مقالات المركز

من وحي كتاب «المهاجرون الروس إلى مصر»

عن تاريخ الهجرة الروسية إلى مصر


  • 21 أغسطس 2023

شارك الموضوع

أدت الثورة والحرب الأهلية الروسية إلى تدفق موجات الهجرة من روسيا إلى البلدان المجاورة بشكل أساسي، واعتبرت تركيا الاستثناء الوحيد؛ حيث رُحِّلَت بقايا الجيش الأبيض تحت قيادة البارون فرانجل إلى هناك في نهاية عام 1920، ثم تفرق المهاجرون الروس من هذه البلدان، وتوجهوا إلى مناحي متفرقة من العالم، ووصلوا حتى أستراليا وأمريكا اللاتينية، غير أن هناك موجتين صغيرتين من المهاجرين توجهتا إلى شمال إفريقيا.

الأولى كانت في مطلع 1920، عندما رحَّل الإنجليز عددًا من مصابي الجيش الروسي وجرحاه تحت قيادة الجنرال دينيكين، وبعض المدنيين إلى مدينة الإسكندرية. أما المجموعة الثانية فتمثل سرب البحر الأسود الَذي انسحب في نهاية العام نفسه من سيفاستوبول متوجهًا إلى مدينة بنزرت التونسية.

وعند مقارنة هاتين الموجتين من المهاجرين من حيث الحجم، يتضح لنا صغر حجمهما، حيثُ لم تتعد أعداد كل موجة من أربعة أو خمسة آلاف شخص، غير أنهم أصبحوا في الفترة الأخيرة مادة وهدفًا لاهتمام الباحثين والدارسين. ولعل البحث في وضع البحارة الرُّوس في تونس وظروفهم أسهل بكثير؛ إذ بقي هؤلاء يعيشون على متن سفنهم، ولم يتفرقوا حتى إنهم أصدروا مجلة بعنون “المجموعة البحرية”.

كما كان هناك شاهد حي على وضع هؤلاء، وعلى الأحداث التي وقعت في تلك السنوات، ونقصد به السيدة أنستاسيا ألكسندروفنا شيرينسكايا (1912-2009)، وهي ابنة الضابط البحري، التي يرجع إليها الفضل في الحفاظ على تراث السّرب البحري الروسي وتقاليد معيشته، ومؤلفة المذكرات الأكثر شهرة في هذا الموضوع، في حين أن الأمر الأكثر صعوبة هو دراسة حالة الهجرة الروسية إلى مصر ووضعها.

فهناك عدد من الجنود الروس الجرحى الذين تلقوا علاجهم في المستشفيات العسكرية الإنجليزية في مصر عادوا إلى القرم في روسيا في العام نفسه، في حين قضت مجموعة أخرى عامين في معسكرات اللاجئين؛ ومن ثم أُرسِلوا إلى بلغاريا وصربيا. القسم الثالث هو ذاك الذي تمكن من الفرار من المعسكرات، ووجد لنفسه مكانًا في هذا البلد، ويمثل هؤلاء مجموعة متباينة السمات، ولا يجمع بينها سوى الأصل الروسي، وتطلب الأمر سنوات طويلة لجمع المواد الأرشيفية والوثائقية عنهم شيئًا فشيئًا.

وتمثل دراسة الهجرة الروسية إلى مصر موضوعًا ملحًا ومهمًّا لعدد من الأسباب؛ أولها لكون هؤلاء يمثلون شريحة مهمة من المجتمع الروسي. كان بين المهاجرين الروس إلى مصر دبلوماسيون، وضباط، وأرستقراطيون، ورجال فكر وثقافة، وعلماء، وأطباء، ومهندسون، وفلاحون بسطاء، ونذكر منهم فنانين مشاهير، من أمثال إي. بيليبين (1867- 1942)، وعالم المصريات ف. جالينيشيف (1856- 1947)، والطبيب ج. فون أنريب (1889- 1955)، والفنانة الشهيرة صاحبة الجولات والصولات على المسارح الإمبراطورية النبيلة ناديجدا لانسكايا (1892- 1937). وقد ترك هؤلاء أثرا كبيرا في الثقافة والعلوم.

وقد اختلفت طريقة وعملية تأقلم المهاجرين الرُّوس في مصر عن غيرهم في بلدان أوروبا، فرغم حصولها على الاستقلال الرسمي عام 1922، كانت مصر ما زالت تعيش ظروفًا شبيهة بالاحتلال، وهو ما أدى إلى تمتع الجالية الروسية- على الرغم من فقرها الشديد- بوضع مميز لانتمائها إلى النخبة الأوربية في المجتمع المصري، ووجب على الروس التأقلم مع نمط حياة الأوروبيين المقيمين الذين كانوا يتعاملون معهم في الأساس، ومع المحيطين بهم من المصريين.

وقد تركت الهجرة الروسية إلى مصر أثرًا كبيرًا مقارنة بتعدادها، وكان أغلب المهاجرين من المتعلمين؛ ولذا اشتغل هؤلاء وحصلوا على لقمة عيشهم من العمل في مجال التعليم بشكل أساسي. ويرجع الفضل إلى الأساتذة الروس في تنشئة أجيال من الموسيقيين، والأطباء، وعلماء المصريات، والنحاتين؛ ولذا ليس من المستغرب أن تتردد النخبة المصرية، وعلى رأسها الملك، على الحفلات الخيرية التي كان ينظمها المهاجرون الروس كل عام.

وهناك دور آخر مهم أدّاه المهاجرون الروس؛ فبعد ثورة أكتوبر 1917، حتى أغسطس 1943، لم تكن هناك علاقات دبلوماسية بين البلدين، فيما لم تتسم العلاقات التجارية وغيرها بطابع الاستدامة والتواصل. وفي تلك الحقبة تحديدًا، استطاع المهاجرون الروس ملء هذا الفراغ في العلاقات بين الشعبين الروسي والمصري، فقد كانت تصرفاتهم وأفعالهم معيارًا لحكم المصريين على الشعب الروسي عامة، حيث ترسخت الصورة الإيجابية التي تراكمت قرونًا عن الإنسان الروسي، وأعتقد أن ذلك كان عاملًا أساسيًّا في التطور السريع لعلاقات الصداقة بين الاتحاد السوفيتي ومصر بعد ثورة 1952.

حياة الروس في مصر

في عام 1920، وصل آلاف اللاجئين الروس إلى مصر على متن سفن من نوفوروسيسك وأوديسا، وُضِعوا في معسكرات أقامها البريطانيون عام 1915، أُنشئت سابقًا للتحفظ على الألمان والأتراك الذين أُسِروا.

وتقع هذه المخيمات في مناطق التل الكبير، وسيدي بشر، وفايد، والعباسية، ويقع الأخير في أطراف القاهرة.

وسرعان ما عرضت السلطات البريطانية والحكومة المصرية على الأطباء الروس العسكريين العمل في مراكز صحية ريفية وحضرية.

وفي العام نفسه، قامت مجموعة من الأطباء- بمبادرة من د. بيلين- بالعمل في المراكز المذكورة أعلاه، وبعد بضعة أشهر، وبعد أن رفضت الاستمرار في هذه المراكز، أسست عيادة المتخصصين الرُّوس في القاهرة، وبدأت العيادة بالعمل والاستقلال بنفقاتها.

دُعِي الأستاذ الفخري في جامعة موسكو، ك. أ. فاجنر، إلى تولي منصب المدير، ولكنه غادر لاحقًا إلى موطنه وارسو، حيثُ توفي في الثلاثينيات.

وهكذا أصبحت العيادة أول مركز للمهاجرين الرُّوس، وسرعان ما عُلق صليب وأيقونات في غرفة الاستقبال، وأقيم القداس هناك أيام الأحد.

وبحكم كونهم أول من خرج من المعسكرات الإنجليزية، بدأ الأطباء بمساعدة المواطنين الآخرين، وتجهيزهم للعمل، وإيجاد فرص عيش لهم بأدنى قدر من الراحة.

تعاملت السلطات المصرية و”المراقبون” البريطانيون معاملة حسنة مع الروس، وغُيِّرَ اسم القنصلية إلى المكتب الروسي، وحصل المهاجرون على قانون خاص، وكان لهم مكتب يتبع وزارة الداخلية المصرية، ومارس مهامه حتى عام 1963.

 إضافة إلى ذلك، تأسس النادي الروسي. كانت بداياته في القاعة الصغيرة للمحامي تيخي، الذي قام مع المحامي جيديونوف بحماية حقوق الروس في مصر، وسرعان ما نُقل النادي إلى شقة أكبر، وأعيدت تسميته بالجمعية الروسية، وتمت هيكلته، ووُضعت اللبنة الأولى للمكتبة، وافتُتح مطعم.

وفي الإسكندرية، ظلت الكنيسة الروسية في القنصلية السابقة، وانخرطت الجالية الروسية أيضًا في الحياة المحلية.

أفضل ما يمكن أن يصف حياة الروس في مصر هو المعاملة الطيبة بين جميع أفراد الجالية. صحيح أنه لم يكن هناك كثير منهم (900 في القاهرة، ونحو 650 في الإسكندرية، و30 في منطقة قناة السويس)، لكن ربما لهذا السبب تعامل الجميع معا بود عندما احتاجوا إلى مساعدة بعضهم بعضًا، وكانت السعادة تغمرهم عندما كانت الدنيا تبتسم لأحدهم.

بالإضافة إلى ذلك، أُسست الجمعية الخيرية الروسية لمساعدة المحتاجين، التي ما زالت موجودة حتى يومنا هذا. أساهم في هذا العمل- إسهامًا كبيرًا- الدكاترة: ف. بيلين، وف. كازاكوف، وإيفانوف، والسيدة راب، والسيدة م.ب. فينيديكتوفا.

كان الروس في مصر محبوبين، ويتعاملون باحترام، وأطلق عليهم اسم “الموسكوفين”، وكان هذا لقبًا فخريًّا، وقد أسهم المتخصصون الروس بكثير من العمل من أجل نهضة مصر، وهو ما كان موضع تقدير كبير من الشعب المصري. كان أغلب المهاجرين في بداية الهجرة يعملون في قيادة سيارات الأجرة أو الشاحنات، لكن مع مرور الوقت انتقلت الأغلبية إلى مرحلة أعلى من الوظائف، وشغل التخصصات الراقية.

من الضروري ذكر كثير من الأسماء لمن تركوا وراءهم ذكرى طيبة في بلاد النيل والفراعنة، ومنهم المهندس ليليافسكي، وهو أحد المشاركين الرئيسيين في بناء القناطر على نهر النيل،  كما حظي الفنانون ف. ن. ستريكالوفسكي وأبناؤه رومان ونيكولاي وفسيفولود بتقدير كبير، وتزين لوحاتهم متاحف التاريخ، والزراعة، والمتحف العسكري في القاهرة. في الولايات المتحدة، توجد صور هيروغليفية في جامعتي هارفارد وشيكاغو، صنعها فسيفولود فلاديميروفيتش ستريكالوفسكي (ضابط البحرية السّابق)، وهناك المنمنمات واللوحات التي رسمها إ. كاسيستوف، التي اشتهرت ليس فقط في مصر فحسب؛ بل في الخارج أيضًا. ويذكر أن لوحات أ. ديفوف، وس. ديفوف، ومنمنمات ماك، ولوحات ي. يا. بيليبين، التي رسمها في بورسعيد، ولوحات ف. يا. روتكوفسكي، وإيقونات ن. ف. سافين نالت شهرة واسعة في أوروبا، بالإضافة إلى المنحوتات الرائعة لفريدمان- كلوزيل.

ومن ناحية أخرى، أعد كل من البروفيسور أنريب، والبروفيسور ف. بولجاكوف جيلًا جديدًا من الأطباء المصريين.

أسس الأطباء الروس الجمعية الطبية الروسية، وبدأ رئيسها ف. بيلين منذ عام 1932 بإصدار نشرة العيادة الروسية.

كانت الجمعية تعقد اجتماعاتها شهريًّا. وكان البرفيسور بلاتونوف وعدد من الأطباء يلقون في أثناء هذه اللقاءات محاضراتهم العلمية، كما نُظِّمَت دورات للمعالجين بالتدليك، ودورات طرق رعاية المرضى، وأخيرًا أُنشِئ مستشفى خاص بالعيادة.

ساعد الأمريكيون والبريطانيون والفرنسيون الطلاب، وقدموا لهم منحًا دراسية. قدم الروس، الذين حققوا بفضل جهودهم مكانة جيدة، مثل سينيوتوفيتش ورشكوف، كثيرًا من الخدمات للمهاجرين الروس .

كما كانت هناك مكاتب الاتحاد العسكري العام الروسي، واتحاد المعاقين في القاهرة. وفيما يتعلق بالتعليم، أظهر الروس مكانة تستحق التقدير. أما الشباب فقاموا بدور كبير. وبالتوازي مع أنشطة الاتحاد الروسي، كَان هناك ناد للشطرنج، وجمعية أدبية، حيث أقيمت أيام الثقافة الروسية، وعروض الهواة، ونظم جيل الشباب عددًا من حلقات الشباب الوطنية الروسية، وتكونت فرقة الكشافة وغيرها من الفرق الرياضية. كانت هناك أيضًا معسكرات صيفية على البحر كل عام.

افتتح م. م. أندرييفسكي مدرسة المبارزة، في حين افتتحت أ. ن. ستريكالوفسكايا مدرسة للباليه، ونظمت الجمعية الموسيقية حفلات موسيقية. كانت الجوقة تحت إشراف ن. أ فينيديكتوف تحظى بتقدير كبير من جمهور القاهرة.

وهناك عدد من الآثار الروسية في مصر، منها كنيسة صغيرة روسية، ومقبرة جماعية في المقبرة الأرثوذكسية للقديس جورج في القاهرة القديمة، ونصب تذكاري لبحارة الطراد “بيريسفيت”، رممه المهندس أ. ك ستاريتسكي في بورسعيد، ولكن القنصل السوفيتي أعاد تصميمه لاحقًا بطريقته الخاصة، ومنحوتات ولوحات لعدد من الفنانين الروس في المتاحف، وأعمال كتبها عالم المصريات فيكنتييف، والأساتذة أنريب، وبولجاكوف، وآخرون.

حتى يومنا هذا، هناك مبنيان آخران بُنيا بأموال الحكومة الإمبراطورية الروسية، وهما البطريركية اليونانية في القاهرة، ومدرسة أبيت اليونانية.

لقد قام الروس بكثير من العمل في مصر، ورفعوا اسم روسيا عاليًا، وأخرجوا جيلًا من الشباب، وأساهموا كثيرًا في التقريب بين الشعبين، وتوطيد العلاقات الإنسانية بين البلدين.

ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع