بريكس بلستقدير موقف

تحرك سعودي جديد على الساحة الدولية

مؤتمر جدة للسلام في أوكرانيا


  • 5 أغسطس 2023

شارك الموضوع

تتويجًا لمسار جديد في العلاقات الخارجية، بدأه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وبعد عدد من القمم الدولية التي استضافتها السعودية، آخرها “قمة جدة للأمن والتنمية” بعد أيام قليلة من “قمة مجلس التعاون الخليجي وآسيا الوسطى”، تستضيف جدة خلال يومي (5-6) أغسطس (آب) حدثاً جديداً بصفة عالمية أطلق عليه  “مؤتمر جدة للسلام في أوكرانيا” بمشاركة نحو 50 دولة من دول العالم، على رأسها الولايات المتحدة والصين وبلدان الاتحاد الأوروبي، بجانب البلدان النامية الكبرى الهند والبرازيل وجنوب افريقيا، وأوكرانيا صاحبة الشأن التي يناقش المؤتمر سبل إقرار السلام على أرضيها.

الدوافع السعودية

دخلت السعودية مبكرًا على خط الأزمة الروسية-الأوكرانية، واتخذت خطًا مميزًا لمواقفها. من ناحية دعمت كافة قرارات الشرعية الدولية عبر تأييدها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، الذي يطالب روسيا بسحب قواتها من أوكرانيا، الصادر في 23 فبراير (شباط) 2023، و من ناحية أخرى، رفضت تطبيق عقوبات أحادية على روسيا استجابة لمطالب الغرب ودون قرار أممي، وهو ما يتسق مع مواقفها الداعمة للشرعية الدولية.

على جانب آخر، حرص ولي العهد السعودي على التواصل بشكل مباشر مع الرئيس فلاديمير بوتين، مفضلاً نهج الباب المفتوح والحوار كوسيلة لإنهاء النزاعات بدلاً من المقاطعة والعقوبات. أدت جهود الأمير محمد بن سلمان إلى التوسط في عدة اتفاقيات للإفراج عن الأسرى من كلا الجانبين الروسي والأوكراني وكذلك الجانب الغربي، وفي الوقت نفسه استمر التنسيق مع روسيا وفق صيغة (أوبك بلس)، وهو ما جنب تعرض أسواق الطاقة لأي اهتزازات حادة من جراء الصراع العسكري الحالي، والحفاظ على مصالح المنتجين والمستهلكين، واستقرار الاقتصاد العالمي.

دأبت البيانات الرسمية السعودية التأكيد على ضرورة فتح حوار بين الأطراف المتصارعة، والانفتاح على الجميع دون قيود أو شروط مسبقة، وتأكيدًا لهذا النهج دعا الأمير محمد بن سلمان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، لإلقاء كلمة أمام الزعماء العرب في قمة جدة العربية.

في فبراير (شباط) 2023، عشية الذكرى الأولى للحرب، أطلقت الصين مبادرة سلام خاصة بها، وضعت فيها الخطوط العريضة لإنهاء النزاع في أوكرانيا.

في يونيو (حزيران) تم إطلاق مجموعة من مبادرات السلام الأخرى: مبادرة غربية تحت عنوان “المبادئ الأساسية للسلام” في أوكرانيا من خلال مؤتمر كوبنهاغن ثم “مبادرة سلام أفريقية“، وأفكار عامة عن “مبادرة هندية-برازيلية“.

تعدد المبادرات بشأن إقرار السلام وإيقاف الحرب، وإن بدت ظاهرة صحية، وتعبيراً عن رغبة جماعية من كافة الأطراف لإنهاء الحرب، إلا أنها قد تعقد المشهد، وتؤدي لتعطيل أي جهود حقيقية لتحقيقه، ويعود ذلك لعدة أسباب أهمها:

  • اتهام بعض الأطراف بأن موقفها متحيز أو غير واضح.
  • وجود خلافات عميقة بين الكتل الأقرب لروسيا والداعمة لأوكرانيا.
  • افتقار بعض المبادرين لأدوات القوة والتأثير على طرفي النزاع وحلفائهما.
  • تعدد الرؤى من كل طرف حول رؤيته للسلام في ظل غياب رؤية واحدة متفق عليها.

في ظل هذا الوضع، قد يبدو من الصعب إن لم يكن من المستحيل التوصل لأي فرص لعقد سلام حقيقي في أوكرانيا. هنا جاء دور ولي العهد السعودي، الذي ترك الجميع يطرح أوراقه على الطاولة، واستفاد من كافة هذه التجارب وحللها بشكل جيد، وبدلاً من أن يطرح مبادرة جديدة تضاف للمبادرات السابقة، تقدم بحل يبدو أكثر واقعية من خلال فكرة خلاقة جديدة، ألا وهي توحيد كافة المنصات والمبادرات الداعية للسلام في بوتقة واحدة، والاتفاق على صيغة مقبولة من كافة الأطراف المؤيدة لأوكرانيا والمحايدة، وهو ما يقوي من مركز أوكرانيا التفاوضي، ولا يجعلها أسيرة للغرب الجماعي وأطروحاته، وفي الوقت نفسه يقدم رؤية أكثر مرونة يمكن أن تقبلها روسيا.

لماذا لم يتم دعوة روسيا؟

ظهرت بعض التحليلات الرغبوية التي تدعي وجود “اختلافات” بين الرياض وموسكو، البعض الآخر أدعى أن ولي العهد السعودي، يرغب في عقد “صفقة” مع الغرب تحسن من مواقعه و/أو اظهار نفسه في موقع الداعم للجهود الغربية لاستعادة أوكرانيا أراضيها، نتيجة اعتبار مواقفه السابقة وإن كانت محايدة لكنه حياد يبدو “إيجابياً” لصالح روسيا.

تبدو كافة هذه الفرضيات بعيدة عن الواقع. فرضية وجود “اختلافات” لا تصمد أمام الاتفاق الأخير لتحالف (أوبك بلس) الذي تقوده الرياض بمشاركة موسكو، والذي جرى تمديده حتى العام (2024). أما فرضية تحسين ولي العهد السعودي لشروطه مع الغرب و/أو ابراز دعمه للغرب، تبدو غير منطقية، حيث أُرغم الرئيس الأمريكي جو بايدن على الذهاب إلى السعودية في 16 يوليو (تموز) 2022، رغم كل ما صاحب حملته الانتخابية من صخب وتصريحات حادة ضد السعودية وولي العهد، وكان يأمل أن يحصل من خلال هذه الزيارة على زيادة في انتاج النفط، وتخلي السعودية عن تحالف (أوبك بلس)، وهو ما رفضه الأمير محمد بن سلمان، بشكل قاطع.

رؤية (2030) التي أطلقها الأمير محمد بن سلمان، لا تقتصر على الجوانب الاقتصادية فحسب، بل تهدف إلى جعل المملكة العربية السعودية، مركزًا عالميًا للاقتصاد، والتقنيات، والطاقة الجديدة بالإضافة إلى قيادتها لقطاع الطاقة التقليدية، وامتلاك قوة جيوسياسية وجيو-اقتصادية، تؤهلها لكي تكون لاعباً عالمياً.

النزاع في أوكرانيا، خرج عن نطاق كونه نزاع بين دولتين إلى ما يشبه الحرب العالمية بالوكالة، وباتت آثارها تؤرق العالم أجمع. كما أن هذه الحرب تشتعل في قلب أوروبا، ويقف الغرب الجماعي كتلة واحدة في مواجهة روسيا دون تراجع أو شعور بالمسؤولية وفتح المجال لسلام حقيقي، هنا يكسب الأمير محمد بن سلمان، عدة نقاط على حساب الغرب الذي طالما قدم محاضرات مطولة على أن “السلام هو السبيل الوحيد لحل النزاعات” وضرورة “تجنب” سيناريو الحرب أو “دعمها”، عبر مؤتمر يوحد من خلاله شتات هذا الغرب غير القادر على الخروج برؤية واضحة للسلام، ويجمع القوى المحايدة الأخرى التي فشل الغرب في استقطابها ونيل قبولها لخططه.

دعوة روسيا، لن تؤدي لشيء سوى تعقيد هذه الجهود، وإثارة جدل وبلبلة حول حضورها، كما أن روسيا لديها قائد واحد، يمكن التفاوض بشكل مباشر معه، وما سيتم الاتفاق عليه هناك ضمانة واضحة لتنفيذه، بينما المشكلة تكمن في الغرب متعدد الرؤى والمواقف، وغير المضمون تنفيذه لأي اتفاق دون مشاركة دولية يمكن أن يلتزم بها وتُلزم أوكرانيا، كذلك لا تثق روسيا في أي وعود أوكرانية، بعدما حدث في مفاوضات إسطنبول بعد بدء الحرب بأيام قليلة، والاتفاق على عدة نقاط بين الطرفين أدت لقرار روسيا الانسحاب من محيط كييف لإبراز حسن النوايا، ثم تدخلت بريطانيا وعدة قوى أخرى وافسدت الخطة.

الاستنتاجات

مؤتمر جدة لا يهدف لتقديم مبادرة جديدة، بل خلق توافق على مبادرة مرنة ومقبولة من قبل أوكرانيا والغرب والقوى الدولية الأخرى المحايدة.

فلسفة مؤتمر جدة، قائمة على خلق توازن في القوى بين الطرفين، وتحقيق اختراق يمكن البناء عليه لعقد مفاوضات سلام جادة، وحفظ ماء وجه كافة الأطراف المتورطة في الحرب بشكل مباشر أو غير مباشر. بدلاً من أن تبدو أوكرانيا معزولة عن بقية العالم، لا يدعمها سوى الغرب، سيوفر لها المؤتمر غطاء جديدة من قوى كبرى مؤثرة لديها علاقات قوية مع روسيا، مثل الصين التي رفضت حضور مؤتمر كوبنهاغن الغربي، وكذلك البرازيل والهند وجنوب أفريقيا، وهم أعضاء في مجموعة بريكس، بجانب السعودية بثقلها في العالمين العربي والإسلامي، وتأثيرها العالمي.

التوصل لصيغة مقبولة من كافة الأطراف السابق ذكرها، تحتوي بعض بنودها على مرونة قابلة للأخذ والرد توفر مخرجاً للكرملين، يمكن أن يسوق أي اتفاق مستقبلي عبرها، من خلال القول إن روسيا لم ترضخ للغرب وتوصلها لاتفاق لم يكن مبنيًا على ضعف بل من مركز قوة، واستجابة لنداءات الأصدقاء والحلفاء الذين لم ينحازوا للغرب ضد روسيا أو دعموها، وكان لابد من الاستماع لرؤيتهم، والحفاظ على صداقتهم وتحالفهم.

غربيًا، ومع تعثر خطة الهجوم المضاد الأوكراني، والانهاك الذي تعرضت له القوى الغربية، وقرب الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ودخول فصل الخريف ثم الشتاء، وهو ما سيؤدي لتعطل العمليات العسكرية نتيجة الظروف المناخية، ستوفر لهم هذه الصيغة مخرجاً يمكن تسويقه ” بأننا حافظنا على أوكرانيا من الضياع وتوصلنا لاتفاق من مركز قوة”.

الرابح الأكبر، الأمير محمد بن سلمان، الذي أظهر عبر كل ما سبق من خطوات أنه صانع للسلام، ورجل دولة حقيقي يتحلى بالمسؤولية والفهم العميق للسياسة الدولية، وتوازنات القوى الجديدة في العالم، والقدرة على صنع التوافقات بين القوى الكبرى العاجزة عن التوصل بمفردها لها، وتمتين علاقاته مع الغرب والشرق، ووضع السعودية على خريطة التأثير العالمي لا في مجال الاقتصاد والطاقة فحسب، بل وكذلك في السياسة.

ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.


شارك الموضوع