لا يزال وضع اللغة الروسية محل نزاع عميق في مولدوفا – وقد أظهر السياسيون في موسكو وكيشيناو عدم اكتراثهم لتفاقم الانقسامات من خلال اللعب بورقة اللغة. ويُظهر البحث في أرشيفات مولدوفا كيف أدت معاملة الدولة للغة الروسية إلى زعزعة استقرار البلاد في مناسبات متعددة في القرن العشرين – وتهدد بفعل الشيء نفسه مرة أخرى.
لطالما كان وضع اللغة الروسية موضوعًا مثيرًا للجدل في الجمهورية السوفيتية السابقة. برزت هذه القضية مرة أخرى عندما أقر السياسيون المؤيدون لروسيا في برلمان مولدوفا قانونًا جعل من اللغة الروسية فعليًّا اللغة الرسمية الثانية. القانون الذي ألغته المحكمة الدستورية لاحقًا في يناير (كانون الثاني) 2021، جعل معرفة اللغة الروسية شرطًا أساسيًّا لجميع الوظائف الحكومية.
تم تسريع هذه القوانين عبر البرلمان من قبل الحزب الاشتراكي الموالي لروسيا وحلفائه، الذي هُزم زعيمه، الرئيس السابق إيغور دودون، مؤخرًا في الانتخابات الرئاسية على يد المرشحة المؤيدة للاتحاد الأوروبي، مايا ساندو. وكانت هذه الخطوة محاولة لتقويض موقف ساندو، لأنها ترغب في رؤية بلدها يقترب من الاتحاد الأوروبي، وليس روسيا.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تستخدم فيها النخب مكانة اللغة الروسية لاستقطاب مجتمع مولدوفا. لطالما تكررت مسألة تحديد مكانة اللغة الروسية منذ عام 1989، عندما أصدر مجلس السوفيت الأعلى، الهيئة التشريعية في البلاد في ذلك الوقت، قوانين جعلت من المولدوفية اللغة الرسمية الوحيدة.
في وقت سابق من القرن العشرين، كانت معرفة اللغة الروسية مصدرًا للتمييز. في عام 1944، بعد تشكيل جمهورية مولدوفا الاشتراكية السوفيتية، اتبعت السلطات السوفيتية الجديدة سياسات تمييزية ضد المولدوفيين عرقيًا، الذين اعتبروهم غير جديرين بالثقة.
تم منح المتحدثين الروس معاملة تفضيلية وكان لديهم وصول أسهل إلى وظائف رفيعة المستوى، حيث اعتقد السوفيت أنه كان من الأسهل استيراد المهنيين بدلًا من تدريب السكان المحليين. نتيجة لذلك، كان المتحدثون باللغة الروسية يعملون بشكل عام في قطاعات العمالة الماهرة والإدارة بينما كان معظم سكان مولدوفا يعملون في الزراعة.
وهكذا أصبحت مولدوفا مجتمعًا منقسمًا. في المراكز الحضرية، سيطرت الروسية على جميع جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية، بينما في الريف كانت المولدوفية هي المهيمنة. ولكن منذ السبعينيات فصاعدًا بدأ سكان مولدوفا في الهجرة من المناطق الريفية بحثًا عن عمل في المراكز الحضرية. ازداد استياء الكثير من إجبارهم على التحدث بالروسية يوميًّا وبشأن كيفية التمييز ضدهم بسبب افتقارهم إلى الكفاءة.
بحلول الوقت الذي وصلت فيه البيريسترويكا – حركة الإصلاح السياسي التي بدأها الزعيم السوفيتي آنذاك ميخائيل غورباتشوف – إلى مولدوفا، كان هناك استياء واسع النطاق بين السكان الذين سكنوا الحضر حديثًا.
سعى نواب مجلس السوفيت الأعلى، ومعظمهم من مولدوفا، إلى الاستفادة من ذلك من خلال التحريض على اعتماد قوانين اللغة التي من شأنها أن تجعل من المولدوفية اللغة الرسمية الوحيدة. وتم دعم هذه القوانين من قبل الأكاديميين، الذين أصبحوا قلقين بشأن الآثار طويلة المدى التي تحدثها اللغة الروسية على المجتمع. في ربيع عام 1989 جعل مجلس السوفيت الأعلى من المولدوفية اللغة الرسمية بينما ظلت اللغة الروسية هي لغة التواصل بين الأعراق.
ومع ذلك في النسخة النهائية من القوانين 1989، التي نُشرت كانت المولدوفية، وليست الروسية، هي لغة التواصل بين الأعراق. وبعد عقود من هيمنة الثقافة الروسية، تم الترحيب بالقوانين من قبل معظم سكان مولدوفا الذين سئموا التمييز اللغوي في جمهوريتهم. وجاء هذا أيضًا في الوقت الذي كان فيه تحديد الهوية على أساس الجنسية ينمو في الدول الشيوعية السابقة.
كما نشر مجلس السوفيت الأعلى المسودات النهائية في الصحف في منتصف أغسطس (آب) 1989، كان الكثيرون غير راضين عن التشريع المقترح. تشكل الأقليات ما يقرب من 40% من السكان، وقد صُدم معظمهم عندما رأوا أن اللغة الروسية ليست اللغة الرسمية الثانية ولا لغة التواصل بين الأعراق.
ردًّا على ذلك تم تشكيل اتحاد التجمعات العمالية المشتركة، في ترانسنيستريا، ثم المنطقة الشرقية للبلاد. في الأيام التي سبقت اجتماع مجلس السوفيت الأعلى لمناقشة القوانين، ثم أعلن الاتحاد إضرابًا إلى أجل غير مسمى.
لم تقتصر الإضرابات على ترانسنيستريا. بين أغسطس (آب) و سبتمبر (أيلول) 1989، أضربت مئات المصانع في جميع أنحاء الجمهورية، بما في ذلك تلك الموجودة في العاصمة كيشيناو. في ذروته، كان أكثر من 189 مصنعًا و 100.000 عامل في إضراب – وهو رقم مثير للإعجاب لبلد يبلغ عدد سكانه حوالي 3 ملايين مواطن في ذلك الوقت.
شلت الإضرابات الصناعة وكان لها تأثير غير مباشر في أوكرانيا المجاورة. اضطر غورباتشوف للتدخل، وأمر عمال السكك الحديدية بالعودة إلى العمل وتحت الضغط، لم يكن أمام مجلس السوفيت الأعلى خيار سوى التراجع واعتماد اللغة الروسية كلغة للتواصل بين الأعراق.
يمكن أن يُعزى رد الفعل العنيف على القوانين جزئيًّا إلى عدم مشاركة السلطات. حيث أخفقت الأخيرة في توضيح ماهية اللغة “الرسمية” بالضبط وكان هذا صحيحًا بشكل خاص في ترانسنيستريا، حيث كان رد الفعل على القوانين المقترحة أشد قسوة. هنا لم تبذل الأحزاب الشيوعية المحلية أي جهد لشرح ما تعنيه القوانين، أو كيف ستؤثر على العمال.
انخرطت الأحزاب الشيوعية المحلية في مدن أخرى، مثل كيشيناو، مع العمال. نتيجة لذلك بمجرد اعتماد اللغة الروسية كلغة للتواصل بين الأعراق تمكن المسؤولون من منع المزيد من التعبئة. ومع ذلك، فإن الامتياز لم يبدد المشكلة. في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تم انتخاب حزب الشيوعيين في جمهورية مولدوفا، ووصل إلى السلطة من قبل الناخبين المحبطين الذين أصيبوا بخيبة أمل من إصلاحات السوق ويحنون إلى استقرار الحقبة السوفيتية.
حظي الشيوعيون بتأييد المتحدثين الروس بعد أن وعدوا بجعل اللغة الروسية هي اللغة الرسمية الثانية. ومع ذلك سرعان ما تراجعوا عن هذا الوعد بعد احتجاجات واسعة النطاق. ولا يمكن التقليل من أهمية مسألة اللغة، أو بشكل أكثر دقة، مكانة اللغة الروسية. ساعد القرار الذي اتخذه مجلس السوفيت الأعلى على تحفيز الحركات الانفصالية في كل من غاغاوزيا وترانسنيستريا، حيث استخدمت النخب المحلية الطموحة القوانين كدليل على أن المولدوفيين كانوا يتبعون سياسة الاستيعاب.
تم حل النزاع مع منطقة غاغاوزيا فقط بعد أن وافقت السلطات على إنشاء وحدة إقليمية ذاتية الحكم فيها، ويكون لها ثلاث لغات رسمية: (الغاغاوزية والمولدوفية، والروسية). ومن ناحية أخرى، لدى ترانسنيستريا ثلاث لغات رسمية: (الروسية، والأوكرانية، والمولدوفية)، وتواصل استخدام الوضع اللغوي في مولدوفا لتبرير استقلالها الفعلي. كما أن هذه القضية لا تزال تنطوي على إمكانية زعزعة استقرار أجزاء أخرى من البلاد. ولا يزال العديد من الأقليات في البلاد يتطلعون إلى موسكو وقد يشعرون بالغربة بسبب السعي وراء مسار مؤيد لأوروبا.
يشعر كل من المولدوفيين والمتابعين للشؤون الدولية، في بعض الأحيان، بعدم الارتياح بشأن تأثير روسيا على الأقليات في البلاد. وتكهن البعض بأن مدينة بالتسي الموالية لروسيا أو منطقة غاغاوزيا يمكن أن تصبح “دونيتسك” أخرى في إشارة إلى المنطقة الانفصالية الموالية لروسيا في شرق أوكرانيا. وأشار آخرون إلى نفوذ روسيا في منطقة تاراكليا، حيث يقيم البلغار الناطقون بالروسية.
وتُظهر إدانة موسكو الشديدة للمحكمة الدستورية في مولدوفا مدى استعدادها لاستخدام الانقسامات اللغوية لزعزعة استقرار البلاد. وحتى الآن الأقليات العرقية لم تبتلع الطُّعم. ومع ذلك فقد أظهر التاريخ أن الأسئلة حول مكانة اللغة الروسية يمكن أن تحفزهم. وقد كان الرد أشد قسوة على قضية اللغة مِن عام 1989، وقد جاء من ترانسنيستريا وغاغاوزيا، لكن الآلاف من المتحدثين بالروسية من كيشيناو وبالتسي وأماكن أخرى في مولدوفا شاركوا في الاحتجاجات أيضًا. وإن استمرار دعمهم للأحزاب الموالية لروسيا، مثل الحزب الشيوعي والاشتراكيين، الذين يدافعون عن زيادة مكانة الروسية، يُظهر أنه بالنسبة لهم، لم تتم تسوية قضية اللغة بعد.[1]
الكاتب: كيث هارينغتون
المقالة تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير