تُعاني شبه جزيرة القرم خطر الجفاف؛ نتيجة مجموعة من العوامل الطويلة المدى والمعقدة (البشرية والطبيعية) التي يمكن إرجاعها إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر على الأقل. استمرت المشكلات المحلية المتعلقة بالمياه على الرغم من القدرات التكنولوجية المتغيرة، والأيديولوجيات السياسية للأنظمة المتعاقبة التي فرضت سيطرتها على المنطقة.
منذ ضم/ استعادة شبه جزيرة القرم عام 2014، بدأ كثير من الخبراء الروس والأوكرانيين بمناقشة أن الخنق المائي لشبه جزيرة القرم على يد كييف قد يدفع الروس، أو الموالين لهم في الجمهوريات الشعبية، إلى عمل عسكري ضد أوكرانيا. في السنوات الأخيرة، أدى نقص المياه المزمن، وفشل سلطات القرم في حل مشكلة الفقر المائي المتزايدة، إلى إقناع الخبراء والمتخصصين العسكريين الغربيين والأوكرانيين بأن خطر الحرب لأجل الماء في شبه جزيرة القرم أمر حقيقي.
أبدت موسكو قبل الحرب إشارات فعلية إلى عزمها حل مشكلة الخنق المائي من كييف عسكريًّا، وعام 2020، خلال إحدى المناورات العسكرية الضخمة “الأخوة السلافية”، نفذت مجموعات تكتيكية من المظليين الروس، وبدعم جوي، عملية محاكاة استهدفت الأنظمة الهيدروليكية التي تسيطر عليها كييف.
عام 2020، بدأ كل من المسؤولين الروس وسلطات القرم باتهام أوكرانيا بالتسبب في كارثة إنسانية ومحاولة “إبادة جماعية” لسكان القرم المدنيين؛ لذلك نشرت روسيا عشرات الآلاف من القوات والأسلحة المتطورة في شبه جزيرة القرم وبالقرب من الحدود مع المناطق الانفصالية خلال عام 2021، وكان الاتحاد الروسي يفكر في شن هجوم على أوكرانيا لتأمين إمدادات المياه لشبه الجزيرة. بالإضافة إلى ذلك، زعمت التقارير الإخبارية أن القوات الروسية المنتشرة بالقرب من الحدود الأوكرانية لديها جميع الوسائل الإستراتيجية التي ستكون مطلوبة لعمل عسكري ضد كييف. ويمكن اعتبار أن هطول الأمطار الغزيرة في شبه جزيرة القرم أواخر عام 2021، وملء بعض الأنهار الجافة والبحيرات والخزانات، أدى إلى التخفيف مؤقتًا من الكوارث المرتبطة بالجفاف. كما أجّل انطلاق الحرب عامًا كاملًا.
تُعاني شبه جزيرة القرم فقرًا مائيًا بسبب مناخها الجاف. وكانت ندرة الموارد المائية في شبه الجزيرة عاملًا أساسيًّا في التأثير في الأوضاع الجيواقتصادية والعسكرية والسياسية في معظم تاريخها. عام 1687- على سبيل المثال- كان نقص المياه عائقًا كبيرًا أمام تقدم الجيش الروسي القيصري الذي كان يحاول فرض سيطرته على شبه جزيرة القرم، والحصول على موطئ قدم على طول ساحل البحر الأسود، وأدرك القادة المحليون للقرم أن معركة مفتوحة مع أعداد كبيرة من القوات الروسية لن تكون حكيمة؛ ولذلك لجأوا إلى تكتيكات الأرض المحروقة، وتبين أن هذه الإستراتيجية كانت رابحة. وعلى الرغم من الإمدادات الغذائية الكافية، توقف تقدم روسيا القيصرية بسبب نقص المياه- في المقام الأول- وأُجبِرَ جيشها على التراجع.
تعود مخاوف روسيا بشأن الوصول إلى المياه في شبه جزيرة القرم ومحاولاتها الأولى لحل المشكلة إلى القرن الثامن عشر (الضم الأول، عندما رسم الجغرافيون الروس خرائط أولية لسهوب القرم في البحر الأسود، مع إيلاء اهتمام خاص لتحديد خريطة هيدروغرافية للمنطقة). عام 1846، اقترح عالم النبات الروسي كريستيان فون ستيفن بناء قناة تربط بين نهر دنيبر وشبه جزيرة القرم، لكن التكاليف المقدرة لهذا المشروع أفشلت مساعي السلطات القيصرية. حتى عام 1917، أثيرت قضية ري سهول القرم مرارًا وتكرارًا في مجلس الدوما، وأشركت الإمبراطورية الروسية أفضل خبرائها لمحاولة حل مشكلة المياه، ولكن لم يتحقق سوى قليل من النجاح العملي، ولكن باندلاع الحرب العالمية الأولى، إلى جانب ثورة 1917 التي أعقبت الحرب، أحبطت خطط ري شبه جزيرة القرم، ولم يتم تنفيذ أي مشروع.
بعد دخول الشيوعية، أطلق الزعيم السوفيتي الأول فلاديمير لينين برنامجًا خاصًا يهدف إلى ري الأراضي الجافة في جمهورية روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفيتية. عام 1924، بدأ البناء في خزان ألمينسكي بسعة تزيد على ستة ملايين متر مكعب من المياه. وبعد الحرب الوطنية العظمى (1941- 1945) عادت قضية توفير مزيد من المياه لشبه جزيرة القرم إلى الواجهة، حيث اقترحت السلطات السوفيتية ثلاثة خيارات مختلفة:
عام 1950، تبنى مجلس وزراء الاتحاد السوفيتي قرارًا بشأن إنشاء محطة كاخوفكا الكهرومائية، وقنوات جنوب أوكرانيا وشمال القرم لري مناطق جنوب أوكرانيا، وشمال شبه جزيرة القرم. وبدء العمل فعليًّا عام 1961، عندما أعلنت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الأوكراني ومجلس الوزراء في جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفيتية بدء مشروعات البناء الكبرى. وبفضل هذه الجهود، بدأت المياه بالتدفق عبر قناة شمال القرم، بُنيَت لتصل المياه إلى شمال شبه الجزيرة عام 1963. بعد ذلك، عام 1971، تدفقت المياه على طول الطريق إلى شبه جزيرة كيرتش، أقصى نقطة في شرق شبه جزيرة القرم.
على الرغم من هذه المشروعات الضخمة للبنية التحتية، لم يتم القضاء تمامًا على الفقر المائي، وأدى تكرار حالات الجفاف الشديدة خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، خاصة بين عامي 1982 و1984، إلى تدمير الزراعة المحلية. عام 1990، كُلفت السلطات السوفيتية بالبدء بالمرحلة الثانية لبناء قنوات توصيل للمياه، إلى جانب إنشاء خزان (Mezhgornoye)، وهو أكبر خزان للمياه الاصطناعية في شبه جزيرة القرم حتى يومنا هذا، لكن ما سبق فشل في حل مشكلة المياه؛ نتيجة الأخطاء الهندسية، وبلغ الفاقد من المياه، في أثناء النقل عبر القناة، نسبة مذهلة بلغت (40%)، ورافق هذا ارتفاع في منسوب المياه الجوفية؛ مما تسبب في تملح التربة. بشكل عام، تجاهلت السلطات السوفيتية في كثير من الأحيان المبادئ العلمية، وأجرت أعمال بناء منخفضة الجودة جدًّا.
بعد عام 1991، واستقلال أوكرانيا، لم يتم تنفيذ أي عمليات بناء كبيرة عمليًّا حتى أواخر التسعينيات، حيث تم الانتهاء من المرحلة الثالثة من بناء قناة مائية عام 1997. وبحلول ذلك العام، بلغ الطول الإجمالي للقنوات وخطوط أنابيب الري في شبه جزيرة القرم (11000) كيلومتر. وتم تجميد مزيد من الأعمال (المرحلة الرابعة) بسبب نقص التمويل، في حين لم تُطلَق المرحلتان الخامسة والسادسة، وكانتا حاسمتين لحل مشكلات إمدادات المياه المزمنة.
على الرغم من أوجه القصور السابقة، فإن التركة السوفيتية من قنوات الري خفّفت مشكلة نقص إمدادات المياه. واستُخدِمَ ما يصل إلى (80%) من المياه المرسلة إلى شبه الجزيرة من البر الرئيسي لأوكرانيا للزراعة وتربية الأسماك. وأهم من ذلك، كان التدفق المائي عبر قنوات القرم المائية موسميًّا، وليس على مدار العام. وعادة ما يحدث تدفق المياه بين نهاية شهري مارس (آذار) ونوفمبر (تشرين الثاني). واستمر هذا حتى عام 2014، حيث زودت قناة شمال القرم شبه الجزيرة بـ (80% إلى 87%) من إجمالي استهلاكها من المياه.
أوقفت أوكرانيا إمدادات المياه لشبه جزيرة القرم بعد ضم/ استعادة روسيا لشبه الجزيرة. حيث شيّدت السلطات الأوكرانية في الفترة بين عامي 2014 و2017 عدة سدود على طول القنوات الناقلة للمياه، وهو ما يقيد تدفق المياه إلى القرم إلى الآن. ومنذ عام 2014، اعتمدت إمدادات المياه في شبه جزيرة القرم بالكامل على الاحتياطيات الداخلية فقط، ولكنها غير كافية؛ مما تسبب في مواجهة شبه جزيرة القرم واحدة من أكثر حالات نقص المياه حدة منذ 50 عامًا. أهم من ذلك، نظرًا إلى أن معظم المياه من قنوات النقل كانت تُستخدَم لتلبية الاحتياجات المتعلقة بالزراعة، عانى هذا القطاع أكثر من غيره.
وللتخفيف- بطريقة ما- من هذا الفقر المائي؛ بدأ المزارعون بالتحول إلى المحاصيل المقاومة للجفاف (توقفوا عن زراعة الأرز)، مع الاعتماد أيضًا على ما يسمى أنظمة “الري بالتنقيط”. في الوقت نفسه، تسببت ندرة المياه في انخفاض كبير في المياه المحولة للري، من (700) مليون متر مكعب عام 2013 إلى (17.7) مليون متر مكعب عام 2015، وتسبب ذلك في آثار جانبية أخرى، أبرزها التضاؤل السريع للأراضي المروية، التي تقلصت من (140) ألف هكتار إلى (13400) هكتار فقط.
أصبح الوضع المائي شديد الخطورة؛ ما دفع السلطات الروسية إلى البدء ببناء نظام معقد لشبكات إمدادات المياه، وهو مشروع من المتوقع أن يكلف أكثر من 20 مليار روبل (نحو 276 مليون دولار)، لكن سرعان ما تفاقمت الأزمة لتؤثر في إمدادات مياه الشرب النظيفة. عام 2017، أثارت جلسة مجلس الأمن الروسي في القرم هذه القضية، حيث انخفض استهلاك المياه الصالحة للشرب في شبه الجزيرة بمقدار خمس مرات في الفترة بين عامي 2014 و2016.
عام 2020، أصبح الوضع حرجًا بسبب مجموعة من العوامل، مثل الخريف الجاف بشكل غير طبيعي، وقلة هطول الأمطار خلال عدة فصول شتاء متتالية؛ ما دفع السلطات المحلية إلى تقنين المياه في شبه جزيرة القرم، حيث تحول مصدر إستراتيجي للمياه مثل بحر سيمفيروبول، الذي كان في يوم من الأيام أحد أكبر خزانات المياه الاصطناعية في شبه جزيرة القرم، إلى بركة جافة. ومُلِئت بقية الخزانات الرئيسية في سيمفيروبول على سبيل المثال بنسبة (14%) فقط من أحجامها المصممة. ويعتقد الخبراء أنه خلال الثلاثين عامًا المقبلة لن تبقى بحيرة مياه عذبة واحدة في شبه جزيرة القرم.
عادةً ما تمتلئ خزانات القرم بالمياه في نهاية فصل الشتاء، لكن عام 2020 كان استثنائيًّا، حيث أفادت وزارة الإسكان والخدمات المجتمعية في القرم أنه مع مطلع عام 2021 استنفدت احتياطيات خزاني المياه في سيمفيروبول وزاغورسك تمامًا، وكان خزان بالانوفسكوي يقترب من النفاد. كما أن التجديد الطبيعي للمياه المحلية من خلال ذوبان الثلوج والأمطار لم يحدث أيضًا.
ساعدت الأمطار الغزيرة في أواخر عام 2021 على حل بعض المشكلات المحلية، وأدت إلى ملء الخزانات على طول الساحل الجنوبي بما يكفي لمدة عام، في حين حصلت يالطا وسيفاستوبول على ما يعادل عامًا نموذجيًّا من المياه. ولكن الفيضانات أضرت أيضًا بالبنية التحتية، وأضعفت- بشدة- جودة المياه التي تصل إلى المستهلكين.
تنبع الصعوبات التي تواجه شبه جزيرة القرم في توفير المياه الكافية والنظيفة من مجموعة من العوامل المتعددة. يمكن تقسيمها على النحو التالي:
عندما أوقفت أوكرانيا التدفق الجنوبي للمياه كان سكان القرم واثقين بقدرة روسيا على إيجاد حل عملي على وجه السرعة. في البداية، كانت سلطات القرم الموالية لروسيا تأمل في التوصل إلى نوع من الاتفاق مع الحكومة الأوكرانية، ولكن عندما لم يتم التوصل إلى اتفاق، بدأت موسكو بالبحث عن خيارات أخرى، على الرغم من استمرارها- أحيانًا- في توسيع نطاق المبادرات إلى كييف، على النحو التالي:
أخيرًا، تحاول موسكو حل مشكلة المياه في شبه جزيرة القرم، إلا أن الأمر لن يتم بسهولة في المدى القريب. كما أن أحدث توقعات خبراء وعلماء المناخ المحليين الروس تُشير إلى أن من شبه المؤكد أن تبدأ شبه الجزيرة عام 2022 بمواجهة موجات جفاف شديدة من جديد؛ مما يعني أن هناك حاجة إلى مزيد من المياه. ما يعني أيضًا أن الوضع الراهن يتسبب في استمرار معاناة السكان المدنيين في شبه جزيرة القرم، وتضرر قطاع الزراعة، لكن على الأرجح، ستحافظ السلطات الروسية على مسارها الحالي؛ حيث تجمع بين عدة مناهج للتعامل مع نقص المياه المحلي. وحتى اللحظة الحالية، لا توجد مؤشرات تُذكر على أن روسيا قد وجدت حلًا طويل الأجل ومقبولًا اقتصاديًّا لأزمة نقص المياه المتفاقمة.
ما ورد في التقرير يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير