يقترب العالم من نقطة انعطاف تاريخية في ظل تغير موازين القوى، وأزمة الشرعية والتقدم التكنولوجي السريع، وهو ما يهدد نظام الحوكمة العالمية الذي تأسس في السنوات التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية. السؤال المركزي في مجال الشؤون الدولية اليوم: ما إذا كان هذا النظام العالمي سيعيد تأهيل نفسه، أم يفسح المجال أمام نظام جديد أكثر انسجامًا مع هذه الحقائق الناشئة، أو يتجه نحو الانهيار مخلفًا اضطرابًا عالميًّا؟
أخذت الولايات المتحدة زمام المبادرة في إنشاء هذا النظام، الذي غالبًا ما يُطلق عليه النظام العالمي الليبرالي؛ لأنه يرتكز على مجموعة من المعايير والقواعد والمؤسسات التي تعكس المبادئ الليبرالية. تشمل أسسها اقتصادات مفتوحة قائمة على السوق، ومجتمعات ديمقراطية، وأمنًا جماعيًّا وسيادة مشتركة. كان من المفترض أن يتم فرض هذه القواعد بشكل جماعي، لكن قوة الولايات المتحدة كانت الضامن النهائي لها.
من المؤكد أنه خلال الحرب الباردة، ساد هذا النظام في جزء صغير فقط من الكرة الأرضية، وهو ما كان يشار إليه غربيًّا باسم «العالم الحر». مع نهاية الحرب الباردة وانهيار الماركسية اللينينية كأيديولوجية حاكمة في جميع أنحاء العالم حتى في الصين التي تخلت عنها- سعت الولايات المتحدة إلى إضفاء الطابع العالمي على هذا النظام وعملت على دمج روسيا في المجتمع الأوروبي الأطلسي؛ من خلال تسهيل انتقالها إلى ديمقراطية السوق الحرة وإقناع الصين بأن تصبح «صاحب مصلحة مسؤولًا» في النظام العالمي. كما روجت الولايات المتحدة في أماكن أخرى للديمقراطية والأسواق الحرة. لكن جهودها فشلت مع روسيا والصين. كانت النتائج في أماكن أخرى مختلطة؛ حتى في بعض الأجزاء من أوروبا. البلقان، على سبيل المثال، لم تستطِع الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون بناء أنظمة سياسية ديمقراطية مستقرة.
كانت هناك أسباب متعددة لهذا الفشل، ليس أقلها التطورات في الولايات المتحدة. عندما غرقت في مستنقع حروب لا يمكن الفوز بها في أفغانستان والعراق، وما أعقبها من تشكيك العديد من المراقبين في القوة الأمريكية وحكمة قادتها. أثارت الأزمة المالية العالمية لعام (2009-2008) والتي نشأت في وول ستريت، الشكوك حول جدوى العلامة التجارية الأمريكية لرأسمالية السوق الحرة. في الآونة الأخيرة، أدى الاستقطاب العميق والخلل السياسي الواضح، اللذان أظهرهما اقتحام مبنى كابيتول هيل في السادس من يناير (كانون الثاني) الماضي إلى تآكل سمعة الديمقراطية الأمريكية بشكل خطير. إذن ما هي قيمة النظام العالمي الليبرالي؟ وبأي حق ادَّعى الأمريكيون أنهم قادته؟
لكن لم تكُن الإخفاقات الأمريكية وحدها هي التي قوَّضت النظام العالمي الليبرالي. لقد زعزعت التطورات العالمية الركيزتين الضروريتين لأي نظام دولي مستقر: «الشعور المشترك بالشرعية وتوازن القوى المستقر». في غياب هذه الركائز، لا يمكن للبنية المؤسسية للنظام العالمي الليبرالي، مثل الأمم المتحدة والهيئات التابعة لها والمؤسسات المالية الدولية- أن تعمل بفاعلية.
يشكل صعود الصين وانبعاث روسيا التحدي الأكبر، لكنهما ليسا السبب الوحيد الذي يُخل بالنظام العالمي.
لسنوات، أدت الفوضى في أوروبا إلى إجهاد قدرتها على دعم القيم الليبرالية في الخارج. في الآونة الأخيرة أدى ازدراء الرئيس السابق ترامب لحلفاء أمريكا إلى تغذية التوق إلى الاستقلال الإستراتيجي بين الأوروبيين. أدت الاضطرابات في الشرق الأوسط، وتزايد الشعبوية، وصعود القومية: «إلى مزيد من تآكل أسس النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة».
أوضح الرئيس بايدن أنه يريد تنشيط هذا النظام، في مقالٍ له في الربيع الماضي، حيث طرح قضية القيادة الأمريكية العالمية. كما وعد بإصلاح العلاقات مع الحلفاء، ووضعت إدارته خططًا لعقد «قمة الديمقراطيات» في وقتٍ لاحق من هذا العام لمواجهة صعود السياسات الاستبدادية. بينما رحَّب الحلفاء الأمريكيون بانتخابه؛ فمن غير الواضح على الإطلاق أنهم مستعدون لقبول القيادة الأمريكية. بالتأكيد، لن يمضوا كما يتوقع البعض بشكل أعمى وراء الأهداف الأمريكية. إذا كانت هناك قيادة، فيجب أن تكون مشتركة. أما بالنسبة لقمة الديمقراطيات، فإن الولايات المتحدة بحاجة إلى معالجة نفسها أولًا إذا أرادت حشد الدول الأخرى حول برنامج عمل مشترك. باختصار، لا يوجد مسار مباشر لتنشيط نظام دولي ليبرالي تقوده الولايات المتحدة – وقد لا يكون على الإطلاق.
بناءً على ما سبق، من الصعب تحديد ملامح توازن عالمي جديد يمكن أن يظهر في السنوات القادمة. لذا نجد أنفسنا في حالة تعدد الأقطاب غير المتكافئ والمتعدد الطبقات؛ حيث أصبح النظام الأمني أوسع من الثنائية القطبية بشكلٍ متزايد، يؤدي انتشار الأسلحة النووية والأسلحة التقليدية المتقدمة والأسلحة الإلكترونية إلى تآكل الاحتكار الثنائي الذي كانت تمارسه الولايات المتحدة وروسيا. أصبح النظام الاقتصادي متعدد الأقطاب بشكلٍ متزايد مع الصعود السريع للقوى الاقتصادية الكبرى، وخاصة في آسيا. بينما يشهد النظام السياسي عددًا متزايدًا من الدول التي تتنافس على النفوذ لا سيما على المستوى الإقليمي، الذي تواجه فيه قوة الدول تحديًا من خلال ظهور جهات فاعلة معطلة خرج نطاق الدول، بما في ذلك المنظمات الإرهابية الدولية.
في الوقت نفسه، تمتلك القوى الرئيسية مفاهيم مختلفة جدًّا عن النظام العالمي وبالتالي للشرعية. كما أنها في تناقض حاد مع رؤية الولايات المتحدة الليبرالية القائمة على القواعد، حيث تصر روسيا على أن مجموعة من القوى العظمى يجب أن تأخذ زمام المبادرة في إدارة عالم متعدد المراكز على أساس القرارات المشتركة، والتي سيكون لكل قوة عظمى فيه حق النقض عليها. لدى الصين رؤية أخرى، لنظام هرمي يتمحور حول الصين؛ حيث تشعر الدول الأخرى بالرهبة من براعتها الثقافية والاقتصادية والتي ستمكِّنها في وضع القواعد.
أدى وجود الأسلحة النووية والتهديد بالإبادة التي تحملها لوجود حس عام بالشرعية أو توازن للقوى العالمية، لكن ما شجع على ضبط النفس في الشؤون العالمية على مدار الثلاثين عامًا الماضية، ينهار الآن مع انهيار نظام الحد من التسلح الذي تم بناؤه خلال نصف القرن الماضي في مواجهة التقنيات الجديدة وخيارات السياسة في موسكو وواشنطن التي خفَّضت عتبة استخدام الأسلحة النووية.
في هذه المرحلة، تظل معاهدة ستارت الجديدة التي تم تمديدها مؤخرًا الركيزة الأخيرة لنظام الحد من التسلح النووي الثنائي بقيادة الولايات المتحدة وروسيا، ولكنها ستنتهي في غضون خمس سنوات.
ما الذي يجب فعله بعد ذلك لوقف الاضطراب العالمي المتنامي وبناء نظام دائم جديد؟
في البداية، يجب إصلاح الهياكل العالمية في ثلاثة مجالات حيوية: (الأمن، والاقتصاد، والاستقرار الإستراتيجي).
في مجال الأمن، هناك حاجة إلى منتدى يعقد ورشة عمل لمناقشة التحديات الملحة وتطوير طرق لحلها أو إدارتها. الجهود المتكررة لإصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لأداء هذه المهمة لم تحقق سوى القليل من التقدم والآفاق قاتمة. في ضوء ذلك، ينبغي النظر في قيام تناغم وتفاهم غير رسمي للقوى العظمى لهذا الغرض. كما سيتعين على اتفاق كهذا أن يكون بين الصين وروسيا والولايات المتحدة، وهي أكثر ثلاثة لاعبين جيوسياسيين نشاطًا اليوم. كما يجب إدراج الهند كقوة صاعدة، بالإضافة إلى بعض، إن لم يكن كل البلدان التالية ذات التقاليد العريقة للقوى العظمى، مثل: (فرنسا وألمانيا وبريطانيا العظمى واليابان). لن يكون لهذا التفاهم السلطة الرسمية في مجلس الأمن، ولكن قد يكون له تأثير أكبر؛ لأنه سيجمع بين القوى الرائدة والموارد اللازمة ليكون لها تأثير عملي على الأمن العالمي.
تحتاج منتديات الأمن الإقليمي أيضًا إلى إعادة تنشيط أو إنشاء. في أوروبا، تعتبر منظمة الأمن والتعاون ومجلس الناتو وروسيا المنتديات الرئيسية التي تم إنشاؤها خلال فترة أكثر تفاؤلاً، ويجب الآن إعادة التفكير فيها للتعامل مع أجندة أقل تركيزًا على بناء تعاون إيجابي من التركيز على إدارة المنافسة بمسؤولية.
في شرق آسيا، توجد عدة منصات مختلفة بالفعل: (قمة شرق آسيا ومنتدى الآسيان الإقليمي) بينما يجب إنشاء منتدى جديد، ربما يكون نوعًا مختلفًا من المحادثات السداسية حول كوريا الشمالية، للتعامل مع الوضع في شمال شرق آسيا. توفر منظمة شنغهاي للتعاون منتدى أمنيًّا واعدًا لمنطقة وسط أوراسيا، بينما لا يزال يتعين إنشاء هيكل مناسب للشرق الأوسط.
في المجال الاقتصادي، ستستمر إعادة تعديل أوزان التصويت في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبنوك التنمية، مما يقلِّل من تأثير القوى الغربية لصالح القوى الصاعدة، خاصةً في شرق آسيا. بالإضافة إلى ذلك ستواصل مراكز التجارة والاستثمار الإقليمية الثلاثة ذات الأهمية العالمية شرق آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية تعزيزها مؤسسيًّا. في غضون ذلك، تحتاج منظمة التجارة العالمية إلى إعادة تنشيط لمنع هذه المحاور من التكتل في كتل حمائية متنافسة.
بالنسبة للاستقرار الإستراتيجي، تحتاج الولايات المتحدة وروسيا إلى أخذ زمام المبادرة في تطوير مفهوم جديد يأخذ في الاعتبار الطابع متعدد الأقطاب للعالم النووي وتأثير التقنيات المتقدمة والناشئة على البيئة الإستراتيجية.
مع مرور الوقت، سيتعين إشراك القوى الأخرى، وفي مقدمتها الصين، في هذه العملية لمنع سباقات التسلح المُزَعْزِعة للاستقرار.
التحدي الأخير لا يتعلق بالهيكل المؤسسي بقدر ما يتعلق بالتوافق النظري. في عالم تسترشد فيه القوى الرائدة بأنظمة قيم مختلفة، فإن السؤال الرئيسي هو: كيف يمكننا أن نجعل عالمًا من التنوع آمنًا بشكلٍ محكم؟ سيتطلب ذلك من الصين وروسيا والولايات المتحدة، من بين دول أخرى التوفيق بين وجهات نظرها المتباينة للعالم لخلق رؤية مشتركة لنظام عالمي شرعي. لن يكون هذا سهلًا؛ لأن وجهات النظر العالمية تكمن في جوهر الهوية الوطنية والأهداف المتباينة. مع ذلك، فبدون بعض التوافقات، والتي ستنطوي على تنازلات بشأن ما تعتبره الدول الكبرى قيمًا ومبادئ أساسية، سيواجه العالم فوضى متنامية. لكن المهمة ليست مستحيلة.
لقد وجدت أوروبا وسيلة لإنهاء الحروب الدينية في القرن السابع عشر، وفعلت القوى العظمى الشيء نفسه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. نحن بحاجة لتكرار هذا العمل الفذ اليوم وبأقصى سرعة. [1]
الكاتب: توماس غراهام – كاتب أمريكي، زميل متميز في مجلس العلاقات الخارجية في مدينة نيويورك.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير