على مدار عام 2020، تصاعدت الأنباء المتداولة حول التدخل الروسي في ليبيا، وتعددت التحليلات السياسية حول دوافعها ولأي طرف تميل. بدت غالبية هذه التحليلات متأثرة بحالة الاستقطاب التي كانت وما زالت تشهدها الساحة الليبية بين الفرقاء المختلفين وحلفائهم الإقليميين، مع بعض الدعاية الرغبوية أو التحريضية بادعاء دعم موسكو لطرفٍ ما على حساب الآخر، لاستنفار قوى إقليمية ودولية على تقديم الدعم للطرف المقابل.
لروسيا تاريخ طويل من العلاقات مع ليبيا، التي بدأت بشكل جدي في ظل حكم العقيد معمر القذافي مع الاتحاد السوفيتي، وخلافًا للرواية الغربية التي صورت حاكم ليبيا الراحل بأنه رجل «غريب الأطوار»، يكاد يجمع غالبية الدبلوماسيين والعسكريين الروس الذين خدموا في ليبيا، والتقوا به، على أنه كان يتمتع بعقلية ورؤية مغايرة تمامًا لما يُشاع عنه، وفي العموم يكنُّون له ولعهده احترامًا كبيرًا.
عندما بدأت الأحداث في ليبيا يوم 15 فبراير (شباط) 2011، عارضت موسكو التحريض الغربي على إسقاط الحكومة الليبية، ورفضت كعادتها التدخلات الخارجية؛ متسقة بذلك مع موقفها المحافظ والمضاد لما تسميه «الثورات الملونة» التي عانت منها عبر تاريخها. لأسباب عديدة وافقت روسيا على مضض، ألا تستخدم حق النقد «الفيتو» ضد قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973، الصادر في 17 مارس (آذار) 2011، واكتفت بعدم التصويت عليه بعدما حصلت على «وعود» غربية بأن القرار يهدف حصرًا لحماية المدنيين من هجمات الطيران الليبي “ثبت فيما بعد أن هذه التقارير بعضها كاذب والآخر مبالغ فيه”.[1] ولن يستخدم لإسقاط النظام بالقوة.. واقعيًّا تدخل الناتو وأسقط النظام الليبي، وساعد الميليشيات المسلحة على قتل العقيد القذافي وهو ما أدى لانزعاج موسكو بشكل كبير، لكنها حصلت على تأكيدات إضافية، وفق ما صرح به الرئيس بوتين لاحقًا، بأن مصالح روسيا في ليبيا والعقود التي كانت قد أبرمتها مع العقيد القذافي سيتم تنفيذها.
مرت السنون ولم يفِ «الزملاء الغربيون» بوعودهم، ودخلت ليبيا في موجات من الحروب الأهلية بعدما دمرها الناتو، وفق بوتين.[2] وأهملت الولايات المتحدة وأوروبا الوضع الليبي، وتركت البلاد في حالة من الفوضى.
مستفيدة مما تراه «نصرًا» لها في سوريا على الجماعات المسلحة، ولتذكير جميع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية المتصارعة، بمصالحها التي تم إهمالها في ليبيا. تدخلت روسيا عبر تقديم دعم دبلوماسي وعسكري وإن كان بشكل رمزي، إلى المشير خليفة حفتر.
إجمالًا أبرز أهداف موسكو من هذا التدخل:
بناءً على ما سبق– حليف موسكو في ليبيا هي موسكو نفسها. خلافًا لما روج، لم تكُن روسيا مهتمة بانتصار المشير خليفة حفتر، وما جمع الطرفين علاقة تبادل مصالح فرضتها الظروف والحاجة على كليهما. اعتقدت موسكو أن ما حققه حفتر، كان كافيًا للغاية لتؤكد لخصومها السياسيين في ليبيا وحلفائهم ورعاتهم الإقليميين والدوليين أنها حاضرة في المشهد الليبي وقادرة على التأثير فيه بقوة، ولذا عرضت توقيع اتفاقية هدنة بين الطرفين في يناير (كانون الثاني) 2020، رفض حفتر باللحظات الأخيرة توقيعها وترك موسكو حتى دون إبلاغ المسؤولين الروس؛ وهو ما أدى لحملة عاصفة من النقد تعرض لها في وسائل الإعلام الروسية، وعزز من شعور موسكو بأن مصالحها في ليبيا لابد ألا تحصرها عبر طرف واحد.[3]
التدخل التركي في ليبيا، ربما أثار استغراب عدة أطراف من عدم تصدي موسكو القوي له. واقعيًّا أفاد التدخل التركي روسيا على جميع الأصعدة! شكل التدخل التركي عنصر دعم للموقف الروسي عبر حاجة حفتر له، وغض الطرف عن تدخلها من عدة أطراف أوروبية وعلى رأسها فرنسا وكذلك عربية، خشية من انفراد تركيا بالسيطرة على ليبيا ومقدراتها، عبر الخبرة التي تراكمت من المواجهات بين موسكو وأنقرة، والمصالح المتشابكة فيما بينهما، تمكن كلا الطرفين من إيجاد صيغة تضمن عدم تضارب مصالحهما أو الدخول في اشتباك مباشر. فكما ساعد التدخل التركي روسيا، فقد رسخ الدعم الروسي الذي تمت المبالغة فيه لصالح حفتر، من تمسك الأطراف السياسية في طرابلس بأنقرة ودعمها العسكري؛ وهكذا حدث تخادم للمصالح بين موسكو وأنقرة على الأراضي الليبية، ضمن من خلاله كلا الطرفين، تأمين مصالحهما، والادعاء أنهما رقم صعب لا يمكن تجاوزه من أطراف النزاع ورعاتهم، وحققت موسكو ما كانت تريده من هذا التدخل عبر تحريك المياه الراكدة، ودفع الغرب بشكل جدي في إطار التوصل لحل الأزمة الليبية.
إذن على من تراهن موسكو؟ كثيرًا ما يُطرح هذا السؤال، واقعيًّا ومن خبرة روسيا في ليبيا والمنطقة، وعلاقاتها المتشعبة مع أطراف عدة، وعبر رصد تصريحات مسؤوليها وما يصدر عن المجتمع السياسي الروسي، لا يوجد شخص أو جماعة في ليبيا يمكن القول إن موسكو تراهن عليها أو تدعمها. حال كانت هناك شخصية قوية وقادرة على توحيد ليبيا، وخلق سلطة مستقرة، في الغالب ستسعى روسيا لدعمها وربما التحالف معها.. أما في ظل المشهد الحالي المكون من فسيفساء عرقية ومناطقية وحزبية وميليشياوية فليس من الحكمة-وفق الخبراء والمسؤولين الروس-المقامرة بما وصلت إليه روسيا من مكتسبات، بإقرار جميع الأطراف بوجودها ودورها المؤثر وحاجتهم لوساطتها لتنتقل لخانة الحليف لطرف على حساب الآخرين.[4]