في مواجهة الغزو الروسي الوحشي لأوكرانيا، يدفع كثير من الأمريكيين والأوروبيين حكوماتهم إلى تقديم أكبر قدر ممكن من الدعم العسكري إلى كييف. إحدى الأفكار التي روج لها عدد من المراقبين والمعلقين البارزين هي إنشاء منطقة حظر طيران؛ أي استخدام القوة (أو التهديد باستخدام القوة) لإبقاء الطائرات الروسية خارج المجال الجوي فوق أوكرانيا؛ من أجل منع الغارات الجوية الروسية على القوات العسكرية الأوكرانية والمدنيين في المنطقة. يحتاج إنشاء هذه المنطقة المفترضة إلى مزيج من جمع المعلومات الاستخبارية اليومية، والمتابعة من على الأرض، والقيام بدوريات جوية بأعداد كبيرة من الطائرات والطيارين، وأهم من ذلك، التهديد بمنع الطائرات المعادية باستخدام القوة حال دخول المجال الجوي المحدد.
مقترحات منطقة حظر الطيران مستوحاة من التطبيق السابق من جانب الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في العراق بعد حرب الخليج، وفي البوسنة منتصف التسعينيات، وفي ليبيا خلال الحرب الأهلية عام 2011، ولكن تجدر الإشارة إلى أن هذه الحالات لم تكن كذلك تنطوي على فرض منطقة حظر على قوة عظمى؛ بدلًا من ذلك، كانت هناك قوة عظمى، وهي الولايات المتحدة، التي تملي شروطها على الخصوم المحليين الضعفاء الذين ليسوا في وضع يسمح لهم بمعارضتها أو تحديها. لا توجد أمثلة على شيء يسمى “منطقة حظر طيران” يتم فرضه على قوة عظمى خارج سياق المعارك من أجل التفوق الجوي في الحروب النظامية.
تعكس فكرة إنشاء منطقة حظر طيران دافعًا إنسانيًّا لتخفيف معاناة الأوكرانيين، و”القيام بشيء ما” في مواجهة العدوان الروسي، لكن القيام بذلك من شأنه أن يخاطر بالوقوع في مأساة أسوأ بكثير. ينطبق هذا حتى على منطقة حظر طيران محدودة، من النوع الذي تم الترويج له في وقت سابق من هذا الأسبوع من جانب أكثر من عشرين من الخبراء والمسؤولين السابقين، وهي فكرة قد تبدو معقولة، ولكنها في الواقع متهورة جدًّا.
تهدف فكرة منطقة الحظر الجوي المحدودة- في المقام الأول- إلى حماية الممرات التي يمكن للمدنيين الهروب من خلالها لكي تكون في مأمن من الضربات الجوية الروسية، لكن في الأسبوعين الأولين من الحرب على الأقل، لم تكن العمليات الجوية الروسية هي المشكلة الرئيسية. تسببت المدفعية والصواريخ التي يتم إطلاقها من الأرض في أضرار أكثر بكثير من القاذفات الروسية، ولن يكون لمنطقة حظر الطيران تأثير يذكر في هذه الهجمات.
وحتى إذا قبل المرء الفرضية القائلة بأن تقييد وصول روسيا إلى المجال الجوي الأوكراني من شأنه أن يحدث فارقًا كبيرًا، فإن المقترحات الخاصة بمنطقة حظر طيران لأوكرانيا لا تزال تعاني خطأين فادحين في تصورات مروجيها: “افتراضهم بأن الروس سيقبلون هكذا وبكل بساطة هذا الحظر، أو يخاطرون بإثارة حرب مباشرة بين الناتو وروسيا”.
من الممكن أن تقبل روسيا التوقف عن أي عمليات في الممرات المخصصة لإجلاء المدنيين، لكن من غير المحتمل أن تقبل بأي شيء آخر قد يبدو وكأنه تراجع أو خشية من حلف الناتو، حيث بادرت موسكو بالحرب تحت دعوى أنها كانت مدفوعة- في المقام الأول- بتهديد من الناتو، وقد أسفرت المرحلة الأولى من الحرب عن نتائج محرجة للجيش الروسي، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
إذا لم يقبل الروس بمنطقة حظر طيران، فسيتعين على الناتو أن يقرر ما إذا كان سيطبقها، مما يعني الاستعداد لإسقاط الطائرات الروسية، وإطلاق الطلقات الأولى في ذلك الوقت. لا ينبغي الخطأ هنا في الحسابات: “سواء كان القتال الجوي لفرض المنطقة سيظل مقصورًا على المجال الجوي الأوكراني أم لا، فسيكون ذلك أشبه ببدء حرب بين الناتو وروسيا”. وحتى الصراع المحدود سيكون تاريخيًّا: “سيكون أول حرب مباشرة بين القوى الكبرى منذ عام 1945”.
بالطبع، تشارك الولايات المتحدة وحلفاؤها بالفعل في القتال ضد القوات الروسية، ولكن بشكل غير مباشر، من خلال توفير الأسلحة والإمدادات لأوكرانيا، ومع ذلك، تظل هذه المشاركة دون عتبة التصعيد التي تم تحديدها ضمنيًّا من خلال التجارب السابقة. على سبيل المثال، زود السوفيت الكوريين الشماليين والصينيين في حربهم ضد الأمريكيين في كوريا في خمسينيات القرن الماضي بالأسلحة، وزودوا الشيوعيين الفيتناميين مرة أخرى ضد الأمريكيين في الستينيات. كما زودت الولايات المتحدة المجاهدين الذين يقاتلون السوفيت في أفغانستان في الثمانينيات. في هذه الحالات، غضب الروس والأمريكيون من الخسائر التي تكبدوها نتيجة هذه المساعدات، لكنهم امتنعوا عن الانتقام بالقوة ضد الموردين؛ خشية أن تتحول الحروب الصغيرة إلى حروب ضخمة. صحيح أن الطيارين الأمريكيين والسوفيت اشتبكوا مباشرة، بعضهم مع بعض، في بعض المعارك الجوية، خلال الحرب الكورية، لكن كلا الجانبين أبقى هذا الأمر سريًّا جدًّا حتى سنوات عديدة، لكبح الضغوط السياسية لتوسيع الحرب. في عالم اليوم من الاتصالات المختلطة تقنيًّا، ووفرة المعلومات الاستخبارية المفتوحة المصدر، لا توجد طريقة يمكن أن تظل فيها المعارك الجوية فوق أوكرانيا سرية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن اندلاع حرب بين القوى العظمى ليس الخطر الوحيد الذي يشكله إعلان منطقة حظر طيران. ضع في حسبانك ما قد يحدث إذا رفض الروس قبول منطقة حظر الطيران، وفي مواجهة تعنت موسكو، تراجع الناتو وقرر عدم فرضها؛ لتجنب حرب أوسع. إن إعلان منطقة حظر طيران سينكشف على أنه خدعة مثيرة للشفقة. على الرغم من المبالغة في أهمية المصداقية في كثير من الأحيان، واستخدامها في كثير من الأحيان ذريعةً للالتزامات العسكرية الخاطئة، فإن الضرر الذي يلحق بمصداقية الناتو في هذه الحالة سيكون جسيمًا. لن تكشف هذه الخطوة عن فراغ المواقف لمساعدة أوكرانيا فحسب؛ بل تبرز أيضًا وتزيد من الشكوك بشأن ما إذا كان التحالف سيفي بوعده التأسيسي بالدفاع الجماعي، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالأعضاء الأضعف والأحدث، مثل دول البلطيق الضعيفة.
الحرب في أوكرانيا هي النتيجة المؤلمة لرد بوتين الفاضح على خطأين من جانب الناتو؛ كان أولهما إعلان الحلف، في عام 2008، أن أوكرانيا وجورجيا ستنضمان إليه يومًا ما (في حالة أوكرانيا، كان من الأفضل أن تتبع مخطط فنلندا، حيث استبدلت حيادها في العلاقات بين موسكو والغرب باستقلال البلاد والديمقراطية الداخلية)، وكان الخطأ الثاني هو عدم تحقيق هذا الوعد بالانضمام إلى الناتو بسرعة؛ ومن ثم إرساء الضمانة الرادعة لحلف الناتو على الفور. بالنظر إلى رؤية بوتين لتوسيع الناتو باعتباره تهديدًا لروسيا، خلقت فترة الغموض هذه حافزًا وفرصة له لشن حرب وقائية.
المأساة الناتجة مفجعة، لكن محاولة التعامل معها عن طريق الدخول المتأخر إلى الحرب بشكل مباشر عبر المصادقة اليائسة على منطقة حظر طيران، دون ضمان أنها لن تؤدي إلى كارثة أكبر، لن تؤدي إلا إلى تفاقم المأساة. يجب أن يساعد الناتو أوكرانيا، لكن يجب أن تظل مساعدته أقل من الحد المقرر للتصعيد. وسيشمل ذلك- بشكل أو بآخر- ما كان الحلف يفعله بالفعل: “حيثما أمكن، تقديم الإغاثة للاجئين المدنيين، والأسلحة والذخيرة والغذاء، والدعم اللوجستي للجيش الأوكراني”.
إن الرغبة في مساعدة أوكرانيا جديرة بالثناء، لكن الشيء الوحيد الأسوأ من مشاهدة الهزيمة البطيئة للبلاد هو الوعد بتدخل عسكري مباشر، ثم الفشل في تحقيقه، أو الأسوأ من ذلك تحويل ما أصبحت الآن- بوضوح- حربًا باردة جديدة إلى حرب ساخنة يمكن أن تؤدي إلى دمار وإصابات في العالم الأوسع، على نطاق من شأنه أن يجعل حتى الدمار الذي خلفته الحرب الحالية في أوكرانيا يبدو غير مهم[1].
ترجمة: وحدة الرصد والترجمة في مركز الدراسات العربية الأوراسية
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير