في حوار صحفي خاص مع مجلة “بيزنس أونلاين“، تحدث رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاعية الروسي سيرغي كاراغانوف، مع الصحفي فاديم بوندار، عن آخر تطورات الصراع الحالي بين روسيا والغرب، ومستقبل العلاقة بين الطرفين. تقدم “وحدة الرصد والترجمة” في مركز الدراسات العربية الأوراسية، ترجمة كاملة للحوار؛ لما فيه من أهمية.
العملية العسكرية الخاصة مستمرة منذ أكثر من عام. خلال هذه الفترة، برأيك، هل حدثت تغييرات جوهرية في العالم، وفي روسيا؟
شهد هذا العام عددًا كبيرًا من التغييرات، وهي آخذة في الاتساع. العملية الخاصة ليست سوى جزء صغير منها، لكنها مهمة جدًّا لنا في صنع هذه التغييرات السريعة، غير أننا لا نلاحظها لأن مشهد الأحداث الحالي لا يمنحنا فرصة للتفكير. في غضون ذلك، كان العالم قبل عام مختلفًا إلى حد كبير. على سبيل المثال، خلال هذا الوقت، تحولت الصين من قوة اقتصادية عظمى إلى قوة سياسية خارجية كبرى مؤثرة، بعد أن حققت نجاحًا كبيرًا في هذا المجال، مقابل اتجاه أوروبا- بشكل أكبر- في طريق الفشل.
لقد تغير الكثير في بلدنا هذا العام أيضًا. بادئ ذي بدء، انتهت الرحلة الروسية الساعية إلى الالتحاق بأوروبا. الآن بدأ الاتحاد الروسي بالبحث عن نفسه، وعن ذاته، ودعونا نأمل أن يجدها في أقرب وقت ممكن. تسارعت عملية تأميم النخبة، وتم التخلص- إلى حد كبير- من جزء من النخبة الاقتصادية التي عملت لصالح الغرب. في العلوم السياسية، يطلق عليها “الطبقة الكومبرادوية”.
في آخر مقابلة لنا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، قلت: “الآن، روسيا وأوروبا، على الرغم من كل الاختلافات، لديهما عدد كبير من الروابط الاقتصادية والثقافية، لكننا على طول الخطوط الرئيسة نتحرك بعيدًا. ماذا لدينا الآن؟ لقد مُزِّقَ بالفعل كل شيء تمامًا، وقد ابتعد بعضنا عن بعض، أم أن مواجهتنا ليست خطيرة وعميقة كما يعتقد كثير من الناس؟ وهل يمكننا الاستمرار في هذه اللعبة؟
خلافاتنا كبيرة لأسباب تتعلق بالسياسة الخارجية. قررت النخب الأوروبية إنقاذ مواقعها من خلال تبني سياسة خارجية ودعائية واقتصادية ضد روسيا، تشتمل على تحدٍّ عسكري جزئي لها؛ لذا أصبحت العلاقات سيئة جدًّا.
لكن ربما يكون الشيء الأكثر أهمية هو أن روسيا وأوروبا تتباعدان من حيث معايير القيمة، وهذه العملية تسير بشكل أسرع في وتيرتها. لقد أصبحنا أوروبيين قدامى، وهم أصبحوا ما بعد أوروبيين، بل يتجهون نحو قيم ما بعد الإنسانية. عندما ينهار الاتحاد الأوروبي في النهاية، من المرجح أن تكون الاتفاقات مع الدول الأوروبية بشكل فردي، لكن هذا الاحتمال لن يحدث في القريب العاجل.
الآن، أصبح لإفريقيا صوت مؤثر جدًّا، وهو ربما ما لم نسمعه على الإطلاق منذ 30 عامًا، والآن في منتصف شهر مايو (أيار)، هناك بيان صادر عن رئيس جنوب إفريقيا بأن روسيا وأوكرانيا اتفقتا على قبول مهمة حفظ السلام من الدول الإفريقية، في حين عارضت السعودية مواقف حلفائها التقليديين، مثل الولايات المتحدة. كيف تعلق على هذه التغييرات؟
الاتجاه السائد في السنوات الأخيرة هو تحرير العالم من نير الغرب. أصبحت بلدان العالم غير الغربي تتجه- بشكل أكبر- نحو التحرر من الغرب. نحن الآن أمام صراع للحفاظ على بقايا الاستعمار الجديد، مقابل بقية العالم الراغب في التحرر منه. علينا أن نشعر بالفخر أننا في طليعة هذا النضال، ونشكل نوعًا من كسر الجليد الذي يُنهي الجليد المتبقي للنظام الاستعماري الجديد للهيمنة الغربية. وفقًا لذلك، تعمل روسيا مثل كاسحة الجليد، وهو ما يجعلها تتحمل العبء الأكبر في هذه المواجهة، وتلقي الضربات الغربية. لكن العالم أصبح بالفعل أكثر حرية، وتنوعًا، وتعددًا للأقطاب، وأكثر سخونة. لقد تحدى السعوديون الأمريكيين علانية، ولا يندمون على ذلك بشكلٍ خاص، يشعر عرب الخليج العربي بثقة أكبر. أما حقيقة أن الأفارقة أصبحوا أكثر نشاطًا، ويتحدون علنًا مستعمريهم السابقين من الأوروبيين، فهي جزء من عملية ضخمة جارية. نحن في حالة أقوى من الزلازل العالمية، وهو أمر غير مريح، ولكن بعد الزلزال، تظهر قارات وبلدان وظواهر جديدة، ترتفع الجبال، وتتشكل الخوانق النهرية. هذه هي الطريقة التي يتم بها إنشاء العالم الجديد.
في عام 2021، كتبت في مقالتك أن حربًا باردة جديدة تتكشف، ولروسيا فرصة للخروج منتصرة منها. كتبت: “للقيام بذلك، من الضروري اتخاذ القرار الصحيح فيما يخص سياساتنا الخارجية، وأهم من ذلك عدم التورط في حرب كبيرة محفوفة بالتصعيد إلى صراع نووي قد يقضي على البشرية”. الآن، في عام 2023، ونحن في ظل المواجهة الساخنة من الصراع في أوكرانيا، حيث يقاتل الغرب الجماعي بكامله ضد روسيا، هل ما زلت تعتقد أن لدينا فرصة للفوز؟ ولماذا برأيك، تحولت الحرب الباردة بالفعل إلى حرب ساخنة؟
لقد تحولت الحرب الباردة إلى حرب ساخنة لأننا انتظرنا طويلًا. كان من الضروري الفوز في الفترة من 2018 إلى 2019. في عام 2021، حدث كوفيد-19 بالفعل، الذي حل مؤقتًا محل الحرب. لفترة طويلة، كان من الواضح أن الغرب مستمر في شن حرب باردة ضدنا، في حين بقينا نحن ننتظر، ربما كانت النخبة الروسية ترغب في الاستعداد بشكل أفضل، أو لم يكن لديها فهم لعمق الاختلافات؛ لذا كان هناك أمل في التوصل إلى اتفاق. أراد شخص ما الاحتفاظ برأس ماله أو مناصبه في الغرب. إذا كنا قد تصرفنا في وقت سابق، فربما كان من الممكن تجنب نزاع مسلح (مفتوح وكبير)، لكن ما حدث الآن قد حدث. أعتقد أن هذا النوع من الصراع هو فشل جيلي؛ لأنه كان بإمكاننا منع حرب مفتوحة في أوروبا، ربما تكون في مرحلتها الأولى فقط. كان من الضروري العمل في وقت مبكر، وبشكل أكثر حسمًا. لقد ظللنا نعيش في منطقة الراحة الخاصة بنا، ونحن نأمل في التوصل إلى اتفاق سلمي، وقد صدقنا هذه الأوهام فترة طويلة.
أما فرصتنا في الفوز فهي رائعة. إضافة إلى ذلك، في رأيي، عززت هذه العملية العسكرية- بقوة- الإمكانات الداخلية لمجتمعنا. لقد أصبحنا أكثر اعتمادًا على الذات، وأكثر تصميمًا، وأكثر سيادة. أما إذا كنا سنستفيد من هذه الفرصة، فهذا يعتمد- إلى حد كبير- على أنفسنا، لكن الفرصة موجودة، ولدينا كل الفرص للفوز، مع أن المعركة ستكون طويلة جدًّا. حتى عندما ننهي المرحلة الحادة من الصراع العسكري في أوكرانيا، ستستمر فترة هذا الزلزال وموجة التحولات المتزايدة عقدًا ونصف العقد؛ لذلك، ربما يكون من السابق لأوانه الحديث عن النصر، ولكن هناك فرصة للفوز على المستوى التشغيلي والتكتيكي، لكن الشيء الأساسي هو كسر إرادة الغرب في المواجهة. هذه مهمة ذات مستوى أعلى، ولن تُحَل إذا لم تبدأ برفع المخاطر بشكل حاد، وتكون مستعدًا لنقل المواجهة إلى مستوى أعلى.
ألا ترى أنه لا يوجد دعم غير مشروط لبلدنا في أي مكان. مَن حلفاؤنا؟ لماذا لا يوجد لدينا حلفاء مثل الغرب الذين يدعمون أوكرانيا علانية؟ على سبيل المثال، لماذا لم تفعل الصين ذلك؟
كما قلت من قبل، نحن كاسحة الجليد للعالم الجديد، وكثير من البلدان تستفيد من حقيقة أننا كسرنا خمسة قرون من جليد الهيمنة الغربية. نحن نكافح ضد حضارة قوية جدًّا، لكنها ضعيفة ومتراجعة. هذه عملية ضخمة ومعقدة. أما أنه ليس لدينا حلفاء، فإننا مدعومون، إن لم يكن في الأمم المتحدة؛ ففي الواقع من غالبية البشرية، (الأغلبية العالمية) معنا، وهذا واضح تمامًا. والشيء الآخر هو أن قسمًا كبيرًا من النخبة العالمية لا يزال موجهًا نحو الغرب، وبعض اهتماماته في الغرب، حين اتخذنا قرار المواجهة فإن هذا لا يعني أن الغرب قد انتهى، أو سينتهي في المستقبل المنظور. ما يمكن قوله هو الحمد لله! لقد أخذ العالم غير الغربي ما في وسعه من الغرب وأوروبا، ولم يعد لديهم شيء يضيفونه إليهم سوى المشكلات، والأفكار الغريبة المدمرة الناتجة عن الأيديولوجيات الجديدة النشطة في الغرب.
كذلك علينا أن نفهم أننا ضيّقنا من خلال هذه المواجهة مجال المناورة بشكل حاد. عندما كان لدينا على الأقل نوع من العلاقة مع الغرب، بطبيعة الحال كان لدينا موقف أقوى. على سبيل المثال، في العلاقات مع الصين. أما الآن، فبالطبع تبدو بكين أقوى بكثير مما كانت عليه قبل ثلاث سنوات، عندما كنا لا نزال أقوى من حيث القوة المشتركة، لكن يجب أن نفهم أن روسيا لن تعتمد أبدًا على الصين، كما حدث سابقًا واعتمدنا تقريبًا في كل شيء على الغرب؛ لسبب واحد بسيط (لأن لدينا ثقافة مختلفة ومغايرة تمامًا). بالإضافة إلى ذلك، في الكود الجيني لشعبنا، هناك استعداد مطلق للقتال من أجل السيادة، ويعرف الأصدقاء الصينيون ذلك، ويحترمونه.
ألا تعتقد أن بكين تحل مشكلاتها الآن على حسابنا؟
نحن أيضا نحل مشكلاتنا على حساب الصينيين. بالمناسبة، نحن أيضًا نختبئ وراء ظهرها الاقتصادي القوي. هل يمكنك أن تتخيل ماذا سيحدث إذا دخلنا في مواجهة، ولم تقف الصين وراءنا؟ وكذلك ستكون الصين أضعف نوعيًّا إذا لم تقف روسيا خلفها.
أما لمن، وكيف، ومَن يستخدم الآخر؟ فهذه مسألة سياسة ودبلوماسية عملية، ما دمنا نستخدم بعضنا بعضًا. هناك شيء آخر؛ هو أنه فيما يمكن وصفه بـ “زواجنا” بالصين، كما أعتقد قبل ثلاث سنوات، كان لروسيا مواقف أقوى من الصين؛ لأن جمهورية الصين الشعبية دخلت بالفعل في مواجهة صعبة مع الولايات المتحدة، وكانت روسيا درعًا لها. الآن أدخلنا أنفسنا في مواجهة؛ لذلك، وبطبيعة الحال، نحن أكثر اعتمادًا على الصين في مواجهة الموارد العسكرية والسياسية للغرب، في حين تستخدم الصين هذه المواجهة لتجديد قوتها للمعركة الحاسمة.
في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، كتبت: “نحن نعيش في فترة خطيرة، على شفا حرب عالمية ثالثة كاملة يمكن أن تنهي وجود البشرية”. لكن إذا انتصرت روسيا، وهو أمر مرجح جدًّا، ولم يتصاعد الصراع إلى حرب نووية كاملة، فيجب أن ننظر إلى العقود القادمة، ليس على أنها أوقات فوضى خطيرة (كما يتحدث عنها معظم الناس في الغرب). هل تعتقد الشيء نفس الآن؟ هل ما زالت الحرب العالمية الثالثة تهددنا؟ ماذا عن الحرب النووية؟
لا يزال التهديد موجودًا، وسيستمر فترة طويلة جدًّا؛ لأنه كما قلت، هناك زلزال واسع النطاق، وقارة ضخمة من الحضارة الغربية تنهار. هذه صدمة غير مسبوقة في السرعة، وهذه الحضارة هي إحدى ركائز النظام العالمي الحالي؛ لذا هذه فترة خطيرة جدًّا. المصدر الرئيس للخطر، بالطبع ليس الغرب نفسه، ولا أريد أن أردد صدى أولئك الذين يلومونه باستمرار على كل شيء، ولكن الوضع في الغرب، هناك أزمة عميقة متعددة الأوجه (أخلاقية، واقتصادية، وسياسية). النخب تفقد سلطتها، وهذا وضع مؤلم- إلى حدٍ ما- حيث راهنت تلك النخب على تفاقم العلاقات، في محاولة يائسة لوقف التاريخ، ولو تطلب الأمر الدخول في الحرب؛ لذلك، فإن مرحلة التغيير الشاملة بعيدة المنال. إذا سارت الأمور على هذا النحو، فأنا لا أستبعد أنه بعد عدة جولات من المفاوضات، من الممكن التوصل إلى هدنة، لكن مع ذلك، فمن المرجح أن تصل الأمور إلى مستويات أعلى من المواجهة. المهمة الرئيسة هي إجبار الغرب على التراجع، وأخذ مكان أكثر تواضعًا في النظام العالمي.
لقد تحدثت عن هدنة. مزيد من الناس يريدون المشاركة في التسوية السلمية للنزاع الأوكراني. ما رأيك؟ هل ستضطر روسيا وأوكرانيا إلى السلام؟ وتحت أي ظروف يكون هذا ممكنًا؟
هناك حرب جارية تسمى “عملية عسكرية خاصة”. أعتقد أن نتيجتها في النهاية أمر مفروغ منه بانتصار روسي، لكن تكلفة هذه النتيجة يمكن أن تكون مرتفعة جدًّا، وفي فترة طويلة جدًّا. في هذا الصراع بين روسيا والغرب في أوكرانيا ستجرى المفاوضات، وسوف يتظاهرون بأنها جارية، ومن المحتمل جدًّا حدوث تفاقم. أخشى أن يُنقَل الأمر إلى مستوى أعلى من المواجهة، لكن يبدو لي أن الحل الوحيد الممكن للمشكلة التي نواجهها هو تصفية أوكرانيا بوصفها كيانًا مناهضًا لروسيا، وتغيير إرادة الغرب في المواجهة. هذه عملية معقدة جدًّا. المفاوضات ممكنة، وبالطبع نود أن ترفع أوكرانيا العلم الأبيض، وتصبح دولة محبة للسلام، وصديقة لروسيا. مع أنني أشك في ذلك بشدة، فقط بالنظر إلى أن هذا كيان دولة فاشل بالفعل، في وضع بائس يشبه جمهورية فايمار الألمانية التي وُلدت من رحمها جمهورية هتلر.
ما الذي يجب أن تفعله روسيا إذا عُرضت عليها خطة تسوية وُضعَت في تحالف بين الولايات المتحدة والصين؟ بشكل عام، كيف تقيمون فرص هذا الموقف؟
أولًا، وبشكل عام، مثل أي شخص عادي، لا أريد الحرب؛ لأن الحرب، حتى إن كانت عادلة وحتمية، كما في حالتنا، فإنها تجلب الحزن، والدمار، والموت. ثانيًا: إذا كان من الممكن الاتفاق على شيء ما، فلنحاول القيام بذلك، وتقليل مستوى المواجهة، وخاصة مستوى المعاناة الإنسانية، لكنني أكرر، لا يمكن حل المشكلة بين روسيا والغرب إلا بطريقتين؛ الأولى: القضاء على أوكرانيا بوصفها دولة معادية لروسيا. يمكن لأوكرانيا أو جزء منها أن تظل كيانًا صديقًا لروسيا. الثانية: كسر إرادة الغرب للمقاومة اليائسة التي بدأها في السنوات الأخيرة، إدراكًا منه أنه يفقد مكانته التي امتدت إلى خمسمئة عام من الهيمنة على العالم، مما أتاح له فرصة الهيمنة السياسية والثقافية والاقتصادية، وربما كانت الشيء الرئيس الذي منحه الفرصة لضخ الناتج القومي الإجمالي العالمي لصالحه. لقد انتهت هذه الفترة، وهذه النهاية تحدث أمام أعيننا. بالطبع، لا يزال التفاوت كبيرًا وقويًّا جدًّا، لكن تدفقات الثروة العالمية بدأت بالابتعاد عن الغرب، وهذا يثير حفيظة طبقته الحاكمة.
لماذا تعتقد أن روسيا لم تتفق مع الصين بشأن خطتها للتسوية بعد زيارة شي جين بينغ لموسكو في فبراير (شباط) 2023؟ هل روسيا لم تقبل الخطة التي اقترحتها الصين؟
نحن بحاجة إلى قراءة هذه الخطة. إنها إيجابية، لكنْ لم يكن هناك شيء ملموس فيها. إنها من أجل كل شيء جيد ضد كل شيء سيئ. لا أعرف ما الذي اتفق عليه فلاديمير بوتين وشي جين بينغ، خلال المحادثات المغلقة الخاصة بينهما، لكنني أعتقد أنهما اتفقا على شيء ما، والآن هناك لعبة طويلة، بما في ذلك الدبلوماسية، وأعتقد أنه سيكون هناك كثير من التقلبات والمنعطفات المثيرة للاهتمام. بطبيعة الحال، فإن زيارة الممثل الخاص للصين، صديقنا الرائع، السفير لي هوي، إلى كييف أو موسكو، تجذب الانتباه، لكننا بحاجة إلى النظر إلى عمليات سياسية، ودبلوماسية، وفكرية، واقتصادية أعمق بكثير.
بشكل عام، ما توقعاتك لتطور الصراع الأوكراني؟ يقول الأمريكيون إنه بحلول نهاية الخريف، يجب أن يصبح كل شيء واضحًا، ويتقرر بطريقةٍ ما. انضم هنري كيسنجر إلى تلك التوقعات. ونحن بدورنا لا نتقدم وكأننا ننتظر الهجوم المضاد الأوكراني كما يقولون. بشكل عام، الجميع ينتظر. ما نتيجة كل هذه التوقعات؟ هل يُجمَّد الصراع وتُقسَّم أوكرانيا على غرار النسخة الكورية، أم سنقاتل حتى النصر؟ وما شكل الانتصار الذي ينبغي أن يكون في هذه الحالة؟ كيف سيبدو؟
أكّن لهنري كيسنجر احترامًا كبيرًا، وأراه الأول في مهنتنا، لكنني مستاء جدًّا لأنه يحاول إثارة الضجة. لا يعرف ما الذي يتحدث عنه، وأنا لا أعرف ما الذي سيحدث حقًا. أعلم أنه إذا أظهرنا الإرادة للفوز والقتال فسنحقق النصر، سوف تتوقف أوكرانيا عن الوجود كدولة معادية لروسيا، وسوف يتراجع الغرب. وعلى طول الطريق، سيكون هناك صراع طويل وصعب جدًّا من خلال نضال آخر من نوع خاص؛ من أجل أن تصبح بلادنا مختلفة، أقوى، وأكثر عدلًا، وأكثر احترامًا للذات في العالم، وتصبح بلدًا يتحكم- بدرجة أكبر- في ثروته الخاصة. بالطبع، نحتاج إلى بلد فيه نخبة متجددة مع تقنيات محدثة، بلد سيتحول مركزه الاقتصادي والسياسي والفكري إلى جبال الأورال وسيبيريا. يجب أن ننتقل إلى الشرق عقليًّا، واقتصاديًّا، وسياسيًّا؛ لأننا ما زلنا عالقين في الغرب، وهذه إحدى نقاط ضعفنا الأساسية، وأسباب متاعبنا على مدى الأربعين أو الخمسين سنة الماضية. نحن بحاجة إلى التحرك نحو آفاق جديدة، نحو الأغلبية العالمية، والابتعاد عن الغرب الذي يسحبنا إلى الوراء. الصراع الأوكراني، من وجهة نظري، خطير أيضًا إلى حد كبير؛ لأننا سنعلق في اتجاه غربي لا معنى له، في محاولة للتفاوض حيث لا يوجد أحد للتفاوض معه. وأعتقد أنه، على الأقل في العقد القادم، لن يكون هناك شيء نتفق عليه، مع أنه يمكننا التظاهر بأننا نتفق. ونحن، بصفتنا نظيرًا للغرب، نبدو الآن أكثر استقرارًا وقوة مما كنا عليه قبل عامين أو ثلاثة أعوام.
إنك تقول إن أمامنا صراعًا طويلًا وشاقًا، لكن هل لدينا القوة الكافية لذلك؟ الاقتصادية بالدرجة الأولى؟ يقول كل من الرئيس ورجال الأعمال إنه لا يوجد الآن عدد كافٍ من العمال في كل مكان، في ظل تراجع عدد السكان.
هذه مشكلة لكل عمل، وكل مؤسسة. من الضروري البحث عن أشخاص أقوياء وجدد، وتدريبهم. نحن بحاجة إلى إعادة تدريب الناس، وفك قيودهم. الآن هناك عملية الخلق، وحقيقة أن الناس يشتكون… حسنًا من الصعب العيش في عصر التغيير، ولكن الآن، حتى في الأعمال التجارية، هناك عصر واعد كثيرًا؛ نظرًا إلى ظهور فرص جديدة ضخمة، خاصة للشركات المتوسطة والصغيرة. إذا كنتُ شابًا؛ لبدأتُ بالتأكيد العمل الآن. كان عليَّ أن أفعل ذلك في التسعينيات من أجل إنقاذ مؤسساتي التي أنشأتها وترأستها. لم أفعل هذا منذ فترة طويلة، لكني أرى أن هناك عددًا كبيرًا من الفرص في هذا المجال الآن. هناك مجالات جديدة، وآفاق جديدة تنفتح، وأنا أحسد الشباب الذين سيدخلون مجال الأعمال الآن.
هناك كثير من الحديث عن نزع العولمة، وبناء عالم جديد، هل سيكون ثنائي القطب (الولايات المتحدة والصين)، أم متعدد الأقطاب؟ وإذا كان الأخير، فما أقطاب القوة الجديدة؟ هل تمتلك روسيا الإمكانات (غير العسكرية) لهذا؟
حتى 20 سنة مضت، اعتقد معظم الناس أن العالم يتجه نحو شيء عالمي. الغرب، وكثيرون في بلادنا، كانوا يحلمون بحكومة عالمية، ونظام عالمي للسلطة، قائم على الشركات عبر الوطنية، والمنظمات غير الحكومية الدولية. حتى الآن، هناك شيء ما يدور حول هذا في دافوس، لكنه أشبه بالأوبرا الهزلية.
العالم يتجه نحو سيادة جديدة، سيكون عالمًا يضم عددًا كبيرًا من الدول. العالم يتحرك بسرعة كبيرة جدًّا. العالم الآن أكثر حرية مما كان عليه سابقًا، وأكثر حيوية، مع كثير من الاحتمالات. لن يكون هناك عالم ثنائي القطب. يمكن أن يطلق عليه متعدد الأقطاب، لكن يمكنني تسميته متعدد الألوان والأبعاد. بشكل عام، أنا أحب العالم الذي سنأتي إليه إذا تجنبنا صراعًا نوويًّا عالميًّا، لا يزال- مع الأسف- يبدو ممكنًا جدًّا. ربما، لسوء الحظ، لن أعيش لأرى هذا العالم، لكنني أحب هذه الصورة حقًّا. أنا أحسد من هم صغار الآن، الذين ولدوا للتو؛ سوف يعيشون في عالم ممتع جدًّا، لكنَّ هناك كثيرًا من الأخطار التي يجب التغلب عليها؛ أحدها هو فقدان القيم الإنسانية، وهو ما نراه الآن على نطاق عريض في الغرب. الشيء الرئيس هو أننا نظل بشرًا.
هذا هو المكان الذي تكون فيه مسألة العدالة مهمة وأساسية جدًّا. يقول الغرب إن روسيا انتهكت جميع قواعد القانون الدولي، ليس فقط بارتكاب عدوان على دولة عضو في الأمم المتحدة، وهو ما اعترفت روسيا نفسها به؛ ولكن أيضًا جميع المبادئ الأخلاقية للعدالة والمجتمع البشري، حيث تدمر المدن، وتجلب المعاناة للناس. الآن تُصوَّر روسيا على أنها تجسيد للظلم، في حين أننا نقول: “لا، يا رفاق، لقد كنتم أنتم من أقام نظامًا فاشيًا كارهًا للبشر في أوكرانيا، التي تتعرض للتدمير وجميع أنواع التمييز”؛ أي إن كلا الجانبين يستخدم العبارات نفسها بتفسيرات مختلفة. هل تعتقد أن العالم الجديد سيكون أكثر عدلًا؟ وما المقصود بكلمة “عدالة”؟
ينبغي فهم العدالة قبل كل شيء على أنها حرية اختيار الشعوب، وحرية الاختيار الثقافي والاقتصادي والسياسي. بالطبع، العدالة هي توزيع أكثر عدلًا لثروة العالم. الرأسمالية الحالية قبيحة، بما في ذلك رأسماليتنا، مع أنني أتمنى أن تصبح أقل بشاعة نتيجة هذا الصراع. هناك إعادة توزيع للثروة داخل الدولة على الأشخاص الأكثر استحقاقًا لها (كالعلماء، والعسكريين، والمهندسين، والعائلات التي لديها أطفال)، وستستمر هذه العملية.
فيما يتعلق بهذا الصراع، نحن نتخلص من نير الغرب. لقد قمع الغرب العالم كله. سرق، وقتل، ودمر. يمكن للمرء أن يتحدث ساعات عن الفظائع التي اتسمت بها السنوات الخمسمئة الأخيرة من الهيمنة الغربية. أخيرًا، جاءت حربان عالميتان من هناك. اسمحوا لي أن أذكركم بأن النازية، وهي أيديولوجيا مبنية على كراهية البشر، ولدت في الغرب، ويعاد الآن بعثها من جديد هناك، كما ولدت الشيوعية هناك أيضًا. أنا لا أساويها بالنازية؛ لأنها- ظاهريًّا- أيديولوجيا أكثر إنسانية. بالإضافة إلى ذلك، تم التبشير بالشيوعية من جانب الاتحاد السوفيتي الذي انتصر، في حين خسرت النازية. الليبرالية هي شيء مشابه لهذين “المذهبين”، وآمل أن تتلاشى الآن أيضًا في الظل العميق للتاريخ. الآن، الدول التي تُبشر بها، أو تنحني لها، تتجه بسرعة نحو الشمولية، والفاشية، وتقضي على الثقافة. إن رهاب روسيا أفضل من معاداة السامية؛ لأن روسيا لديها من يدافع عنها، ولم يكن لدى اليهود مثل هذه الفرصة.
إذا تم التوقيع على نوع من السلام الآن، ألن يكون مشابهًا لسلام فرساي، الذي لم يمنح الناس الهدوء والتطور المستقر الذي طال انتظاره، ولكنه أدى فقط إلى حرب كبيرة جديدة؟
لهذا السبب أقول إن هذا السلام يجب أن يتحقق في نهاية المطاف على وجه التحديد في الظروف التي تحدثت عنها، أي كسر إرادة الغرب في التوسع والمواجهة. ثانيًا، أن تصبح أوكرانيا منزوعة السلاح تمامًا، أي تصبح مختلفة تمامًا عمَّا هي عليه الآن، وليست معادية لروسيا؛ عندئذ سيكون العالم عادلًا بما فيه الكفاية. لقد قدمنا كثيرًا من المقترحات لهذا العالم سنوات كثيرة، لكن طلباتنا ومقترحاتنا ومطالبنا رُفضت. لسوء الحظ، أدت هذه السياسة إلى صدام مفتوح بدأ للتو، لكن العالم يتغير، نحن فقط من يركز على حضارة الغرب الآخذة في الانكماش والانهيار، لكنها لا تزال قوية جدًّا، ومن حولنا نشأت حضارة جديدة تزدهر في الشرق؛ فلننظر هناك.
ألا يبدو أنه في النهاية ستتوصل الولايات المتحدة إلى اتفاق مع الصين لتقسيم العالم إلى قطبين، وفرض الشروط على الجميع؟ في الوقت نفسه، ستقل الهيمنة الأمريكية، لكن نفوذ الشريك الشرقي سيتسع. في هذه الحالة، مع مَن سنكون؟ مع الغرب، أم مع الشرق؟ هل سيناسبنا هذا الوضع، أن سنكون- مرة أخرى- هامشًا لأحد مراكز القوة؟
سنكون معًا. لحسن الحظ، لم يعد هذا السؤال الذي تطرحه يستحق كل هذا العناء. في وقت سابق، في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، كان هناك خيار أن نذهب مع الغرب، لكن الغرب نفسه هو من رفض هذا العرض، وقوض مستقبله جذريًّا. أُغلِقَت نافذة هذه الفرصة الآن. روسيا لن تصبح أبدًا تابعًا لأي بلد. ثانيًا: كل الناس الذين يقولون مثل هذا الكلام لا يرون إلى أين يتجه العالم. هناك قارات جديدة، وحضارات ومراكز آخذة في الارتفاع. كيف يمكن للصين أن تهيمن على هذا العالم الناشئ إذا كان بجانبها الهند العظيمة، وروسيا العظمى، وبلاد فارس العظيمة، وتركيا العظيمة، وأخيرًا العرب الأقوياء؟ هذا الوضع مستحيل! ربما ستلتف بعض أجزاء أوروبا حول الولايات المتحدة الأمريكية، مع أنني متأكد من أنه بعد 10 سنوات ستذهب أجزاء من أوروبا المنهارة أيضًا إلى الشرق. هذا واضح بالفعل في مثال المجر، في مثال كثير من الاتجاهات السياسية والاقتصادية في أوروبا. هذه ليست سوى البداية؛ لذلك، من الممكن أن تبقى الولايات المتحدة مع مجموعة من توابعها وبقية العالم الشاسع، حيث لن تكون هناك قوة مهيمنة. لا يمكن للصين أن تكون القوة المهيمنة في هذا العالم.
إنك تقرأ الصحف الشرقية لتعرف رؤيتهم للعالم الحالي ومستقبله، كيف يرون ذلك؟
الهند، على سبيل المثال- رغم وجود كثير من الهنود المؤيدين للغرب، والمعادين للصين- لديها نظرة واقعية جدًّا، ومثيرة للاهتمام تجاه العالم الحديث. في روسيا، لا يزال المثقفون لدينا يعانون عيبًا فسيولوجيًّا واحدًا (نحن ننظر إلى العالم بأعين غربية)، مع أننا نذهب إلى عالم مختلف تمامًا.
إذا كان بإمكانك تصور رؤيتهم، فما هي؟ ماذا يرون في المستقبل؟
هناك كثير من مراكز القوة، واختيار أكثر حرية للشعوب، والتخلص من النير الغربي الذي أثقل كاهلهم خمسة قرون، وطريق مستقل للتنمية، مع أن هذه الدول لديها أيضًا نخب مختلفة. هناك نخب كومبرادورية، وهناك صراع مستمر، لكن في هذه البلدان، في البلدان العربية، وفي تركيا والهند، تختلف الآراء اختلافًا جذريًّا عن تلك التي عبّرت عنها غالبية المثقفين الروس، على الأقل حتى وقت قريب. أكرر، هذه العادة في النظر إلى العالم من خلال عيون الغرب، تبدو لي علامة على الفقر الفكري في روسيا.
إنك تقول إننا لن نصبح أبدًا بلدًا تابعًا. ولكن ماذا يمكننا أن نقدم للعالم؟ ما طريقتنا الخاصة؟
بادئ ذي بدء، يجب أن نفكر فيما يمكننا أن نقدمه لأنفسنا، ثم فيما نقدمه لبقية العالم. أعتقد أن هذا هو طريق السيادة لروسيا، طريق الحرية الوطنية، الطريق إلى العدالة. عالم روسيا هو عالم من الناس العاديين الذين يحبون بلادهم، وعائلاتهم، وتاريخهم، والأشخاص من حولهم، مؤمنين بالله أو غير مؤمنين، لكنهم مؤمنون بمصير الإنسان. تمتلك روسيا أغنى ثقافة، وقوات مسلحة قوية. روسيا بلد محارب أزال من تحت الغرب أسس هيمنته في السياسة، والاقتصاد، والشؤون العسكرية، والثقافة. سنواصل دعم حرية الاختيار هذه للبلدان والشعوب. نحن دولة تحرر الشعوب والبلدان.
ما أيديولوجيتنا؟ هل يمكن وصفها؟
لقد وصفت لك- تقريبًا- أيديولوجيتنا الجديدة. إنها واضحة تمامًا، الأيديولوجيا مطلوبة. أولئك الذين يقاومونها هم إما حمقى وإما يخفون شيئًا ما. هناك شيء آخر؛ هو أننا لسنا بحاجة إلى أيديولوجيا واحدة. يجب أن تولد الأيديولوجيا من رحم الخلافات والصراعات، لكن أيديولوجية الوطنية، والعظمة الوطنية، والتعددية الثقافية، والانفتاح الثقافي هي أعظم إنجاز لروسيا. من الواضح أننا بحاجة إلى هذه الأيديولوجيا، وهي موجودة من حيث المبدأ، يمكن قراءتها في خطابات الرئيس، وفي أعمال كثير من المثقفين. حتى الآن، لأسباب غير واضحة تمامًا لي، هم غير مستعدين لصياغتها بالتفصيل، والترويج لها، على الرغم من ظهور كثير من عناصرها بالفعل. على سبيل المثال، وفقًا لعقيدة السياسة الخارجية لروسيا، لا يعجبني في المستوى المتوسط أننا نديرها بواسطة التقنيين السياسيين، أو الماديين المبتذلين، نحن بحاجة إلى أشخاص يتمتعون بالروح والعمل، ويتطلعون إلى المستقبل.
هل تعتقد أنه من الممكن الآن تطوير مناقشة بشأن هذه الأيديولوجيا الجديدة داخل الاتحاد الروسي المتعدد الأعراق، مع سكان تتارستان، والقوقاز، والأورال، وموسكو؟ بعبارة أخرى، ما الشيء الذي يوحدنا في روسيا؟ ما القيم المشتركة؟ أي مستقبل يمكن أن نتفق عليه؟ ألسنا بحاجة إلى صياغة كل هذه الأفكار لتوجيهها إلى الرأي العام؟
بطبيعة الحال، يجب القيام بذلك. أنا منزعج من أن جزءًا كبيرًا من قيادتنا ينكر ذلك ويعارضه. إن الافتراضات الأساسية لهذه الأيديولوجيا واضحة تمامًا؛ وهي حرية الشعوب، والانفتاح الثقافي، واحترام السيادة، والتاريخ، والأسلاف، وإقامة نظام عالمي عادل، والاعتماد على القوة العادلة، وبالطبع حب الوطن الأم والجار. هذا هو أساس الأرثوذكسية والديانات الأخرى. هذا هو أساس الإنسان.
هذا يعني أنه يجب القيام بشيء من أجل خلق الإجماع في المجتمع، بحيث يتفق الناس على شيء ما فكريًّا وروحيًّا.
يجب القيام بذلك باستمرار، ولكن من أجل ذلك، في ظل ظروف نظامنا السياسي، هناك حاجة إلى إشارة منهجية من الأعلى. لسوء الحظ، لم تحدث بعد.