أعلنت الحكومة الروسية، بعد أن شنت عملية عسكرية ضد أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) 2022، أن من أهداف تلك العملية اجتثاث النازية من هذا البلد. تقدم بهذا المطلب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي قال إن كييف ستخضع لعملية اقتلاع النازية على غرار ألمانيا بعد عام 1945. إن اجتثاث النازية يعد كذلك من بين المطالب التي طرحتها موسكو في محادثات السلام مع حكومة زيلينسكي، التي تجرى في بيلاروس وتركيا[1]. ينكر كل من الحكومة الأوكرانية والحلفاء الغربيين- رسميًّا، وبشكل قاطع- الطبيعة النازية لنظام كييف الحالي، ويلخصون المشكلة في “البروباغندا” الروسية.
علينا أن نلقي نظرة على التاريخ الأوكراني حتى نفهم ما يحدث. قبل عام 1917، كانت الأراضي التي يسكنها الأوكرانيون مملوكة للإمبراطوريتين الروسية والنمساوية المجرية، اللتين انهارتا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وهو ما أدى إلى تشكّل جمهورية أوكرانيا الشعبية التي لم تستمر طويلًا، والتي أصبحت- منذ بداية تأسيسها- غارقة في حرب أهلية، ودخلت في صراع مع الدول المجاورة. أُعلِن تأسيس جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفيتية في الأقاليم الصناعية في شرق البلاد (أراضي جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك حاليًا)، وفي جنوب أوكرانيا، تشكلت جيوش من الحرس الأبيض الروسي المعادي للثورة، وكانت بولندا تتقدم من الغرب، سعيًا إلى الاستيلاء على جميع الأراضي التي يسكنها البولنديون. بحلول عام 1920، دُمِّرت جمهورية أوكرانيا الشعبية، وانتقلت معظم أراضيها إلى سيطرة جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفيتية، التي انضمت عام 1922 إلى الاتحاد السوفيتي، في حين أصبحت أوكرانيا الغربية جزءًا من الدولة البولندية.
بعد الهزيمة، لجأ القوميون الأوكرانيون إما إلى ممارسة نشاطهم في الخفاء، وإما إلى الهجرة. سحقت الشرطة السرية- بوحشية- أنصار الاستقلال على أراضي أوكرانيا السوفيتية، وعانى الشعب الجوع في فترة التنظيم الجماعي، ولكن من ناحية أخرى، أسهمت سلطات الاتحاد السوفيتي في تطوير الثقافة، واللغة، والتعليم، والصناعة الأوكرانية. كان الوضع في البلدان الأخرى، حيث تعيش الأقلية الأوكرانية، أكثر تعقيدًا؛ ففي بولندا، ورومانيا، والمجر، تولى السلطة قوميون متطرفون اتبعوا سياسة القمع والتمييز ضد الأقليات الدينية والعرقية، وهذا بدوره كان يؤدي إلى تطرف الحركة السرية الأوكرانية.
في عام 1929، تشكلت منظمة القوميين الأوكرانيين نتيجة اتحاد كثير من الجماعات القومية. أشار عالم الاجتماع البريطاني مايكل مان إلى أن الفترة بين الحربين العالميتين كانت فترة ازدهرت فيها الحركات القومية والفاشية الراديكالية في أوروبا الشرقية [2]؛ بسبب الفقر والتخلف السائدين في تلك المنطقة، واحتوائها على عدد كبير من الطوائف القومية والدينية، ووجود أمثلة “ناجحة” للحركات الفاشية في إيطاليا وألمانيا، وهي بلدان دائمًا ما كانت نموذجًا بالنسبة إلى سكان أوروبا الشرقية.
ومن المنظمات الشبيهة بمنظمة القوميين الأوكرانيين: حركة أوستاشا الكرواتية، وحزب الصليب السهم المجري، والحرس الحديدي الروماني، وحزب جلينكوف الشعبي السلوفاكي، وغيرها. كتب مان أن هذه المنظمات الفاشية “كانت تميل إلى معارضة الأنظمة اليمينية والمحافظة في دول أوروبا الشرقية، متبنية مواقف أكثر قومية، وكراهية للأجانب، ومعادية للسامية”[3].
تمنى القادة القوميون الأوكرانيون إنشاء إمبراطورية أوكرانية تمتد إلى الحدود الصينية. كتب ميخائيل كولودزينسكي، أحد قادة منظمة القوميين الأوكرانيين، في كتابه “العقيدة العسكرية الأوكرانية”: “في المرحلة الأولى من الثورة- أو بالأحرى الانتفاضة- يجب علينا، بعد تحرير أراضينا، والتوقف عند نهر الفولغا، ثم حشد كل القوات عند خط موغيليف- ساراتوف، ونقل الحرب إلى كازاخستان لمساعدة المستعمرين المحليين، وتهديد المراكز الصناعية الروسية- ماغنيتوغورسك وكوزنيتسك. فور التحرير، لا يمكننا ترك كازاخستان لإرادة الله، أو الروس، إنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتحررنا؛ لذا يجب أن تمر الحدود الشرقية لبلدنا عند جبال ألتاي وتيان شان”. وكان من المقرر إما دفع الأقليات القومية التي تعيش داخل حدود الدولة الجديدة إلى التخلي عن هويتهم القومية، وإما إبادتهم. كتب كولودزينسكي أيضًا: “من المؤكد أن غضب الأوكرانيين تجاه اليهود سيكون فظيعًا. لن نقمع هذا الغضب؛ بل على العكس، سنزيده؛ لأنه كلما زاد عدد اليهود الذين سيموتون في الانتفاضة، كان أفضل للدولة الأوكرانية؛ لأن اليهود سيكونون هم الأقلية الوحيدة التي لن تسري عليها سياسة التخلي عن الهوية القومية الخاصة بنا…”[4].
لا عجب في أن جميع دول أوروبا الشرقية تقريبًا كانت تنظر إلى منظمة القوميين الأوكرانيين في الثلاثينيات من القرن الماضي على أنها مصدر للتهديد. تعرض نشطاء حركة القوميين الأوكرانيين وقادتها للقمع، فكان ردهم على ذلك القيام بأعمال إرهابية. أعدمت السلطات المجرية ميخائيل كولودزينسكي، السالف ذكره، وقتلت المخابرات السوفيتية لاحقًا القادة البارزين الآخرين للحركة الأوكرانية: “ستيبان بانديرا، ويفغيني كونوفاليتس، ورومان شوخيفيتش”. قبيل الحرب العالمية الثانية، أصبحت ألمانيا النازية هي الحليف الرئيسي لمنظمة القوميين الأوكرانيين، وبدأ تدريب المخربين الأوكرانيين، الذين كانوا سيُستَخدَمون في الحرب ضد تشيكوسلوفاكيا، وبولندا، والاتحاد السوفيتي، في القواعد العسكرية الألمانية.
لم يسع الوقت أعضاء منظمة القوميين الأوكرانيين للمشاركة في الحرب على بولندا، لكنهم ساعدوا- بنشاط- القوات الألمانية في هجماتها على الاتحاد السوفيتي في 22 يونيو (حزيران) 1941؛ حيث شاركوا في الحرب كأعضاء في وحدات تخريبية تابعة للرايخ الثالث، وخدموا أيضًا في الشرطة الألمانية، لكن العلاقات بينهم تدهورت فيما بعد، بعد أن اتضح أن هتلر ليست لديه نية لمنح أوكرانيا الاستقلال؛ بل يريد استخدامها كمستعمرة. ألقى الألمان القبض على بعض قادة منظمة القوميين الأوكرانيين وأعدموهم، في حين استمر بعضهم الآخر في التعاون مع النازيين، وظل آخرون على الحياد يعززون قوتهم.
منذ بداية الغزو الألماني، استُخدمَت الوحدات المسلحة التابعة لمنظمة القوميين الأوكرانيين لإرهاب الأقليات القومية. كان اليهود والبولنديون هم الضحايا الرئيسيين للقوميين. بعد احتلال الألمان لمدينة لفيف في 30 يونيو (حزيران) 1941، وقعت مذابح لفيف، قتل خلالها نشطاء منظمة القوميين الأوكرانيين عدة مئات من اليهود. استمرت إبادة السكان اليهود النشطة في أوكرانيا على يد القوميين حتى عام 1943، عندما أصبحت هزيمة الرايخ الثالث حتمية، وبدأت قيادات القوميين الأوكرانيين بمحاولة إخفاء دورها في الهولوكوست[5].
في نهاية فبراير (شباط) عام 1943، أدت الاشتباكات بين سكان فولينيا البولنديين والأوكرانيين (منطقة تاريخية في غرب أوكرانيا) إلى موجة من العنف عرفت تاريخيًّا باسم “مذبحة فولينيا”. سعى كل من البولنديين والأوكرانيين إلى تدمير جيرانهما؛ كي يتسنى لهم فيما بعد ضم تلك المنطقة إلى الدولة البولندية، أو الأوكرانية. كانت أفعال القوميين الأوكرانيين أكثر “فعالية”، وأسفرت عن مقتل من 30 إلى 40 ألف بولندي. إن عمليات التطهير العرقي كانت تتم على يد قوات جيش المتمردين الأوكرانيين الذي أنشأته منظمة القوميين الأوكرانيين نهاية عام 1943، ومطلع عام 1944، ووقع ضحايا في تلك المجازر الأوكرانيون الكاثوليك، والروس، والتشيك، والأرمن، وقد أصدر البرلمان البولندي في 22 يوليو (تموز) 2016، قرارًا يعترف بالمجازر على أنها إبادة جماعية[6].
