تسببت الحرب بين روسيا وأوكرانيا في زيادة حادة في الأسعار العالمية للطاقة والقمح، دفعت أسعار النفط الخام فوق (100) دولار للبرميل، وسيكون لهذا تأثير إنساني مدمر في الدول الهشة بالفعل في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث تجد الدول الإقليمية التي كانت تكافح بالفعل من الناحية الاقتصادية نفسها أضعف وأكثر عرضة للضغوط الخارجية. وهذه الديناميكيات خطيرة بشكل خاص في منطقة يكون ارتفاع أسعار الخبز في كثير من الأحيان مؤشرًا على الاضطرابات السياسية.
زادت الضغوط على منظمة البلدان المُنتجة للبترول (أوبك) لزيادة الإنتاج للحد من اضطراب الأسواق العالمية. وكان رئيس الوزراء البريطاني أشبه بمبعوث غربي في زيارة إلى الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، بعد أن تجنب قادة الخليج طلبات الرئيس الأمريكي جو بايدن لمناقشة سياسة الطاقة.
ترى حكومة المملكة المتحدة أن رحلة الشرق الأوسط كانت جزءًا من جهد أوسع لتقليل اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية، وإلحاق الضرر بالرئيس فلاديمير بوتين، في إطار مُخطط بريطانيا للتخلص التدريجي من واردات النفط الروسية بحلول نهاية العام، لكن الصراع المسلح في أوكرانيا وضع الحكومات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مأزق إستراتيجي. لقد وسعوا جميعًا علاقاتهم مع موسكو خلال العقد الماضي؛ نتيجة عودة روسيا إلى المنطقة كقوة خارجية رئيسية (عبر تدخلها العسكري في سوريا)، وكذلك للتكيف مع الواقع الجيوسياسي لعالم متعدد الأقطاب بشكل متزايد، حيث لم تعد الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون مستعدين لضمان الأمن الإقليمي.
يفسر هذا- جزئيًّا- سبب بطء معظم دول الشرق الأوسط في صياغة مواقفها تجاه روسيا وحربها، حيث جاء الرد الفوري الوحيد على الحرب من الكويت، التي أدانت تصرفات روسيا ونظام الأسد في سوريا، الذي قدم دعمه لموسكو من خلال الاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين لوغانسك ودونيتسك. وقد قدم تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة في (2) مارس مزيدًا من الوضوح عن كيفية استجابة دول المنطقة، فقد وافقت جميع الدول العربية تقريبًا- جنبًا إلى جنب مع إسرائيل وتركيا- على القرار الذي يشجب “العدوان الروسي على أوكرانيا”، وامتنع عن التصويت الجزائر، والعراق، وإيران، والسودان فقط.
التقى جونسون الشيخ محمد بن زايد، ولي عهد أبو ظبي، في إطار رحلته لتشجيع منتجي الخام على زيادة الإمدادات. ولم تصدر الإمارات أي بيان رسمي، في حين ذكرت وكالة الأنباء الحكومية (وام) أن الزيارة ناقشت استقرار أسواق الطاقة العالمية.
ولم تنحَز الإمارات العربية المتحدة بشكل كبير إلى أوكرانيا، مع أنها الدولة الشرق أوسطية الوحيدة التي تشغل حاليًا مقعدًا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وتسبب امتناعها عن التصويت على قرار في 26 فبراير (شباط) يطالب بوقف فوري للهجوم الروسي على أوكرانيا، في قلق في واشنطن، ولندن، وباريس، وكثير من العواصم الغربية الأخرى. وكان أحد التفسيرات لقرار أبو ظبي هو أنها أرادت الاحتفاظ بعلاقة طيبة مع موسكو لتمرير القرار الذي تبناه المجلس بعد يومين، والذي وصف فيه الحوثيون في اليمن- الذين أطلقوا مؤخرًا صواريخ باليستية وطائرات بدون طيار على الإمارات- صراحةً بأنهم “جماعة إرهابية”. ومثل كثير من جيرانها، ترى الإمارات الحرب في أوكرانيا صراعًا أوروبيًّا، فيما يشكل الحوثيون المدعومون من إيران تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي. ومع ذلك، ومن أجل تصنيف الحوثيين رسميًّا منظمة إرهابية، تحتاج الإمارات العربية المتحدة إلى دعم واشنطن والعواصم الغربية الأخرى. وسيتطلب ذلك بعض الدبلوماسية المرنة من الإمارات العربية المتحدة في سعيها إلى تسوية الأمر مع كل من الغرب وروسيا على السواء.
إجمالًا، اتخذت دولة الإمارات العربية المتحدة المتحمسة لتعزيز علاقاتها مع البيت الأبيض موقفًا أكثر لينًا إلى حد ما. ودعا سفيرها في واشنطن يوسف العتيبة منظمة أوبك وشركاءها إلى زيادة الإنتاج بشكل أكبر. ومع ذلك، قلل وزير الطاقة الإماراتي سهيل المزروعي- على الفور- من أهمية الدعوة.
أدت العلاقات المتوترة بين السعودية والولايات المتحدة إلى تعقيد جهود واشنطن لحشد منتجي النفط العرب في الخليج لدعم حملة عزل موسكو، وتهدئة أسواق النفط، حيث يريد السعوديون الحفاظ على شراكتهم السياسية مع موسكو، التي تقود معها بشكل مشترك “أوبك +”، وترى “أوبك+” أن مع عدم وجود اضطراب في إنتاج الخام الروسي ستظل الأسواق العالمية مزودة بالنفط بشكل كافٍ.
وقد صرح رئيس الوزراء البريطاني في مقطع تليفزيوني بعد اجتماعه مع ولي العهد السعودي: “هناك بالتأكيد فهم بأن هناك مصلحة للسعودية بألا يتضرر الاقتصاد العالمي من الارتفاعات الحالية”، ولكن بيان الحكومة السعودية عن اللقاء لم يُشر إلى إنتاج النفط.
بالنسبة إلى السعودية، من المحتمل أن يكون أي قرار بزيادة إنتاج النفط خاضعًا لعدم رغبتها في زعزعة العلاقات مع موسكو، والرغبة في إرسال إشارة إلى واشنطن بأنها لن تفعل ما يطلبه الغرب. وتأتي هذه الرسالة إلى واشنطن وحلفائها في وقت تشعر فيه كثير من الدول الإقليمية أن شركاءها الغربيين لم يأخذوا مخاوفها الأمنية على محمل الجد. ومع ذلك، فإن المصلحة الذاتية الاقتصادية تؤدي دورًا أيضًا؛ فارتفاع أسعار النفط نعمة لاقتصاد المملكة العربية السعودية وباقي المنتجين، فهناك حاجة إلى زيادة الإيرادات لتمويل برامج التنويع الاقتصادي، وسد الثغرات في الميزانية التي سببها وباء كورونا. وبعد سنوات من التوقعات القاتمة بأن أسعار النفط قد لا ترتفع مرة أخرى إلى ما فوق (50-60) دولارًا، من الصعب رفض المكاسب الاقتصادية المفاجئة التي قدمتها هذه الأزمة الأخيرة.
يمكن أن يشهد الموقف السعودي تغيرًا إذا ما قدمت واشنطن اتفاقية أمنية جديدة وشاملة من شأنها أن تهدئ مخاوف السعوديين بشأن إيران. وقد حافظ جونسون على علاقات مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أفضل من الرئيس الأمريكي جو بايدن.
يواجه منتجو الغاز في الشرق الأوسط أسئلة أكثر إلحاحًا عن كيفية زيادة إمداداتهم. حتى قبل هجوم روسيا على أوكرانيا، كان الطلب يفوق العرض في أسواق الغاز الدولية؛ مما أدى إلى ارتفاع الأسعار، ولكن الآن، تُشكل حاجة أوروبا الماسة إلى تحويل وارداتها بعيدًا عن روسيا ضرورة لهذه المناقشات. هنا، يمكن القول إن المشكلة- والحل النهائي- أقل تعلقًا بالسياسة، وأكثر تعلقًا بالقدرة.
كانت إمارة قطر، وهي ثاني أكبر منتج للغاز الطبيعي المسال في العالم، المحور الرئيسي- حتى الآن- للجهود المبذولة لإيجاد إمدادات طاقة بديلة. ومنذ أواخر يناير (كانون الثاني)، تضغط واشنطن على الدوحة لإعادة توجيه صادرات الغاز إلى أوروبا. ومع ذلك، فإن الإنتاج القطري يقترب من طاقته القصوى، كما أنه يرتبط بعقود مع العملاء الرئيسيين في آسيا. وإذا فشلت الولايات المتحدة في إقناع شركائها الآسيويين بالاستغناء عن بعض شحناتهم لتسليمها إلى أوروبا، فستكون إمدادات الغاز الجديدة محدودة، وسيتم تسليمها بأسعار السوق الفورية، التي هي بالفعل في أعلى مستويات لها على الإطلاق.
تمثل شمال إفريقيا حلًا محتملًا آخر لمشكلات الطاقة في أوروبا، لكن هذا سيأتي مع تعقيدات كبيرة ليس أقلها الطريقة التي يمكن أن تهدد بها سياسات شمال إفريقيا الفوضوية استقرار الإمدادات، حيث أدت التوترات المتصاعدة بين الجزائر والمغرب إلى توقف صادرات الطاقة عبر خط الأنابيب الذي يربط بين الجزائر وإسبانيا. فالعداء الطويل الأمد بين الجزائر العاصمة والرباط لا يوفر سوى قليل من الأمل في التوصل إلى حل سريع، مع أن الأزمة الأوكرانية قد تدفع إلى بذل جهود أوروبية أقوى للتوسط في النزاع. ومع ذلك، لا يزال بإمكان الجزائر توفير إمدادات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا، أو تصدير مزيد من الغاز شرقًا عبر خط أنابيب إلى إيطاليا.
وفي الوقت نفسه، فإن عدم الاستقرار السياسي في ليبيا، والتهديد المستمر بالصراع، يجعلاها شريكًا غير مضمون للطاقة، ولا سيما بالنظر إلى قدرتها الإنتاجية المحدودة، فقد يدعم الأوروبيون من يرون أنه قادر على توفير استقرار قصير المدى في غرب ليبيا، حيث موقع خط أنابيب الغاز الرئيسي. لكن هذا لن يكون حلًا دائمًا؛ لذا يُثير التدهور السريع في العلاقات بين روسيا والغرب تساؤلات عن كثير من الصراعات الجارية في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فموسكو يمكنها استخدام نفوذها العسكري في المنطقة، بما في ذلك قواتها النظامية في سوريا، والشركات العسكرية الروسية الخاصة، مثل مجموعة فاغنر في ليبيا؛ للضغط على المصالح الغربية.
التوتر بين روسيا والغرب الروسية يمكن أن يؤثر سلبًا في الأمن والاستقرار الإقليميين بطرائق أخرى أيضًا؛ فقد أجلت موسكو مفاوضات إحياء الاتفاق النووي الإيراني، وذلك عندما كان الاتفاق وشيكًا؛ لتطالب بضمانات بأن العقوبات الغربية على روسيا لن تمنعها من التجارة مع إيران فور إبرام صفقة جديدة، وهو أمر يصعب على واشنطن والعواصم الأوروبية منحه، لتبقى المسألة خاضعة إلى ما إذا كان يمكن لروسيا بالفعل إفشال الاتفاق؛ ومن ثم المخاطرة بمزيد من التصعيد لبرنامج إيران النووي، وربما اندلاع صراع إقليمي أوسع كاختبار لمدى استعداد موسكو للذهاب في تأجيج عدم الاستقرار في المنطقة.
كما سيؤثر الغزو الروسي بالفعل في اقتصادات كثير من دول الشرق الأوسط، حيث تعد روسيا وأوكرانيا من بين أكبر منتجي القمح في العالم، ومنطقة الشرق الأوسط على قمة المستهلكين. وتعاني بلدان مثل اليمن، وسوريا، ولبنان، بالفعل انعدامًا في الأمن الغذائي، وتقول منظمة الأغذية والزراعة (فاو) إن الجوع سيضرب 55 مليون شخص في جميع أنحاء المنطقة. على سبيل المثال: مصر، هي أكبر مستورد للقمح في العالم. وبين عامي 2020 و2021 حصلت على 85٪ من وارداتها من القمح من روسيا وأوكرانيا. ويمكن أن يكون لارتفاع الأسعار، أو اضطرابات سلاسل التوريد، أثر مدمر في كثير من البلدان، سواء على مستويات المعيشة، أو على مستوى الاستقرار السياسي؛ فغالبًا ما كان القلق الشعبي من ارتفاع أسعار الخبز حافزًا رئيسيًّا للاحتجاجات والاضطرابات الشعبية في جميع أنحاء المنطقة.
أخيرًا، من وجهة نظر موسكو، عدم استقرار الشرق الأوسط مشكلة أكبر لأوروبا مما هي لروسيا، مع استثناء جزئي لسوريا، حيث أصبحت القواعد العسكرية التي تحتفظ بها روسيا في سوريا أكثر أهمية لموسكو من الناحية الإستراتيجية بعد قرار تركيا تقييد وصول السفن الحربية الروسية إلى مضيق البوسفور والدردنيل.
ومن ناحية أخرى، فالاستجابة للتطورات في أوكرانيا شكلت تحديًا لكثير من الدول العربية لمحاولتها عدم تقويض علاقتها مع موسكو، خاصةً أن البلدان العربية دائمًا من الدول المؤيدة صراحةً لمبادئ السيادة وعدم التدخل، وهي أعراف اتهمت إيران بتجاوزها خلال العقدين الماضيين، تمامًا كما تفعل روسيا الآن في أوكرانيا. وعندما يتعلق الأمر بالعلاقات العربية مع القوى العالمية، فإنها تخشى أن يتم إجبارها على الانحياز إلى أحد الجانبين (روسيا أو الغرب). صحيح أن كثيرًا من القادة العرب كانوا بارعين في الإبحار في تنافس القوى العظمى خلال الحرب الباردة، على الرغم من كونها سياسة صعبة، إلا أن فقدان العلاقات مع روسيا قد لا تكون له عواقب وخيمة على المدى القصير. ومع ذلك، تمامًا مثل صانعي السياسة الغربيين الذين يخشون أن تحذو الصين حذو روسيا وتهاجم تايوان، تخشى الدول العربية أنها قد تواجه يومًا ما اختيارًا صعبًا بين: الولايات المتحدة (أهم شريك أمني لها) والصين (الشريك التجاري الأكبر للمنطقة)؛ لذلك، تدرك الدول في جميع أنحاء المنطقة تمامًا أن إيجاد طريقة للموازنة بين القوى العالمية مهما كانت غير مريحة، هو أمر يجب أن تعتاده.
كما يمكن للصراع الروسي الأوكراني أن يوفر لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نفوذًا جديدًا مهمًّا على الولايات المتحدة وأوروبا؛ فمن المرجح أن تسعى كل من المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وقطر إلى استخدام سياسة الطاقة لتقوية مواقفهم، وقد يكون تصنيف الولايات المتحدة لقطر حليفًا رئيسيًّا من خارج الناتو، مطلع عام 2022، تأكيدًا لهذا الاتجاه.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير