قد تكون العلاقات الروسية-السعودية، هي المثال الأبرز لمفهوم «مكر التاريخ»، الذي ابتكره الفيلسوف الألماني فريدريش هيغل؛ حيث يرى أن لهذا التاريخ عقلًا وإرادة خاصة به، تعمل بشكل مستقل عن رغبات الأفراد، وغالبًا ضد إرادتهم. هكذا يمكن أن نفهم المراحل المختلفة لهذه العلاقات التي كانت دومًا تسير عكس إرادة القائمين عليها.
العلاقات الروسية-السعودية، قديمة جدًّا، وبدأت قبل تأسيس المملكة العربية السعودية. مع تزايد عدد الحجاج المسلمين من الإمبراطورية الروسية الذين كانوا يشكلون أكثر من ربع السكان. افتتحت روسيا عام 1890 أول قنصلية لها في الحجاز، وكان مقرها مدينة جدة. بعد سقوط السلطة الإمبراطورية التقى وزير الخارجية السوفيتي غورغي تشيشيرين وممثل الخارجية الحجازية حبيب لطف الله، في مؤتمر لوزان نهاية العام 1922. ثم أوفد الاتحاد السوفيتي عام 1924، الدبلوماسي كريم خكيموف؛ ليكون أول قنصل عام سوفيتي بأراضي الحجاز، وكان يعاونه زميله مايسي أكسلرود.[1]
عندما اشتد الصراع بين الهاشميين والأسرة السعودية، وبناءً على تقرير استخباراتي أرسله مايسي أكسلرود إلى القيادة السوفيتية، خلص في نهايته إلى ضرورة فتح علاقات مباشرة مع السلطان عبدالعزيز آل سعود؛ لعدة أسباب كان من أهمها: “أنه الأكثر قوةً وذكاءً، وطموحًا وقدرةً، واستقلاليةً عن باقي أمراء وملوك المنطقة، والقادر على خلق دولة عربية موحدة كبرى تواجه القوى الاستعمارية الأوروبية”.
تكللت هذه العلاقة بإنجاز هام وكبير؛ حيث ذهب خكيموف يوم 15 فبراير (شباط) 1926. للقاء السلطان عبدالعزيز آل سعود، كما كان يسمى وقتذاك وسلمه مذكرة اعتراف رسمية من الاتحاد السوفيتي، بمملكة الحجاز ونجد وملحقاتها، ليكون الاتحاد السوفيتي أول بلد بالعالم كله يعترف بالدولة السعودية الجديدة.
في المقابل، كان الأمير فيصل، أول مسؤول عربي يزور الاتحاد السوفيتي، في زيارة استمرت لمدة عشرة أيام، بدأت في 20 يونيو (حزيران) 1932. قام بعدها الخبراء السوفيت، بتوصيل أول خط هاتف بالسعودية عام 1934، في الطائف، وأجرى الملك عبدالعزيز أول اتصال تليفوني في تاريخ المملكة مع السفير السوفيتي الجديد نذير تيورياكوف. كما أوفدت السعودية بعثة من موظفي البريد لروسيا عام 1935. للتدريب على تقنيات عمل البريد والتلغراف.
حظيت زيارة الأمير فيصل بتغطية إعلامية واسعة؛ حيث نشرت جريدة برافدا السوفيتية، وكذلك مجلة (أغانيوك – Огонёк). الروسية العريقة التي صدر عددها الأول عام 1898. مقالًا مطولًا عن الأسرة السعودية، والحركة الوحدوية لأراضي شبه الجزيرة العربية، التي قادها الملك عبدالعزيز آل سعود وتفاصيل زيارة الأمير فيصل.
يتدخل هنا «مكر التاريخ» عكس إرادة قيادات كلا البلدين، وتشن بريطانيا حربًا على هذه العلاقة استغلت فيها المصالح المتميزة مع التجار ذوي الأصول الهندية، لتعطيل أي تعاون تجاري، وصولًا للحرب العالمية الثانية، وانشغال السوفيت فيها، واللقاء التاريخي بين الملك عبدالعزيز آل سعود والرئيس الأمريكي روزفلت عام 1945، الذي أسس لعلاقات تحالف بين الرياض وواشنطن.
ظلت العلاقة مقطوعة بين موسكو والرياض حتى عادت عام 1991، ودفعت وقتها كل من السعودية والإمارات-حسب شهادة فيكتور غيراشينكو رئيس البنك السوفيتي السابق، مبلغًا قدره 4 مليارات دولار للاتحاد السوفيتي. نصف المبلغ نقدًا، والنصف الآخر معدات سيقومون بشرائها من الغرب بناءً على طلب السوفيت، لمحطات تكرير النفط؛ وذلك نظير التزام موقف حيادي تجاه عملية تحرير الكويت. في المقابل اشترطت السعودية أن توجَّه هذه الأموال للجمهوريات السوفيتية ذات الأغلبية المسلمة لتحسين أوضاع سكانها المعيشية؛ وهو ما التزمت به القيادة السوفيتية.[2]
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، كانت العلاقة باردة وتتسم بالشك والريبة من قبل الجانب الروسي، لوجود عدد من القادة العرب ذوي الأصول السعودية في الشيشان. حتى بدأت في التحسن التدريجي بعد وصول الرئيس بوتين للسلطة عام 2000.
تنظر القيادة الروسية وكذلك المجتمع السياسي الروسي، للعلاقات مع السعودية في ظل قيادة الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان. بشكل مختلف عن تلك النظرة التي كانت في الغالب سلبية. كما يعتقدون أنها تشهد ما يمكن وصفه بـ «الربيع» الذي يُعِيد إلى الذاكرة ما كانت عليه زمن الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود، ويقدرون دور ولي العهد، في الدفع بها نحو التطور، والشبه الكبير بين الحفيد والجد في الرغبة بتنويع علاقات المملكة.
إجمالًا تنظر القيادة الروسية للعلاقات مع التطورات الجديدة للسياسة السعودية، وفق المحددات التالية:
خالف كارل ماركس، أستاذه فريدريش هيغل، في رؤيته حول «مكر التاريخ» بأن هناك مجالًا لتجنبه وأنه ليس قدرًا محتومًا؛ حيث رأى أن البشر يؤثرون في حركة التاريخ وصناعته، بشرط وجود العوامل الاقتصادية والاجتماعية اللازمة لذلك، وهو ما يتوفر باللحظة الحالية، ويمكن عبره للقيادتين الروسية والسعودية، تجنب حدوث تراجع في العلاقات كما حدث في الماضي، ويعتمد هذا الأمر في المقام الأول، وفق العديد من الخبراء الروس على عدة عناصر أهمها:
عدم المبالغة في التوقعات بشأن أوجه التعاون، والتركيز على العناصر ذات الاهتمام المشترك دون تفرعها لتشمل مجالات عديدة قد لا تفضي إلى نتائج ذات قيمة، بدلًا من ذلك قد يكون التركيز على التعاون المشترك في مجالات لا توفرها الولايات المتحدة والحلفاء الغربيون للمملكة، ولا تشكل عامل تنافس هو البداية الأفضل، لخلق تراكم يؤدي لعلاقة راسخة قابلة للتطور. كذلك هناك من المشتركات بين كلا البلدين في سياساتهما المحافظة، ورفضهما لثقافة التثوير وإسقاط الأنظمة بحجة الثورات التي تفضي في النهاية لتفككها، والتنسيق بشأن أسواق الطاقة، ودعم سياسات التسامح الديني؛ حيث يدين أكثر من 20% من سكان روسيا بالإسلام، وللمملكة مكانة خاصة لديهم بحكم كونها قبلتهم ومركز المقدسات الإسلامية وتوثيق الشراكة الاقتصادية بمشروعات استراتيجية مشتركة، وتنظيف ما خلَّفه «الربيع العربي» من آثار كارثية على بعض بلدان المنطقة.[4] تمثل كل هذه العناصر مشتركات بين البلدين. كما قد يكون من المفيد لتعزيزها انفتاح سعودي أكبر على الشخصيات العامة والفكرية والسياسية الروسية، وعدم الاكتفاء بالعلاقات الحكومية. أخيراً احتفى الإعلام الروسي بتصريحات ولي العهد السعودي الأخيرة، وانفتاحه على الحوار مع إيران، ومخططاته الاقتصادية والتنموية الطموحة، ورؤيته للإصلاح الديني. إلا أن اللافت كان ضعف هذه التغطية لمجمل تصريحاته، وتركيزها على ما أوردته وسائل الإعلام الغربية بشأن العلاقات مع إدارة بايدن، دون الإشارة لتنوع علاقات المملكة مع عدة دول كبرى بما فيهم روسيا، ذلك لأن الإعلام الروسي يستمد في الغالب أخباره عن المملكة وقيادتها مما يطرحه الإعلام الغربي نتيجة حالة الفوضى التي أصابت البلاد بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، تراجع الاهتمام بصنع كوادر من المستعربين القادرين على فهم ومعرفة أوضاع المنطقة بشكل مباشر، والمتواجدون على الساحة الآن إما ضعيفي المستوى أو أفكارهم تجمدت عند حقبة الحرب الباردة وصراعتها.
ما ورد في التقرير يعبر عن آراء الباحثين ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير