تعتمد أهمية دراسة العلاقات الروسية – اليابانية على دور كلا البلدين في المحيط الإقليمي والدولي، حيث يسعى البلدان إلى أداء دور أكبر على الساحة السياسية الدولية، بالإضافة إلى أن العلاقات الروسية- اليابانية واحدة من العلاقات الدولية التي تجمع بين الأهمية والتعقيد في الوقت نفسه، حيث مرت بمسار تاريخي شكلته الحروب والأزمات، خاصة فيما يتعلق بموضوع “جزر الكوريل”، التي كانت ولا تزال تُلقي بظلالها على علاقات البلدين؛ لذلك فإن تحليل الدوافع الحالية للتعاون والأسباب الموضوعية التي قد تحول دونه يُمكن أن يعطينا صورة واضحة لمسار العلاقات بين البلدين.
تمثل جزر الكوريل أهمية اقتصادية وعسكرية وجيوسياسية لكل من روسيا واليابان، فأولًا تاريخيًّا، في النصف الأول من القرن الثامن عشر، عام 1786، صدر مرسوم بضم جزر الكوريل إلى الإمبراطورية الروسية. وفي عام 1798، أعلن اليابانيون أن الجزر مِلك للإمبراطورية اليابانية، وبحلول عام 1804، سيطرت روسيا واليابان بشكل مشترك على الجزر، وعام 1855 وقعت روسيا واليابان على أول اتفاقية تجارية ثنائية، ورسّما الحدود، وتم على أساس تلك الاتفاقية إعلان السلام والصداقة بينهما، وفتحت ثلاثة موانٍ يابانية أمام السفن الروسية. لكنَّ الجانبين وقّعا، عام 1875، معاهدة تتنازل بموجبها روسيا عن إحدى جُزر الكوريل لليابان، وفي المقابل، اعترفت اليابان بالولاية القضائية الروسية الكاملة على سخالين، وبقيت المعاهدة سارية حتى عام 1905، عندما وقعت روسيا واليابان على معاهدة بورتسموث للسلام، وتخلت روسيا عن جزر الكوريل بكاملها، وبعض الأراضي في جنوب جزيرة سخالين.
غيرت هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية الوضع على الأرض لصالح روسيا، التي استعادت السيطرة على جزر الكوريل. عام 1956، وقع الاتحاد السوفيتي واليابان إعلانًا مشتركًا لإنهاء حالة الحرب واستعادة العلاقات الدبلوماسية، ووافق السوفيت مؤقتًا على التخلي عن جزيرتي هابوماي وشيكوتان لليابان في حالة إبرام معاهدة سلام. ومع ذلك، لم يتم التوقيع على معاهدة السلام، وقدمت اليابان مطالب لاستعادة جزر الكوريل الأربع (هابوماي، وتشيكوتان، وكوناشير، وإيتروب) التي تعدّها مناطقها الشمالية. وفي أثناء الحرب الباردة، دعمت الولايات المتحدة اليابان في صراعها مع روسيا بشأن الجزر، وبذلت جهودًا لمنع تهدئة الموقف بين البلدين وحل الأزمة، في حين اعتبر الاتحاد السوفيتي أن قضية الأراضي مع اليابان تم حلها في الحرب العالمية الثانية.
وتتمثل أهمية جُزر الكوريل الاقتصادية والعسكرية والجيوسياسية كالتالي:
لذا فالخلاف على جزر الكوريل ليس مجرد صراع ترسيم حدود أو تقسيم أراضٍ، ولكنه يرتبط أيضًا بالتحولات الجيوسياسية العالمية في القرن الحادي والعشرين، حيث يطمح كلا البلدين إلى الحصول على أكبر درجة ممكنة من المكانة والسلطة والسيطرة على الخريطة الدولية.
تستند دوافع التعاون “المُحتمل” بين روسيا واليابان إلى النظرة المتبادلة بين البلدين، التي تنطلق من فرضيات مثل: “الاجتماعات المتزايدة على مستوى القمة بين الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين) ورئيس الوزراء الياباني السابق (شينزو آبي)، وإنشاء اليابان وزارة خاصة للتعاون الاقتصادي مع روسيا، والاتفاق على إنشاء آلية لتوسيع الأنشطة الاقتصادية المشتركة في جُزر الكوريل وتقويتها، وبدء الحديث وإن كان لا يخلو من خلافات بشأن توقيع معاهدة سلام دائم. ويمكن تلخيص النظرة المتبادلة كالتالي:
لكن كما أن هناك فرضيات تؤيد هذه الرؤية المتفائلة، هناك حقائق أخرى تميل إلى أن العلاقات الروسية- اليابانية ستبقى في حالة من الجمود لعدة اعتبارات، أبرزها:
ما سبق من فرضيات يعني أننا قد نشهد تقاربًا يابانيًّا – روسيًّا في المواقف السياسية تجاه قضية دولية أو إقليمية، مثل: الصراع في شبه الجزيرة الكورية، والملف النووي الإيراني الذي شكل عاملًا من عوامل التقارب بين البلدين، وفي الوقت نفسه قد نشهد خلافًا ونزاعًا، بسبب التوترات والضغوط التي ألقت بظلالها على العلاقات بين البلدين، مثل “النزاع على شبه جزيرة القرم”.
حتى الآن، ليس هناك احتمال أن يحل البلدان النزاع الإقليمي بينهما حلًا نهائيًّا، لكن في وضع لا تغير فيه كل من روسيا والولايات المتحدة نظرتهما المتبادلة، تغير اليابان نظرتها. وقد تضع طوكيو في الوقت الحالي أي تطلعات لحل النزاع على الأرض جانبًا، وتبدأ بالتحرك فقط من منظور جيوسياسي يخدم المصالح الوطنية اليابانية، سيركز نسبيًّا على التالي:
روسيا- من جانبها- تواجه موقفًا اقتصاديًّا وسياسيًّا صعبًا نسبيًّا، خاصةً بعد تحولها نحو الصين عام 2014، لكن تصديرها النفط والغاز الطبيعي لم يجلب الفوائد التي كانت متوقعة، بالإضافة إلى التأثير السلبي لجائحة (كوفيد- 19) في الاقتصاد، الذي انعكس في زيادة عدد الشركات الروسية التي بدأت تعاني نقص السيولة، وتعليق الأجور. وقد يؤدي تغيير موقف روسيا في الغرب إلى إعادة تحديد إطار عمل مشترك للمفاوضات مع اليابان، وهذا من شأنه أن يخلق ظروفًا أكثر ملاءمة لتحقيق انفراج في العلاقات الروسية- اليابانية. ومع ذلك، في هذا الوقت، لا يبدو أي شيء مرجحًا.
أخيرًا، هناك أسباب عدة للقادة اليابانيين والروس للتوصل إلى اتفاق لتطبيع علاقتهم بترسيم الحدود الإقليمية، وإعلان معاهدة سلام، والشعور بالمصالح المشتركة؛ فالبلدان في وضع غير مؤاتٍ نسبيًّا لمناورة القوى العظمى الحالية، وقد يفقدان نفوذهما في توازنات السياسة. وبالنظر إلى أن روسيا تؤيد التعددية القطبية، وأن اليابان حريصة على سياسة خارجية آسيوية أكثر قوة، فإن المنطق السياسي المستقل للبلدين، بعيدًا عن نظرة الولايات المتحدة، قد يضمن مصالح البلدين.
وهناك سبب آخر لضرورة دفع العلاقات الروسية- اليابانية قُدمًا، وهو أن التكامل الاقتصادي لم يتحقق بشكل كافٍ بين البلدين، حيث تشعر الشركات اليابانية بالقلق من إمكانية إدراج تقنيات النفط والغاز في قائمة العقوبات الأمريكية، وتخشى أن تفرض وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على الشركات اليابانية بسبب مشروعاتها في روسيا، وتتذكر الشركات اليابانية العقوبة القاسية التي تعرضت لها شركة توشيبا عام 1987؛ لتعاملاتها مع الاتحاد السوفيتي، وهذا ما لا تريد تكراره.
وعلى الرغم من العقوبات الاقتصادية فإن هناك فرصًا جديدة لزيادة الروابط الاقتصادية اليابانية- الروسية في قطاعي الطاقة والزراعة، فقد زادت اليابان من اعتمادها على مصادر طاقة الوقود الأحفوري في أعقاب الانهيار النووي في فوكوشيما عام 2011؛ مما أدى إلى زيادة التعاون في مجال الطاقة، كما طورت الحكومة اليابانية مشروع استثمار زراعي شامل في الشرق الأقصى الروسي، ويهدف هذا المشروع إلى تحسين الإنتاجية الزراعية في روسيا من خلال اعتماد الآلات الزراعية اليابانية، والأسمدة والكيماويات الزراعية، وتقنيات معالجة الأغذية، وسيزيد العائد من إمكانات تصدير فول الصويا، والذرة، والقمح، ومنتجات الماشية، والتوت البري، والمنتجات المصنعة إلى اليابان، كما يستثمر هذا المشروع في تحسين الصوبات الزراعية الموجودة، وبناء صوبات زراعية جديدة لزراعة الخضراوات الطازجة والآمنة على مدار العام باستخدام التقنيات اليابانية.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.