مقالات المركز

ما بين المد والجذر

ثمانون عاماً على بدء العلاقات المصرية الروسية


  • 20 أغسطس 2023

شارك الموضوع

في السادس والعشرين من أغسطس (آب) تحتفل الأوساط السياسية في موسكو والقاهرة بمرور ثمانين عامًا على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الوريثين الشرعيين للمملكة المصرية واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، جمهورية مصر العربية والاتحاد الروسي، التي بدأت عام 1943.

لن أتطرق في هذا المقال إلى الحديث عن تاريخ العلاقات المصرية الروسية، وملابسات بدئها، ومراحلها المختلفة، والإنجازات التي تحققت، ولا أظن أن ذلك كله يخفى على أحد من المهتمين بهذا الملف؛ إذ سيجد من يريد التوسع عشرات، إن لم يكن مئات المقالات والكتب عن هذا الموضوع. أفضل أن أتحدث اليوم عن المستقبل، وحتى لو تطرقت إلى الماضي، فبنظرة نقدية لأجل خدمة المستقبل حصرًا.

علاقة الطرف الثالث

يمكن اختصار تاريخ العلاقة بين البلدين وكلمة السر خلفها في “الطرف الثالث”، عندما اقترحت المملكة المصرية إقامة علاقات دبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي، قبلها الأخير ورحب بها. لم يكن الهدف الرئيس العلاقة في ذاتها، بقدر رغبة كلا الطرفين في إرسال رسائل إلى الطرف الثالث. في ذلك الوقت أراد النظام الملكي المصري استخدام السوفيت لخلق توازن مع البريطانيين، تحديدًا بعدما خاب أمل الملك فاروق، الذي راهن على الألمان؛ ظنًا منه أن انتصارهم في الحرب “حتمي”، وهو ما سيؤدي إلى نيل مصر استقلالها. كذلك أرادت حكومة الوفد قطع الطريق على الأحزاب المناوئة لها، مثل الحزب الوطني المصري، وكذلك الشيوعيون الذين ابتهجوا للنصر السوفيتي بعد معركة ستالينغراد، ورأوا في السوفيت قوة عالمية جديدة سيكون لها شأن بعد نهاية الحرب، ما يمكنهم من الاعتماد عليها للوصول إلى السلطة، وإزاحة الوفد. على الجانب الآخر، كان الاتحاد السوفيتي يطمح إلى نيل أكبر قدر ممكن من الاعتراف الدولي، واستغلال وجوده في مصر ليشكل عبرها مركزًا لأنشطته في منطقة الشرق الأوسط ما بعد الحرب، والتبشير بالأفكار الشيوعية، في حين تدعم المصالح المشتركة تأسيس علاقة قوية بين البلدين كانت غائبة عنهما.

بعد ثورة 23 يوليو (تموز) 1952، بدت العلاقة مرتبكة ويسودها الشك المتبادل. كان الضباط الأحرار، وعلى رأسهم جمال عبد الناصر، يميلون إلى الجانب الأمريكي، ويعطونه الأفضلية في العلاقة والتحالف، وهو ما يمكن ملاحظته بوضوح في تقارير السفيرين اللذين عاصرا المرحلة الأولية لثورة يوليو (سيميون كوزيريف ودانييل سولود)، وهو ما أدى إلى اعتبار ستالين ما حدث في مصر انقلابًا عسكريًّا يهدف إلى إقامة حكم ديكتاتوري موالٍ للغرب.

شهدت العلاقة أول تقارب بعد صفقة الأسلحة التشيكية، التي طلبتها مصر بوساطة صينية بعدما رفضت الولايات المتحدة منحها الأسلحة المطلوبة، وتعززت بعد حرب السويس 1956. كان خوروشوف، ذو الهوى التروستكي، يؤمن بنظرية “الثورة العالمية”، خلافًا لنظرة “البلاشفة القوميين” التي تبناها ستالين، حيث تفضل إقامة الاشتراكية في بلدٍ واحد، ورهن دعم أي دولة باتباعها النهج السوفيتي، كما أنه أراد أيضًا تعويض خسارة العلاقة مع الصين بعد خطابه الشهير عن “عبادة الشخصية وتبعاتها”، في الخامس والعشرين من فبراير (شباط) 1956، الذي أدان فيه النظام الستاليني، ورغم سرية الخطاب فإنه سرعان ما تسرب ما ورد فيه حول العالم، وهو ما أغضب الزعيم الصيني ماو تسي تونغ.

في عام 1962، حدث تقارب غير مسبوق بين مصر والولايات المتحدة، في ظل حالة من البرودة في العلاقات مع موسكو، ودعم الأخيرة لانفصال سوريا، وتأييدها عبد الكريم قاسم في العراق وحلفائه الشيوعيين، وصولًا إلى تفاهم مصري أمريكي على التصدي المشترك للشيوعية، وإنهاء الخلاف مع السعودية بشأن اليمن؛ من خلال الاعتراف الأمريكي بالنظام الجديد، وانسحاب الجيش المصري، ولولا الاغتيال المفاجئ لجون كينيدي، لربما تغير مجرى التاريخ.

تراجعت العلاقات المصرية الروسية- إلى حد كبير- بعد إقالة خروشوف، ومجيء قيادة جديدة، وصولًا إلى الهزيمة في حرب الخامس من يونيو (حزيران) 1967، وطرد الخبراء الروس من مصر في عهد الرئيس السادات عام 1972، واتجاه مصر- بشكل كامل- نحو المحور الغربي بقيادة الولايات المتحدة، ودخول موسكو والقاهرة في مواجهات بالوكالة في الشرق الأوسط وإفريقيا.

عادت العلاقات المصرية الروسية بشكل فاتر في عهد الرئيس الأسبق مبارك، وبدأت بالتطور من جديد مع تولي الرئيس بوتين، وزيارة مبارك موسكو عام 2001، ورد بوتين بزيارة القاهرة عام 2005، وبعدها شهد التعاون بين البلدين قفزة كبيرة تعود- إلى حد كبير- إلى الخلافات التي شابت العلاقات المصرية- الأمريكية، مقابل رغبة موسكو في إرسال رسالة إلى الغرب بأنها عادت من جديد.

بعد السرد السريع لهذا التاريخ، يتضح أننا أمام علاقة سعى طرفاها إلى إرسال رسائل إلى طرف ما ثالث، دون جدية أو رؤية واضحة لإقامة علاقة شراكة طويلة الأمد، قائمة على المصالح المشتركة.

بوتين- السيسي بداية جديدة.. ولكن!

خلال كل هذه العقود من العلاقات المصرية الروسية، لم يشهد التعاون بين القاهرة وموسكو مرحلة من النمو المطرد على جميع المستويات كما شهدتها بعد تولي الرئيس السيسي الرئاسة عام 2014. وبالنظر إلى حجم التعاون المشترك، نجد أنه قد تفوق في بعض المجالات الحساسة الشديدة الأهمية على ما كان عليه في فترة ازدهارها زمن الرئيس جمال عبد الناصر، رغم التشكيك في دوافع الرئيس السيسي، بادعاء أن الانفتاح على موسكو ما هو إلا رسالة تحذيرية لواشنطن التي اتخذت موقفًا يبدو منحازًا إلى صالح الإخوان بعد ثورة الثلاثين من يونيو (حزيران) 2013، ورغبة بوتين في استغلال الحاجة المصرية للضغط على أمريكا.. بالرغم من ذلك كله، أكدت الوقائع جدية كلا الطرفين في سعيهما إلى إقامة شراكة إستراتيجية حقيقية، ربما لأول مرة منذ بدء العلاقات الدبلوماسية بين موسكو والقاهرة.

في السياق نفسه، تخطى السيسي العراقيل والمحاذير الغربية بخصوص الحلم النووي الذي ظل يراود المصريين منذ ستينيات القرن الماضي، ووقع عقد إقامة محطة الضبعة النووية مع شركة روس آتوم الروسية، التي تنوي بدء تشغيلها عام 2024، كما كسر الرئيس المصري القاعدة التي ترسخت منذ عام 1979 بالاكتفاء بالسلاح الغربي، حيث تم تغييرها من خلال عدد من الصفقات العسكرية لأسلحة متطورة وفعالة، فضلًا عن  عدد كبير من الاتفاقيات والمشروعات المشتركة، منها على سبيل المثال لا الحصر، المنطقة الصناعية الروسية في السويس، والتصنيع المشترك للأقمار الصناعية، كما قام السيسي- بشهادة بوتين- بدور في إنجاح عقد أول قمة روسية إفريقية عام 2019، بالإضافة إلى رفض القاهرة تقديم أسلحة إلى أوكرانيا رغم الضغوط الاقتصادية والسياسية الغربية التي تمارس عليها، وهو ما كشفته صحيفة “وول ستريت جورنال”.

لكن، على الرغم من كل هذه النجاحات، ثمة ثغرة ما زالت موجودة؛ كون هذا التطور نبع من رؤية الرئيس السيسي، وعزم الرئيس بوتين فقط.. ربما ما بناه السيسي- بوتين يختلف عما قدمه القادة السابقون للبلدين، من منظور أنه سيخلق علاقة طويلة الأمد، يلتزم بها القادة اللاحقون، بيد أن ذلك لا يشكل ضمانة لتطويرها بما يتناسب مع تاريخها، وأهميتها.

الخاتمة

بعد مرور ثمانية عقود على هذه العلاقة، وما أكدته الأحداث من حاجة موسكو إلى القاهرة والعكس، وعدم قدرة كلا الطرفين، رغم كل ما قيل من نظريات في روسيا ومصر عن التوجه غربًا، وعدم جدوى التعاون على المحور الشرقي، فإن الواقع قد أثبت فساد تلك النظريات، وفي المرحلة الراهنة التي يشهد فيها العالم تحولات ملموسة ستفضي إلى تشكيل نظام عالمي جديد قد يستمر نصف قرن أو أكثر، هناك حاجة إلى تنمية تلك العلاقة على المستوى المدني، وخلق روابط شعبية تحافظ عليها وتحفظها من تقلبات السياسة، وهذا الأمر تحديدًا كان أحد أهم الأسباب التي دفعتني- بشكل شخصي- عام 2021، إلى تأسيس “مركز الدراسات العربية الأوراسية” بمجهودات ذاتية، رغم كل الصعوبات التي رافقت عملية التأسيس، والنضال لأجل الاستمرارية.

من الواضح- في الوقت الراهن- وجود بنية تحتية شعبية، تؤهل العلاقات المصرية الروسية للانتقال من المستوى الحكومي الرسمي إلى المستوى الشعبي، من خلال عدد كبير من الزيجات المشتركة، التي تثمر جيلًا مصريًّا- روسيًّا، يتمسك بثقافتي البلدين، فضلًا عن أَنْتِلِيجِنْسْيَا مصرية تلقت تعليمها في روسيا، وتعرف تاريخها وثقافتها ولغتها جيدًا، فيما يتوقع أن تشهد السنوات القادمة تنامي عدد الطلبة المصريين الذي يتلقون تعليمهم الجامعي في المعاهد والجامعات الروسية.

غير أن ذلك بحاجة إلى الدعم، ليس فقط من جانب حكومتي البلدين؛ بل أيضًا من المؤسسات الإعلامية، والمراكز البحثية؛ من خلال مشروعات تعاون غير تقليدية؛ لتبادل الخبرات والرؤى، وإرساء جسور حوار دائم بشأن القضايا التي تمثل تحديات، تواجه كلاً من القاهرة وموسكو، في ظل معادلات دولية معقدة، تصبغ عالمنا المضطرب.

ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير


شارك الموضوع