، من الأسلحة السوفيتية الحديثة، من خلال تشيكوسلوفاكيا، وكان لهذه الصفقة تأثير كبير في تغيير الجوانب السياسية والعسكرية في المنطقة، وأدت إلى كسر احتكار الغرب للسلاح في مصر ودول المنطقة. ونتيجة لهذه الصفقة، سحبت أمريكا عرض المساهمة في بناء السد العالي؛ ولذلك، ومنذ ذلك الوقت، اتجهت مصر إلى الاعتماد على الاتحاد السوفيتي في عمليات التسليح والتدريب للجيش المصري بجميع أسلحته البرية، والبحرية، والجوية، والدفاع الجوي، حتى إن كلية أركان حرب المصرية بدأت بتغيير مناهجها وعقيدتها القتالية الغربية، وبدأت تتجه إلى العقيدة الشرقية الروسية، وتوقف إرسال الضباط والقادة المصريين للدراسة في كليات الغرب، مثل كلية “كل كمبرلي” الملكية في إنجلترا، وكلية أركان الحرب في أمريكا وفرنسا، حيث تم إيفادهم إلى أكاديمية فرونزا العسكرية في روسيا، التي تخرج فيها معظم قادة القوات المسلحة المصرية، مثل الرئيس مبارك، والمشير أحمد إسماعيل، وغيرهما، وبدأت مصر بتكوين قواتها المسلحة كلها بالاعتماد على الأسلحة والمعدات الروسية، وبالطبع العقيدة القتالية الشرقية الروسية.
وأتذكر وأنا طالب في الكلية الحربية، بدأنا بدراسة اللغة الروسية مع اللغة العبرية؛ تمهيدًا لاحتمالات السفر إلى روسيا في هذا التوقيت لأي ضابط بعد التخرج، وكذلك لمتابعة أسلوب استخدام الأسلحة الجديدة من روسيا من كتالوجات هذه الأسلحة.
وخلال تلك المدة، تحول تسليح الجيش المصري ليعتمد على الأسلحة والمعدات الروسية، وجاءت حرب 67، حيث فقدت القوات المسلحة تسليحها بالكامل في سيناء، وبدأت روسيا بإعادة تسليح الجيش المصري بالأسلحة الروسية الجديدة؛ فمثلا، تحول سلاح المشاة من وحدات مشاة راكبة إلى وحدات مشاة ميكانيكية بالعربات البرمائية الروسية الجديدة، مثل BK، والتوباز. كذلك كل أنواع سلاح المدفعية، وأهمها كانت أسلحة الدفاع الجوي، التي أُنشئ بها حائط الصواريخ المصري في حرب اكتوبر 1973، الذي كان أحد أسباب مفاتيح النصر في حرب أكتوبر 73، فكانت معظم أسلحته من الصواريخ والرادارات الروسية. كذلك طلب عبد الناصر من السوفيت، بعد هزيمة 67، إرسال خبراء عسكريين لتدريب الجيش المصري، إلى درجة أنه كان في كل كتيبة خبير سوفيتي، بالإضافة إلى خبراء في كل القيادات وإدارات الأسلحة في القوات المسلحة. وأعترف أننا تعلمنا كثيرًا منهم، وكان في كتيبتي خبير برتبة مقدم، وكان يدربنا على أعمال القتال الحديثة، وأسلوب استخدام الأسلحة الروسية الجديدة، ويجب علينا أن نعترف بكل ذلك، حتى عندما بدأنا التخطيط للعبور، تم الحصول على كباري العبور الروسية التي عبرنا بها قناة السويس. وفيما يتعلق بالقوات الجوية، كانت لدينا طائرتا الميج 21، و TU السوخوي ذات القاذفات الثقيلة، التي كان اللواء حسني مبارك يقودها، والقاذفات المتوسطة اليوشن، وكذلك طائرات النقل الثقيلة الأنتينوف، التي كانت تنقل العتاد الثقيل. وأتذكر وأنا ضابط مقاتل في حرب اليمن، كانت هذه الطائرات تنقل قواتنا حتى في الإجازات إلى القاهرة والعكس. وفي مجال البحرية، كانت لنشات الصواريخ التي أغرقت المدمرة إيلات روسية الصنع، كذلك المدمرات والغواصات ولنشات الطوربيد، حيث أصبحت الأسلحة الروسية في ذلك الوقت هي عماد القوات المسلحة المصرية، وكان لها الفضل أن نحارب بها وننتصر في حرب اكتوبر 73، مع أنها كانت أسلحة دفاعية، وليست هجومية، ولكن كل ذلك السلاح الدفاعي أعطى للمقاتل المصري قوة بأن يحقق لمصر أغلى انتصار في العصر الحديث. يجب كذلك ألا ننسى قيام الصناعات الحربية المصرية في الخمسينيات، عندما قرر عبد الناصر بناء صناعة حربية جديدة، وأُنشئت وزارة الإنتاج الحربي، فقد أُنشئت هذه المصانع بالخبرة والتكنولوجية الروسية، حيث تم تصنيع معظم أسلحة الكتيبة المشاة في هذه المصانع من البندقية والرشاش الكلاشنكوف، والقاذف الآر بي جي الروسي، وبعض أنواع المدافع، وقاذف المدفعية الصاروخية، وأهم من ذلك كله، إنتاج معظم أنواع الذخائر، بحيث لا يتم الاعتماد على أي دولة أخرى، وهذا من أهم عناصر الاكتفاء الذاتي عند الدخول في حرب؛ ألا تحتاج إلى إمداد من دول أخرى.
وعندما طورت مصر مؤخرًا هذه المصانع الحربية، طُوِّرَ معظمها بالتكنولوجيا الروسية الجديدة، حيث إنها كانت في الأصل تابعة للفكر الصناعي الحربي الروسي. وهكذا نجد أن القوات المسلحة المصرية تقدر تمامًا كل الجهد والمعاونة الصادقة للقوات الروسية، بدءًا من صفقة الأسلحة التشيكية عام 56 حتى الآن، وما زالت مصر تعتمد في كثير من صناعتها وإمدادها بالأسلحة الجديدة على الترسانة الروسية لتطوير قدراتها القتالية، في إطار سياسة مصر الجديدة في تنويع مصادر السلاح التي أصبحت تعتمد على مصادر عسكرية كثيرة، مثل روسيا، والصين، وفرنسا، وألماني، وإيطاليا، وفي إطار أن يكون لها جيش قوي يعتمد على أحدث الأسلحة والمعدات في العالم؛ ولذلك أصبح الجيش المصري حاليًا من أقوى الجيوش العربية والإفريقية، وفقًا لإعلان “جلوبال فاير باور”.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير