سمرقند إحدى المدن التاريخية الشهيرة في آسيا الوسطى، تقع في وادي نهر زرافشان في أوزبكستان، وهي ثانية كبرى المدن بعد العاصمة طشقند، وتبلغ مساحتها مائة وثمانية كيلومترات مربعة، ويزيد عدد سكانها على نصف مليون نسمة.
ربما ينطبق هذا التعريف على سمرقند بالمعايير المعاصرة، لكنه بإعمال معايير التاريخ والحضارة لا يكفي؛ فتلك المدينة التي كان ذكر اسمها ذات يوم يثير من الفخر والاعتزاز في نفوس أبنائها بقدر ما يثير من الخوف والذعر في نفوس أعدائها، أهم من مجرد تعريف جغرافي أو ديموغرافي.
يقول موقع اليونسكو عنها إنها: “ملتقى لثقافات العالم، وبوتقة لتفاعلها وصبها في نسيج واحد، تأسّست في القرن السابع قبل الميلاد تحت اسم أفراسياب، وبلغت أوج ازدهارها في العصر التيموري خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر”[1].
هنا تضع اليونسكو يدها على أهم مواطن التفرد في سمرقند، وهي علاقتها بالدولة التيمورية، وما بلغته من ازدهار وإبداع خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين. فالمدينة التي يمتد تاريخها إلى 1500 عام قبل الميلاد كانت مدينة عادية حتى اتصل اسمها باسم الأمير تيمور ودولته، فصارت أقرب إلى مدينة أسطورية في جمالها.
تتألف سمرقند من ثلاثة أقسام؛ ففي الشمال الشرقي المدينة القديمة، وتضم عددًا من الآثار، أهمها: بقايا القلعة القديمة والتحصينات، وقصر الحاكم، والأحياء السكنية والحرفية، وبقايا مسجد يعود بناؤه إلى القرن الثامن الميلادي. والقسم الثاني في الجنوب، وفيه مجموعات معمارية، ومدينة العصر التيموري، وتضم تقسيمات اجتماعية، كالمدارس والمساجد والمساكن، وهي نموذج مدهش لتطور العمارة وتخطيط المدن وبنائها. أما القسم الثالث فإلى الغرب، وفيه المنطقة التي بناها الروس على الطراز الأوروبي.[2]
لكي تعرف قدر الجمال الذي كانت سمرقند تتمتع به، ما عليك سوى قراءة كلام ابن بطوطة عنها. يقول: “إنها من أكبر المدن وأحسنها وأتمها جمالًا، مبنية على شاطئ وادٍ يعرف بوادي القصَّارين، وكانت على شاطئه قصور عظيمة، وعمارة تُنْبِئ عن هِمَم أهلها. وبخارج سمرقند قبر قثم بن العباس بن عبد المطلب، وهو المستشهد حين فتحها».[3]
أما ياقوت فيقول: “وقالوا: ليس في الأرض مدينة أنزه ولا أطيب ولا أحسن مُستشرَفًا من سمرقند، وقد شبهها حصين بن المنذر الرقاشي فقال: كأنها السماء للخضرة، وقصورها الكواكب للإشراق، ونهرها المجرة للاعتراض، وسورها الشمس للإطباق”.[4]
ويصل الحموي بسمرقند إلى حالة أسطورية حين ينقل حديثًا نبويًّا عن أنس بن مالك، جاء فيه: “لا تقولوا سمرقند، ولكن قولوا المحفوظة. أخبرني حبيبي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن مدينة بخراسان خلف النهر تدعى المحفوظة، لها أبواب على كل باب منها خمسة آلاف مَلَك يحفظونها. وفوق المدينة خمسة آلاف ملَك يبسطون أجنحتهم على أن يحفظوا أهلها. وخلف المدينة روضة من رياض الجنة، وخارج المدينة ماء حلو عذب من شرب منه شرب من ماء الجنة، ومن اغتسل فيه خرج من ذنوبه».[5]
هي إذن وجه الأرض أو قلعتها كما يعني اسمها بالأوزبكية، وصورة الجنة كما يقول صاحب معجم البلدان، وهي فوق ذلك كله وقبله وبعده بنت تيمور، وقصتها معه ليست كقصصها مع غيره، فقد أحياها وأعاد إليها مجدها، بقدر ما أحيا دولة المغول وأعاد إليها مجدها وخوَّف القاصي والداني منها.
المدينة التي فتحها المسلمون عام 710، ظلت عامرة غنية حتى اجتاحها المغول عام 1220، بقيادة جنكيز خان، فنالها كثير من الخراب، حتى كان عهد الأمير تيمور الذي بدأ بناء دولته انطلاقًا منها عام 1370[6].
وحرص الأمير تيمور منذ اللحظة الأولى على أن يجعل سمرقند مركزًا حضاريًّا مميزًا، بأن يجلب إليها من كل بلد يدخله أثرًا، أو مَعْلَمًا، أو بشرًا مبدعين في شتى المجالات.
فقد كان إذا أراد فتح مدينة أوعد حكامها وأهلها، حتى إذا خارت قواهم وضعفت مقاومتهم دخلها فلم تُبقِ فيها جيوشه ولم تذر، نهبًا وسلبًا وتخريبًا وحرقًا، ولكن ذلك كله كان يجري بعد أن يفرغها من مقومات الحياة، من علمائها وصناعها وأدبائها، وأموالها وذهبها ونفائسها.
والعجيب أنه كان بعد العودة إلى سمرقند يحول ما نهبه إلى مساجد وقصور ومدارس، ويُحسن إلى العلماء والمبدعين ليشاركوا في بناء حاضرته وحضارته، فصارت بحق مدينة من جماجم المدن، وحاضرة شبَّت وانفتل عودها على جثث حواضر وحضارات عظمى، في الهند وفارس وبلاد العرب والترك والروس والأوروبيين على السواء.[7]
ومع أن قيمتها السياسية الأسطورية انتهت بنهاية الدولة التيمورية، فقد بقيت القيمة الحضارية والتاريخية لسمرقند في الواقع والخيال، تلهم أهل آسيا الوسطى جميعًا.
وتمثل مناط الفخر والاعتزاز للأوزبك والطاجيك والتتر والأتراك وغيرهم من سكانها، حتى احتلها الروس في القرن التاسع عشر، لتزول مع هذا الاحتلال حقبة من الزمن كان الأوزبك فيها سادة تخضع لهم الأمم والمجتمعات المحيطة، بمن فيها الروس أنفسهم.[8]
واليوم لم يعُد لسمرقند من الماضي سوى ذكريات تعيش عليها، ولكنها ما زالت تحتفظ بما لها من سحر يصيب كل زوارها بالدهشة والإعجاب، لما يرونه فيها من آثار وروائع، سواء ما تفعله الطبيعة، وما تركه البشر من بصمات،
نذكر منها: مسجد ريجستان، والمدارس التي بُنيت من الطوب اللبن وغطيت ببلاط السيراميك المزخرف، ومسجد وضريح بيبي خانوم، ومجمع شاهي زنده الذي يحتوي على سلسلة من المساجد والمدارس والأضرحة، وأخيرًا جور أمير (مقبرة الأمير تيمور وبعض أفراد أسرته)، وروح آباد، بالإضافة إلى بقايا مرصد أولوغ بيك، فضلًا عن ضريح الإمام البخاري، رحمه الله.[9]
أما تأثير سمرقند في المبدعين، فنراه فيمن كتبوا عنها وعن جمالها وبهائها، ومنهم على سبيل المثال الكاتب الفرنسي اللبناني الكبير أمين معلوف في روايته “سمرقند”[10]، والروائي المصري الكبير محمد المنسي قنديل في روايته “قمر على سمرقند”[11]، والكاتبة الروسية فيتالي نومكين في كتابها المرجعي المهم “سمرقند”[12]، أما الشاعر الإنجليزي الكبير إدجار آلان بو فوصفها بأنها “ملكة الأرض”.[13]