في عام 1943، شكل النازيون الأوكرانيون فرقة “فافن غرينادين إس إس الرابعة عشرة” (14th Waffen Grenadier Division of the SS ) – (غاليسيا)، التي شاركت في الأعمال العسكرية ضد كل من البارتيزان السوفيت وبارتيزان أوروبا الشرقية (جيوش من المتطوعين لمناهضة الفاشية والنازية) حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. بعد استسلام الرايخ الثالث، استسلم جنود الفرقة للأمريكيين، وهاجروا إلى الولايات المتحدة، ودول أوروبية أخرى[7].
بعد انسحاب القوات الألمانية من أوكرانيا، شنت وحدات جيش المتمردين الأوكرانيين حرب عصابات على الاتحاد السوفيتي، وبولندا، وتشيكوسلوفاكيا استمرت حتى دمرتها قوات الأمن في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي.
قوّض التعاون مع النازيين وممارسة الإرهاب ضد المدنيين سمعة الحركة الوطنية الأوكرانية بشكل كبير، مع أن نشطاءها حاولوا- بعد الحرب العالمية الثانية- أن يظهروا تعاونهم مع الرايخ الثالث على أنه قسري، وحاولوا حتى تصوير منظمة القوميين الأوكرانيين وجيش المتمردين الأوكرانيين كقوة قاتلت ضد النازيين والشيوعيين في وقت واحد، وقدموا أنفسهم على أنهم “ضحايا لنظامين ديكتاتوريين”.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، بدأت أوكرانيا، مثل كثير من الدول الأخرى التي كانت تشكل الاتحاد السوفيتي سابقًا، بخلق أسطورتها الوطنية الخاصة، ودارت بين المؤرخين والسياسيين الأوكرانيين مناقشات طويلة بشأن المكانة التي سيشغلها فيها كل من سيميون بيتليورا، وستيبان بانديرا، ورومان شوخيفيتش، وغيرهم من الشخصيات المثيرة للجدل في تاريخ البلاد.
كانت نقطة التحول في هذه العملية هي الأحداث المأساوية التي وقعت عام 2014، والتي يقدمها الغرب على أنها “ثورة الكرامة”، وتراها روسيا انقلابًا يمينيًّا مواليًا للغرب. أدّى نشطاء المنظمات اليمينية “سفوبودا” و”برافي سكتور” دورًا مهمًّا في الإطاحة بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش. مع أن ممثلي اليمين المتطرف شكلوا نسبة صغيرة من المتظاهرين، فإنهم كانوا في طليعة معارك الشوارع، وشكلوا الخطاب العام. ذكرت قناة (4 News) البريطانية: “كانت أعلام “سفوبودا” ترفرف باستمرار في ميدان الاستقلال، كما أظهرت صور الاشتباكات وجود مجموعات عدوانية من اليمين المتطرف ترفع أعلام النازيين الجدد، ورايات جيش المتمردين الأوكرانيين ذات اللونين الأحمر والأسود… عندما حاولت الجماعات اليسارية الانضمام إلى الاحتجاجات، تعرضت للهجوم والضرب على يد الفاشيين. “سفوبودا” الذين أصبح لهم الآن الريادة الأيديولوجية، وأصبحت الفاشية هي الموضة التي ينخرط فيها مزيد من الناس”[8].
كان انتصار النظام الجديد يعني نهاية الجدل التاريخي. أصبح المتواطئون مع النازيين أبطالًا وطنيين أوكرانيين، وبدأت تظهر شوارع في البلاد تحمل أسماء الأشخاص الذين شاركوا في قتل البولنديين واليهود، حتى تسبب هذا في استياء وارسو، على الرغم من العلاقات الطيبة التي كانت تربط بين بولندا وأوكرانيا ما بعد أحداث الميدان[9].
في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، قدم الوفد الروسي لدى الأمم المتحدة مشروع قرار يدين تمجيد النازية والنازية الجديدة. في النهاية، تم تبني القرار بأغلبية 121 صوتًا، وامتناع 53 دولة عن التصويت. ولم يعارض القرار سوى دولتين؛ هما: الولايات المتحدة وأوكرانيا [10].
وكان ضم أعضاء المنظمات اليمينية المتطرفة والنازية الجديدة إلى قوات الأمن الأوكرانية من الأمور الأكثر إثارة للقلق، فقد أصبحوا هم العمود الفقري لما يسمى بـ “كتائب الحرس الوطني”، التي تشكلت على عجل عام 2014 لقمع المظاهرات المناهضة لاحتجاجات الميدان والحرب التي بدأت في دونباس.
وكانت كتيبة آزوف أسوأ تلك الوحدات سمعة. يشكل نواتها مشجعو نادي “ميتاليست” لكرة القدم في مدينة ماريوبول، وقد شاركت هذه الوحدة في الحرب في دونباس، وتم تحويلها لاحقًا إلى فوج. حتى وسائل الإعلام الغربية أُجبرت على الاعتراف بأن “أوكرانيا ما بعد أحداث الميدان هي الدولة الوحيدة في العالم التي لديها تشكيل يتألف من النازيين الجدد في قواتها المسلحة. وكتبت صحيفة الجارديان أن “الكثير من أعضاء (آزوف) ينتمون إلى الجماعات النازية. حتى أولئك المقاتلون الذين سخروا من فكرة أنهم من النازيين الجدد لم يقدموا ما يثبت العكس”[11].
تنشط كتيبة آزوف على الصعيد الدولي، وتدعو أعضاء الجماعات اليمينية المتطرفة من جميع أنحاء العالم للانضمام إليها، وفيها يتم تدريب النازيين الجدد من الدول الاسكندنافية، وبريطانيا العظمى، وبيلاروس، ودول أخرى. كان رومان بروتاسيفيتش، محرر قناة (Nexta)، التابع لكتيبة آزوف، إحدى الشخصيات الرئيسية في محاولة الإطاحة بالرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو عام 2020. اعتقدت السلطات الروسية والبيلاروسية أن بروتاسيفيتش متورط في عمليات عسكرية في أوكرانيا، في حين تزعم وسائل الإعلام الغربية أنه كان هناك بوصفه صحفيًّا فقط، إلا أن قيادة آزوف تؤكد أن بروتاسيفيتش كان مؤيدًا لأفكار تلك الكتيبة [12].
من بين صفوف الأحزاب اليمينية وكتائب الحرس الوطني، يحتل ممثلو اليمين المتطرف والنازيون الجدد- بسهولة- مناصب رئيسية في قوات الأمن الأوكرانية. هكذا، أصبح نائب قائد آزوف، فاديم ترويان، قائد شرطة في إقليم كييف. وفقًا لأحد المنشورات الأوكرانية لحقوق الإنسان، كان ترويان قبل عام 2014 ناشطًا في جماعة النازيين الجدد “باتريوتي أوكرايني”، التي نفذت هجمات على المهاجرين، والغجر، والسود[13].
كما اعترفت (NBC news) بأنه “مع أن بوتين منخرط في الدعاية، فمن الصحيح أيضًا أن أوكرانيا لديها مشكلة حقيقية مع النازية في الماضي والحاضر” [14]. ومع ذلك، فإن إعلان السلطات الروسية “اقتلاع النازية” هدفًا للعملية العسكرية ضد كييف يجب أن يُقبَل أيضًا مع بعض التحفظات.
على الرغم من حقيقة أن النازية عامل مهم في الحياة السياسية الأوكرانية، فإن نظام هذا البلد بالكاد يمكن أن يسمى ديكتاتورية نازية كاملة. إنه يذكرنا أكثر بالنظم التي كانت سائدة في كثير من بلدان أمريكا اللاتينية التي تعتمد على الولايات المتحدة، حيث تم استخدام مقاتلين من اليمين المتطرف وفرق الموت للقتال ضد معارضي النظام في ظل وجود المؤسسات البرلمانية.
المشكلات المذكورة أعلاه هى مشكلات نمطية، ليس فقط لأوكرانيا، ولكن أيضًا لكثير من دول أوروبا الشرقية، وخاصة دول البلطيق، حيث يتم تمجيد الأشخاص الذين قاتلوا في صفوف الرايخ الثالث.
أخيرًا، لم يذكر الجانب الروسي الكيفية التي- وفقًا له- سيجتث بها النازية من أوكرانيا بعد انتهاء الأعمال العسكرية. كل هذا يشير إلى أن قضية مكافحة النازية هي بالأحرى ذريعة لبدء الحرب، وأن الأسباب الحقيقية تكمن في التناقضات الجيوسياسية بين روسيا والغرب.
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير