أثارت سيطرة أذربيجان السريعة على ما تبقى من إقليم ناغورنو كاراباخ، بالتزامن مع المناورات العسكرية “إيجل 2023” بين القوات الأمريكية والأرمنية، سلسلة من الأسئلة عن مدى استقرار الوضع في جنوب القوقاز خلال الفترة المقبلة بعد أكثر من 100 عام من الصراع على الإقليم بين باكو ويرفان، حيث تبادلت كل من أرمينيا وأذربيجان السيطرة على ناغورنو كاراباخ منذ الحرب الأولى على الإقليم عام 1918، وزاد من وتيرة تلك الأسئلة أن إعلان أذربيجان، في 19 سبتمبر الجاري، إطلاق عمليتها للسيطرة الكاملة على الإقليم، وطرد الجيش الأرمني من هناك، تزامن مع حديث في واشنطن وبروكسل أن الحرب الروسية الأوكرانية تعطى الغرب فرصة مثالية لطرد روسيا من منطقة القوقاز التي تضم 3 دول رئيسة، هي أذربيجان، وأرمينيا، وجورجيا، وكل ذلك مقدمة لطرد روسيا من دول آسيا الوسطى التي تضم 5 دول أخرى، هي كازاخستان، وطاجكستان، وتركمانستان، وقيرغيزستان، وأوزبكستان.
ويضاعف من تلك الأسئلة موقف رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان الذي أعيد انتخابه مرة أخرى بعد حرب 2020 التي خسرت فيها أرمينيا جزءًا كبيرًا من إقليم ناغورنو كاراباخ، و5 مناطق من أصل 7 مناطق سبق أن سيطرت عليها يرفان في حرب 1991، وبعد بدء العملية العسكرية الأخيرة لباكو الشهر الحالي، لم يتحرك باشينيان لمساعدة الأرمن في إقليم ناغورنو كاراباخ الذي يطلق عليه بالأرمينية “آرتساخ”، واكتفى فقط بوصف عملية باكو بأنها “اعتداء غير شرعي”، فهل هذه المواقف تشير إلى نهاية الصراع على الإقليم القاحل الذي لا تتجاوز مساحته 4.4 ألف كم، ويسكنه نحو 120 ألف نسمة، أم أننا أمام بداية “صراعات ومعادلات جيوسياسية جديدة” تعد لها وتغذيها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون بهدف إضعاف وإنهاء الحضور والزخم الروسي في تلك المنطقة؟
تعيش المنطقة حالة من “عدم اليقين” السياسي والعسكري، حيث لم تعلن قوات ناغورنو كاراباخ “الاستسلام الكامل”، كما أن باكو ترفض “مبدأ الحكم الذاتي”، وتريد دمج الإقليم في أراضيها، ورغم إجراء جولة من المفاوضات بين الطرفين في مدينة يفلاخ الأذربيجانية فإن النتائج لم يعلنها أي من الطرفين، وهو ما يعني وجود ملفات لم تحسم بعد، مع أن العمليات العسكرية باتت محسومة، خاصة مع تسليم المجموعات القتالية في الإقليم جزءًا كبيرًا من أسلحتها وعتادها للجيش الأذربيجاني في حضور قوات السلام الروسية، وهو ما يؤكد أننا أمام معادلة جديدة لها حسابات معقدة، تقوم على عدد من المسارات، منها:
ما تشهده أرمينيا هو “ثورة ملونة” كاملة الأركان، فمنذ عام 2008 يقول رئيس الوزراء الأرميني الحالي نيكول باشينيان إن بلاده تحتاج إلى “ثورة” حتى تصل إلى نمط الحياة والديمقراطية الغربية، وتحققت له هذه الثورة في أبريل 2018، ونجح من خلالها في الوصول إلى الحكم في 8 مايو من العام نفسه. ورغم الهزيمة العسكرية التي تعرضت لها أرمينيا في عهده، وخسارتها أجزاء واسعة من ناغورنو كاراباخ، و5 مناطق أخرى سبق لها أن كسبتها في حرب 1991، أعيد انتخاب باشينيان في 20 يونيو 2021، وتؤكد تعليقات باشينيان ومواقفه هذا الشهر، بعد سيطرة أذربيجان الكاملة على ناغورنو كاراباخ، وقبلها توجيه اللوم المباشر إلى روسيا طوال السنوات الخمس الماضية، أن سيناريو “الثورات الملونة” يتكرر في أرمينيا، وهو السيناريو القائم على البحث عن الحياة الغربية، والارتباط بحلف دول شمال الأطلسي “الناتو”، والاتحاد الأوروبي، حتى لو قاد هذه المسار في النهاية إلى خسارة الأراضي وبعض أقاليم البلاد، فتحليل الخطاب السياسي والإعلامي للحكومة الأرمينية الحالية يقول إنها لا تمانع التخلي عن ناغورنو كاراباخ، وغيرها من المناطق والممرات، في مقابل الخروج من “المظلة الروسية”، واللحاق بالركب الغربي، وهو سيناريو تكرر من قبل في جورجيا وأوكرانيا؛ ففي جورجيا بدأ هذه المسار “بالثورة الوردية” عام 2003، وخسرت في نهايته جورجيا كلًا من أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عام 2008، وتكرر هذا السيناريو مع ما سمى “بالحرب البرتقالية ” عام 2005 في أوكرانيا، وأدى في النهاية إلى ما حدث عام 2014 من استهداف للمواطنين الروس، وتغيير النظام الحاكم لصالح الموالين للغرب، وصولًا إلى 24 فبراير2022، وضم روسيا في سبتمبر من العام الماضي 4 مناطق ذات أغلبية روسية إليها، وهو ما يقول إن أرمينيا تسلك سلوك الدول الأخرى في جنوب القوقاز، التي سارت في دروب ” الثورات الملونة”.
خلال السنوات الخمس الماضية، تركز هجوم حزب “العقد المدني” الذي يقوده باشينيان على روسيا، والدعوة إلى التخلص من “العباءة الروسية” من خلال الدعوة إلى تدعيم العلاقات الأرمينية مع الغرب، وفك الارتباط مع كل ما يأتي من موسكو والكرملين، وتقول النتيجة التي وصلت إليها أرمينيا الآن إنها “ليست في حاجة إلى روسيا”، فالجيش الأرميني لم يطلق طلقة واحدة خلال المعركة الأخيرة في ناغورنو كاراباخ ، كما أن يرفان لا تريد أي مناورات أو تدريبات عسكرية مع الجيش الروسي، أو منظمة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا، واستبدلت بها تدريبات مع الجيش الأمريكي، كما أنه لا يمر يوم دون تصريحات عدائية من حكومة باشينيان ضد روسيا، فضلًا عن زيارة زوجة باشينيان آنا آكوبيان إلى أوكرانيا الشهر الماضي، وتقديمها مساعدات غير مسبوقة لكييف، وهو “عنوان كبير” لحجم التوتر في العلاقة بين يرفان وموسكو؛ ولهذا تقوم الحسابات الغربية على أن هزيمة أرمينيا مرتين في الحرب مع أذربيجان، وتضحيتها بإقليم “ناغورنو كاراباخ”، تؤكد أن روسيا “خرجت بالفعل” من أرمينيا، وباقي دول جنوب القوقاز، فمنذ أيام الحرب الروسية الجورجية عام 2008 خرجت روسيا من جورجيا، كما أن انتصار أذربيجان واستعادتها إقليم ناغورنو كاراباج، و5 مناطق أخرى بالقوة، ومنطقتين بالمفاوضات، كل ذلك يجعل حاجة أذربيجان إلى روسيا أقل بكثير مما سبق، وإن كل يوم يمر نحو تثبيت الوضع القائم سوف يزيد من العلاقات بين أذربيجان والدول الغربية، خاصة الأوروبية، حيث ينظر الأوروبيون إلى أذربيجان على أنها مهمة جدًّا لنهج الغرب نحو التخلي الكامل عن الغاز والنفط الروسيين، والاستعانة بالغاز والنفط من أذربيجان، وغاز بحر قزوين.
تمتلئ الصحافة الغربية بدعوات للأرمن إلى التظاهر ضد الوجود العسكري الروسي في البلاد بدلاً من التظاهر ضد حكومة نيكول باشينيان، وهو تمهيد واضح للسيناريو القادم، فالخطوة المقبلة من الحكومة الأرمينية هي عدم التجديد لاتفاقية بقاء 1960 جنديًّا روسيًّا في أرمينيا، رغم الدور الكبير الذي أدته “قوات حفظ السلام الروسية” ليس في ترتيب اللقاء بين زعماء إقليم ناغورنو كاراباخ وحكومة أذربيجان فحسب؛ بل نجاح قوات حفظ السلام الروسية في الحفاظ على أرواح المدنيين والمنشآت المدنية خلال العملية العسكرية الأخيرة لأذربيجان في ناغورنو كاراباخ.
أكبر الرابحين من انتصار أذربيجان هي تركيا، والمشروع الذي يتبناه القوميون الأتراك لإحياء الإمبراطورية التركية في القوقاز، وجمهوريات آسيا الوسطى؛ لأن سيطرة أذربيجان التامة على ناغورنو كاراباخ تمهد لإحكام سيطرة باكو التامة على “ممر زنغزور”، وسيطرة باكو “بالقوة” على ممر “زنغزور” الموجود في الأراضي الأرمينية، أو من خلال التوصل إلى اتفاق مع أرمينيا يهدف في النهاية إلى وصول أذربيجان إلى منطقة “نخجوان” (نختشوان)، ومن بعدها إلى تركيا، وصولًا إلى مدينة “قارص”، وهذا السيناريو سوف يحقق الهدف التركي بربط الأراضي التركية بأذربيجان، ليكون هذا الممر في النهاية “بوابة برية” و”ممرًا واسعًا” لربط تركيا بأذربيجان كمقدمة لربط تركيا بدول “الاتحاد التركي”، وهي الدول الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى (كازاخستان، وقيرغيزستان، وتركمانستان، وأوزبكستان). ورغم العلاقات الإيجابية حاليًا بين تركيا وروسيا فإن هذا المشروع التركي يثير قلق بعض القوى التي لها نفوذ في المنطقة، مثل روسيا، والصين، وإيران.
مع أن الموقف الرسمي للحكومة الإيرانية يقول إنها كانت تنظر إلى إقليم ناغورنو كاراباخ باعتباره أراضي أذربيجانية، فإن وجود باكو في “ممر زنغزور” على الحدود الأرمينية الإيرانية سوف يسبب قلقًا خاصًا لإيران، ويعود هذا القلق إلى سببين؛ الأول يتعلق بأن عدد الإيرانيين من أصل أذري يتراوح من 11.8 إلى 19.4 مليون نسمة، ويشكلون من 16 إلى 25 % من سكان إيران، ويطلق عليهم في أذربيجان اسم “أذربيجان الجنوبية”، وهي قضية شديدة الحساسية للإيرانيين، وليس من مصلحة إيران أن تكون أذربيجان بهذا التلاحم قرب الإيرانيين من أصل أذري، وهذا سوف يخلق “بؤرة توتر” غير مسبوقة على الحدود بين إيران وأذربيجان وأرمينيا. أما السبب الثاني للقلق الإيراني فهو العلاقات القوية بين أذربيجان وإسرائيل، حيث صدرت إسرائيل أسلحة لأذربيجان بنحو 5 مليارات دولار، كما أن العلاقات بين باكو وتل أبيب حصلت على دفعة قوية منذ افتتاح أذربيجان سفارة لها في تل أبيب، وهي السفارة التي وصفتها إسرائيل بأنها أول “سفارة شيعية” في إسرائيل؛ ولهذا فإن إيران لن تتسامح مع الاقتراب الإسرائيلي من حدودها الشمالية، خاصة بعد أن أخذت إسرائيل خطوة أخرى للاقتراب من الحدود الإيرانية عندما افتتحت، في 20 أبريل الماضي، سفارة جديدة لها في تركمانستان، التي لها حدود مع إيران تصل إلى نحو 1200 كم.
كل هذه الحقائق التي تتحرك في منطقة يطلق عليها منذ القدم “الجغرافيا السامة”، يمكن أن تقود إلى أحد السيناريوهات الثلاثة، وهي:
ما ورد في المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير