تعمل روسيا على زيادة الجهود الدبلوماسية لإحياء علاقاتها في آسيا في ظل تراجع صلاتها مع الغرب، والتوترات المتزايدة مع الولايات المتحدة، خاصةً أن الأخيرة تعمل على تكثيف وجودها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ بتحالفات مع كل من الهند، وأستراليا، واليابان، بالإضافة إلى أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وانهيار الحكومة، وتسلم طالبان الحكم أدى إلى احتمالات تصاعد موجات العنف في الإقليم؛ ما دفع موسكو إلى التفكير في تعزيز علاقاتها مع باكستان، مع أن العلاقة بين البلدين شهدت تاريخًا من انعدام الثقة.
خلال الحرب الباردة، كانت باكستان حليفًا للغرب ضد السوفيت، وعضوًا في الأحلاف الأمريكية التي تشكلت في تلك الفترة، بداية من حلف جنوب وشرق آسيا (عُرف بـحلف مانيلا) عام 1954؛ ما دفع موسكو إلى استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لعرقلة القرارات الحاسمة لصالح إسلام أباد بشأن كشمير، ودعم الهند؛ ما أثار غضب باكستان، وألقى بظلاله التاريخية على علاقات البلدين. ومنذ الحرب السوفيتية على أفغانستان (1979)، عانت كل من موسكو وإسلام أباد أزمة اقتصادية، وتداعيات دبلوماسية أبقت على العلاقات الثنائية متوترة بسبب سعي باكستان المستمر إلى تحقيق الأهداف الإستراتيجية للولايات المتحدة، واستمرار العلاقات القوية بين روسيا والهند.
الآن، يتغير المشهد الروسي- الباكستاني، على الرغم من حفاظ روسيا تاريخيًّا على علاقاتها مع الهند، وذلك منذ أن وقعت الدولتان على معاهدة السلام والصداقة والتعاون عام 1971، لكن في ظل العلاقات الإستراتيجية بين الولايات المتحدة والهند، بدأت روسيا تفقد تدريجيًّا صفقات مربحة للشركات الأمريكية، لتصبح الولايات المتحدة أكبر شريك دفاعي للهند من حيث مبيعات الأسلحة. وبينما استعادت روسيا عام 2015 لقبها كأكبر مصدر أسلحة إلى الهند بعدة صفقات، بقيت تداعيات العلاقات الإستراتيجية بين نيوديلهي وواشنطن ملحوظة على موسكو. وفي السياق نفسه، وبالرغم من التحالف التاريخي بين الولايات المتحدة وباكستان، ودورهما المتناغم حتى وقت قريب في أفغانستان، فإن واشنطن في ظل قربها من نيوديلهي، العدو التاريخي لإسلام أباد، زادت من حدة نقدها للأخيرة، وبلغت حد اتهام الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب القادة الباكستانيين بالكذب والخداع، وهذه العوامل دفعت موسكو وإسلام أباد إلى تقارب سريع.
لذا يمكن فهم التعاون الروسي- الباكستاني المتزايد بتتبع مسارين:
يُعطي الحاضر فرصة لإعادة ضبط العلاقات الثنائية بين روسيا وباكستان، فالأخيرة تُعاني في علاقتها أيضًا مع القوى الأطلسية؛ حيث تتأزم علاقة إسلام أباد مع واشنطن التي تزيد من علاقتها الإستراتيجية مع الهند، وفي ظل العقوبات الغربية على روسيا عام 2014 بسبب ضم شبه جزيرة القرم، زار وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو باكستان، وكانت هي الزيارة الأولى التي يقوم بها وزير دفاع روسي لباكستان منذ 45 عامًا، ونتج عنها إبرام اتفاقية تعاون دفاعي مع باكستان. وتنص الاتفاقية الروسية الباكستانية على تبادل المعلومات بشأن القضايا العسكرية، والتعاون من أجل تعزيز الأمن الدولي، ومكافحة الإرهاب، وأنشطة الحد من التسليح، وتعزيز التعاون في مختلف المجالات العسكرية، بما في ذلك التعليم والطب العسكريان، وتبادل الخبرات في عمليات حفظ السلام.
عام 2015، طلبت إسلام أباد شراء طائرات روسية، ووافقت موسكو، وتم بيع مروحيات هجومية بتكلفة (153) مليون دولار، لتعلن باكستان أنها تُخطط لشراء عشرين طائرة هجومية روسية مستقبلًا. بالإضافة إلى ذلك، عززت كل من موسكو وإسلام أباد العلاقات العسكرية، وأُجري أول تمرين عسكري مشترك أطلق عليه اسم (الصداقة) بين الجيشين عام 2016، واشتركت القوات الروسية في مناورات بحرية دولية مع باكستان عام 2017.
توترت العلاقات الباكستانية- الأمريكية خلال فترة حُكم الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، بين عامي 2017 و2021، وأُقصِيَ العسكريون الباكستانيون من برنامج التعليم العسكري الأمريكي؛ ما دفع إسلام أباد إلى توقيع اتفاقية تدريب أمني مع موسكو لتدريب ضباطها في المؤسسات العسكرية الروسية لأول مرة في تاريخ البلدين. وشهد عام 2018 تشكيل لجنة عسكرية مشتركة بين البلدين بعدما زار الجنرال الباكستاني قمر جاويد باجوا موسكو، ليتبعها تكثيف في الاتصالات الدبلوماسية تتوجها زيارة لوزير الخارجية الروسي سيرجي لاڨروف إلى إسلام أباد عام 2021، ليلتقي نظيره الباكستاني شاه محمود قريشي، وهي الزيارة الأولى لمسؤول روسي رفيع المستوى منذ ما يقرب من عقد من الزمان.
تستمر روسيا في دفع علاقاتها مع باكستان، حيث تعتمد على ورقة الطاقة لتقوية علاقتها مع إسلام أباد، وفي الوقت نفسه تكسر حلقة العقوبات الغربية عليها بسبب ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، التي عطلت إتمام مشروع اتفاقية خط أنابيب غاز عام 2015 في أثناء حكومة نواز شريف (رئيس الوزراء آنذاك)، لكن رغبة الحكومة الباكستانية برئاسة عمران خان في توسيع البنية التحتية للغاز الطبيعي وتجديدها؛ لتلبية متطلبات الطاقة المستقبلية، تسهل مهمة موسكو الآن، حيث شهد يوليو (تموز) 2021 توقيع وفد روسي اتفاقًا مع إسلام أباد للبدء في مشروع خط أنابيب غاز باكستريم، المعروف سابقًا باسم مشروع خط أنابيب الغاز بين الشمال والجنوب، بقيمة (2.5) مليار دولار، وسيكون خط الأنابيب أول استثمار روسي مباشر في باكستان منذ زيارة الزعيم الباكستاني ذو الفقار علي بوتو (1928- 1979) إلى موسكو عام 1972 لتطبيع العلاقات، وبناء السوفيت مصنعًا للحديد والصُلب في كراتشي، وكان هذا أكبر مشروع صناعي في باكستان آنذاك. وسيعمل خط الأنابيب البالغ طوله (1100) كيلومتر على مضاعفة قدرة باكستان الحالية على نقل (1.2) مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المستورد يوميًّا من محطات الغاز الطبيعي المُسال من ميناء كراتشي جنوبًا إلى البنجاب شمالًا. ومن المتوقع أن ينتهي المشروع بحلول عام 2023.
الرغبة المشتركة في ضبط سلوك طالبان أفغانستان، واحتواء تبعات الانسحاب الأمريكي من البلاد، تجمع موسكو وإسلام أباد؛ حيث خدم كل من الطرفين الآخر؛ فقد دافعت باكستان عن دور روسي في المحاورات مع طالبان حتى قبل انهيار السلطات داخل أفغانستان، ورفضت موسكو الجهود الأمريكية لاحتواء النفوذ الباكستاني في أفغانستان من خلال تكثيف التواصل الدبلوماسي مع إسلام أباد.
تتفق روسيا وباكستان بشأن أن النفوذ الجيوسياسي لبلديهما يتحقق من خلال التواصل مع حركة طالبان كحقيقة قائمة، حيث تخشى إسلام أباد من سيطرة هندية على أفغانستان تمثل تهديدًا أمنيًّا محتملًا، وهذا تقل احتمالاته مع حكومة إسلامية قد ترفض التعامل مع القوميين الهندوس في الهند. فيما تخشى موسكو من فوضى وانعدام أمن إقليمي في آسيا الوسطى نتيجة فشل حُكم طالبان؛ مما يهدد الأمن القومي الروسي، فالحركة بتاريخها الإسلاموي العسكري يمكنها إخضاع كثير من التيارات الإرهابية أو الإسلاموية الخطرة للسيطرة، فيما يبقى تهديد وحيد يشكله تنظيم الدولة الإسلامية (داعش ولاية خراسان)؛ مما يسهل حصر العدو في هدف واحد وواضح يتم التعامل معه داخليًّا في أفغانستان، دون أن ينتقل خطره إلى باقي بلدان الإقليم.
وفي سيناريو أكثر قتامة للوضع في أفغانستان، أعلنت المؤسسة العسكرية في إسلام أباد أنها ستدعم أي عملية مكافحة إرهاب بقيادة روسيا في حال تفاقمت الأوضاع الأفغانية، حيث يرفض القادة الباكستانيون أن يتم إقصاؤهم في مسارات العلاقات الأمريكية- الأفغانية مستقبلًا، وأعطى الكرملين مصداقية للموقف الباكستاني من خلال وصفه باكستان بأنها شريك بناء في مكافحة الإرهاب، وقد قام وفد عسكري روسي برفقة كبار ضباط الجيش الباكستاني بزيارة تاريخية إلى المناطق الحدودية الباكستانية الأفغانية عام 2017، ومن الوارد أن تتجدد تلك الزيارات، ومن المرجح أن تكون هذه العوامل هي سبب إعلان الولايات المتحدة، بعد الانسحاب، انخراطها في محاورات مع باكستان لاستخدام أجوائها لشن عمليات عسكرية في عمق الأراضي الأفغانية إذا لزم الأمر.
على الرغم من اختلاف الرؤى الروسية والباكستانية في أفغانستان بين الدبلوماسية، والخيارات العسكرية، والمصالح الجيوسياسية، فإن دعم إسلام أباد الصريح- بشكل متزايد- للمشاركة الروسية الموسعة في أفغانستان يمكن أن يؤثر- تأثيرًا كبيرًا- في المسار السياسي لأفغانستان على المدى الطويل؛ حيث ستنافس باكستان الهيمنة الأمريكية في صنع القرار الأفغاني، ولن تشعر حركة طالبان بأنها وحيدة رغم العزلة الدولية التي قد تكون مؤقتة، قبل أن تبدأ إسلام أباد بإعلان قنوات تواصل (مفتوحة بالفعل) بين القوى الإقليمية الكبرى، وعلى رأسها روسيا والصين.
بالرغم من دقة ملاحظة أن الهند هي- ببساطة- سوق أكبر من باكستان بالنسبة إلى موسكو، وليس من المنطقي التضحية بها، لكن بالنسبة إلى روسيا، فإن فوائد العلاقة مع باكستان تستحق المخاطرة؛ لأنها يمكن أن تستفيد من نفوذها للوصول إلى شواطئ المحيط الهندي. وفي الواقع، حتى ميناء جوادر الباكستاني، الذي يوصف كثيرًا بأنه ميناء صيني، يمكن أن يستضيف منشأة تسييل للغاز الطبيعي، ومن خلالها يمكن تصدير غاز أرخص من الغاز القطري المُنافس لمحطات الهند؛ وبهذا تكون موسكو قد فازت بقطاع جديد في السوق الهندية لا تنافسه فيه المبيعات الأمريكية، لا سيما أن نيوديلهي فضلت مؤخرًا شراء التكنولوجيا العسكرية الأمريكية كُلما تمكنت من هذا. بالإضافة إلى أن تثبيت قدم موسكو في باكستان سيجعل لها إمكانية للتفاوض كشريك أو مُعطل للمشروع الأمريكي لإنشاء خطوط أنابيب لعبور الطاقة من آسيا الوسطى إلى الهند، مثل خط أنابيب غاز تركمانستان، وأفغانستان، وباكستان، والهند، وأعربت روسيا- بعض الوقت- عن اهتمامها بالانضمام إلى المشروع، وقدمت أيضًا مشروعًا بديلًا لخط أنابيب غاز بين إيران وباكستان والهند، وهذا يرفضه الأمريكيون.
بالنسبة إلى باكستان، فإن تعزيز العلاقات مع موسكو يساعد على تخفيف ضغط واشنطن عليها، لا سيما في مجال التسليح، فالآن روسيا مستعدة لتزويد إسلام أباد بمعدات تكتيكية، خاصة أسلحة مثل طائرات الهليكوبتر الهجومية، حيث تمتلك الهند مشروعاتها المحلية، أو قد تشتري من أمريكا، بالإضافة إلى الرغبة السياسية الباكستانية لدعم القطاعات الأساسية المتعثرة للاقتصاد التي تحتاج بوضوح إلى رأس مال أجنبي موثوق. وفي الآونة الأخيرة، عندما كانت باكستان تواجه عجزًا في لقاح كوفيد- 19 (COVID-19) بسبب توقف الهند عن صادرات أكسفورد- أسترازينيكا، لم تجد إلا موسكو لإنقاذها وإرسال (50000) جرعة من لقاح “سبوتنيك في” (Sputnik V).
وتحاول باكستان أن تُبقى نفسها في موقف سياسي يسمح لها باستغلال موقعها الجغرافي القادر على أن يوفر لها إمدادات نفطية مستقرة، ويحقق الرؤية الروسية لدمج الاتحاد الاقتصادي الأوراسي في مبادرة الحزام والطريق الصينية، وفي هذا الجانب، فإن الجهود الروسية تقدم لباكستان فرصة كبيرة لجذب مزيد من الاستثمارات؛ ولهذا ترى إسلام أباد المخاطرة بتقليل مساحة علاقتها مع واشنطن، وليس خسارة أو قطيعة لصالح موسكو قد تستحق التفكير فيها.
أخيرًا، في ظل التغير الجيوسياسي الكبير في آسيا، تجد روسيا فرصًا جديدة لتقريب حلفاء واشنطن من مدارها، فكما تمر العلاقات الروسية- الهندية بلحظة جمود على خلفية تحالفات الأخيرة مع القوى الأطلسية، فإن موسكو تفتح أبوابها لإسلام أباد لضبط موازين القوى، وترحب إسلام أباد- بدورها- بهذه العلاقات؛ حتى لا تفقد أهميتها الإستراتيجية في معادلات الاستقرار في القارة، حيث تدرك روسيا أهمية باكستان في أي تسوية للأزمات الإقليمية، مثل حماية حدود بلدان آسيا الوسطى، والأزمة الأفغانية، وتدرك إسلام أباد أن موسكو حليف لا غنى عنه في اللعبة الكبرى الجديدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الباحث ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير