منذ نهاية الحرب الباردة، وصدمة تفكك الاتحاد السوفيتي، تعددت الأفكار والأيديولوجيات بشأن شكل النظام العالمي الجديد، في ظل نشوة الانتصار الأمريكي، والترويج لعصر “الأحادية القطبية”، ومفاهيم مثل “نهاية التاريخ”، وحتمية اتباع العالم بأسره للأممية الليبرالية الأمريكية، وقيمها الديمقراطية التمثيلية، والسوق الحرة، والعولمة. لمدة عقد من الزمان (1991-2001)، عاش العالم في أحادية قطبية، وحالة من فقدان التوازن لم يشهدها من قبل، حتى جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة من الحروب الأمريكية التي يصفها الكثيرون بالفاشلة، وبزوغ قوى عالمية وإقليمية جديدة، ونهوض قوى أخرى قديمة خُيل للكثيرين أنها قد انتهت ولن تقوم لها قائمة، والحديث هنا يدور بالتحديد عن روسيا. في هذه الأثناء ظهرت أفكار كثيرة ومختلفة عن الشكل الذي ينبغي للعالم أن يكون عليه، ومن بينها «الأوراسية»، التي باتت اليوم حديث الشرق والغرب.
ثمة فارق كبير بين الأوراسية بمفهومها الجغرافي، التي تعني قارتي (آسيا وأوروبا)، أو كما يطلق عليها البعض الآخر «محور لشبونة فلاديفوستوك» من أقصى الغرب على ساحل المحيط الأطلسي إلى أقصى الشرق على المحيط الهادي، وما بينهما. أما «الأوراسية السياسية»، وهي ما تهمنا. فهي مصطلح روسي بامتياز، ظهر بشكله الأولي عبر حركة المثقفين “البيض” في المنفى، من المناهضين للحكم البلشفي، لإعادة بعث «الإمبراطورية الروسية» في شكل حداثي مقابل الاتحاد السوفيتي وأيديولوجيته الاشتراكية وعادت إلى الظهور من جديد بعد تفكك الأخير، بديلا له؛ لسد الفراغ في المنطقة الممتدة من (شرق الصين إلى أوروبا الشرقية وبعض أجزائها الوسطى وحدود الشرق الأوسط) عبر تقسيمها إلى ثلاثة مجالات مختلفة؛ الأول: اتحاد تكاملي على غرار الاتحاد الأوروبي، يشمل الاتحاد الروسي، وبلدان آسيا الوسطى، وجنوب القوقاز، وبيلاروس، وأوكرانيا والمجال الثاني: حليف ذو علاقات وثيقة مميزة مع هذا الاتحاد الافتراضي، وإن لم يكن عضوًا فيه، على غرار بلدان أوروبا الشرقية الاشتراكية في حلف وارسو، أما المجال الثالث فهو أشبه بحزام أمان، ومساحة مشتركة للتعاون.
بعد عملية معقدة وطويلة بدأت منذ عام 1994، ظهر إلى الوجود الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU)، الذي يقع مقره في موسكو، بعد توقيع اتفاقيته في الأول من يناير (كانون الثاني) 2015، ويضم الآن في عضويته (الاتحاد الروسي، وبيلاروس، وكازاخستان، و أرمينيا، وقيرغيزستان)، والمجال مفتوح لباقي بلدان الاتحاد السوفيتي سابقًا وبلدان أوراسيا للانضمام إليه. على سبيل المثال، طلبت إيران الحصول على العضوية الكاملة، وهناك مفاوضات جادة لتوقيع اتفاقيات تجارة حرة مع عدة بلدان في العالم والمنطقة منها مصر وإسرائيل.
يدور الحديث هنا عن إعادة بعث الاتحاد السوفيتي في شكل وإطار عمل جديد في منطقة مساحتها تتعدى الـ 22 مليون كيلو متر مربع، وعدد سكانها يفوق الـ 400 مليون، تحتوي على أكبر احتياطيات الغاز والنفط والثروات التعدينية، وأكبر احتياطي للمياه العذبة، ومركز رئيسي للتعددية الإثنية والدينية. يحيط بها الهند، وباكستان، والصين، وتركيا، وإيران وأفغانستان، والعالم العربي؛ ولذلك لم يكن غريبًا أن يطلق عليها مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زبغنيو بريجينسكي، في كتابه الشهير «رقعة الشطرنج الكبرى»، “قلب العالم”، و”مركز القوة العالمية الجديد”، وهو ما يفسر الدعم الأمريكي الكبير لبلدان قد تبدو بحجمها ومواردها هامشية، مثل بلدان البلطيق، وجورجيا، وأوكرانيا، لخلق إزعاج دائم يكبح تقدم روسيا فيما تراه الأخيرة مجالها الحيوي، أو بلدان “الجوار القريب”، إلى جانب التقارب المخيف للغرب بين موسكو وبكين، ودعمهما لقوى إقليمية طامحة وطامعة مثل تركيا وإيران، لتثبيت قواعد عمل جديدة لنظام عالمي متعدد الأقطاب.
تحدث كل هذه التطورات بالقرب من عالمنا العربي، مع ما يجري الآن في أفغانستان من تطورات بعد الانسحاب الأمريكي غير المشروط، وتقليص وجود واشنطن في المنطقة والتقدم الاقتصادي الصيني المذهل والجيوسياسي الروسي الذي لم يعد بالإمكان تجاهله، وكلها أمور تنعكس على أوضاعنا العربية؛ ولذلك كانت مبادرتنا بافتتاح «مركز الدراسات العربية الأوراسية»، واختيار أفضل الباحثين المختصين من العرب والأوراسيين لدراسة ما يحدث من تفاعلات في هذه المنطقة المهمة من العالم وارتدادها علينا، في ظل نظام جديد يتشكل للتعددية القطبية، وبروز للقوى الإقليمية.
وسط الاشتباك الحالي في المناطق الإقليمية حول العالم، وسعي كل القوى إلى تثبيت مكانتها ونفوذها، لضمان حصة لها في النظام العالمي الجديد قيد التشكل، وبالنظر إلى القدرات والإمكانات التي تتمتع بها المنطقة الأوراسية بمفهومها السياسي المشار إليه، وقربها الجغرافي من العالم العربي، وارتباطها بأنقرة وطهران، الراغبتين في مد نفوذهما في المنطقة على حساب العالم العربي، والأخطار الأمنية الجديدة بعد سيطرة طالبان على كابول، تبرز أهمية أوراسيا على المستويات الاقتصادية، والجيوسياسية، والأمنية.
اقتصاديًّا: تسعى روسيا إلى تطوير الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU)، وتتفاوض مع بكين لخلق تكامل مع مشروعها الواعد مبادرة الحزام والطريق (BRI)، في ظل مشاركة تركيا الفاعلة في كلا المشروعين، وتوقيع طهران وبكين على ما تسمى “اتفاقية الـ 25 عاما الإيرانية- الصينية” التي يكتنفها كثير من الغموض، في حين أن للسعودية والإمارات ومصر، في المقابل، مشاركة مهمة في المشروع الصيني، قد تتعزز بالمشاركة في المشروع الاقتصادي الروسي. هناك حاجة إلى وحدة التوجه الإستراتيجي الاقتصادي بين ما نحب أن نسميه «تحالف القادرين»، مصر بموقعها الإستراتيجي المهم المفتوح على أوروبا وإفريقيا، وسوقها الاستهلاكية الكبيرة نتيجة عدد سكانها، والسعودية في ظل رؤية (2030) الطموحة، وكونها أكبر منتج للنفط، والإمارات بتطورها الاقتصادي التقني، وبيئة الاستثمار الآمنة والعصرية، فهي قادرة- مجتمعةً- على ترجيح كفة العلاقات الاقتصادية مع موسكو وبكين، مع ما يتبع ذلك من توثيق للعلاقات معهما، واعتبار أمن المنطقة واستقرارها جزءًا لا يتجزأ من مصالح كلتا القوتين الكبيرتين، إلى جانب التحالف التقليدي مع الولايات المتحدة وأوروبا. كما أن هذه المنطقة الواسعة تعد فرصة استثمارية واقتصادية وسوقًا كبيرة للمنتجات العربية لخلق ثقل مؤثر.
جيوسياسيًّا: تمثل المنطقة الأوراسية أهمية خاصة لموسكو؛ لأنها “جوارها القريب”، ولبكين؛ لمرور طريق الحرير منها إلى أوروبا، وكذلك للتحالف الغربي “بروكسل وواشنطن” وتسعى طهران وأنقرة إلى تسويق نفسيهما بأنها صاحبتا نفوذ كبير فيها، وذلك عبر التأثيرات الدينية والثقافية والقومية لتركيا، مع توسعها في الاستثمار، وإيران عبر الجوانب الثقافية والمذهبية لتأمين نفسيهما من أي أخطار قد تزعجهما، ولامتلاك ورقة ضغط على بكين وموسكو في قدرتهما على تحريك الأوضاع في هذه البلدان، وهو ما يفسر الحرص الروسي على العلاقات مع تركيا رغم الخلافات معها في عدة ملفات، وتعامي موسكو عن سياسات إيران العدوانية في المنطقة، في حين أن الوجود العربي يمكنه أن يخلق قاعدة أمامية لمواجهة طموحات تركيا وإيران، عبر إمكانية التحرك ضدهما في مناطق نفوذهما وأمنهما القومي، ويتوقع أن يكون موضع ترحيب من بكين وموسكو؛ لعدم وجود حدود، أو عامل قومي مشترك مع شعوب المنطقة، ودعم القاهرة والرياض وأبوظبي لقوى الاستقرار، وتبني البلدان الثلاثة لرؤية إسلامية تقليدية معتدلة غير مسيسة في المقابل، فإن الفراغ العربي يمنح تركيا وإيران نفوذًا على الصين وروسيا، وهامش مناورة تلوحان به للقوى الغربية بقدرتهما على إزعاج خصميهما الروسي والصيني، مقابل الحصول على دعم في عدد من الملفات، وتمارس تركيا هذه اللعبة السياسية الأكروباتية كما شُوهدت في أذربيجان، وعبر علاقتها المتطورة مع جورجيا وأوكرانيا، حليفتي الغرب المقربتين في المنطقة.
أمنيًّا: تنشط في المنطقة الأوراسية عدة حركات إسلاموية مسلحة، وقد شعرت بالانتشاء بعد سيطرة حركة طالبان على كابول، وترى فيها نموذجًا ملهمًا يتوقع معه أن تزيد من نشاطها، مستغلة الزخم الحالي، والإلهام عبر ما يسمى “النصر” الطالباني على أمريكا. تخشى بلدان آسيا الوسطى، وجنوب القوقاز، وروسيا، والصين من التأثيرات “العثمانية الجديدة” لتركيا، ودعمها لجماعة الإخوان المحظورة في روسيا، وكذلك المسلحون الأويغور في شمال غرب الصين، والتدخلات الإيرانية عبر نشر أفكار مذهبية لدوافع سياسية يعقبها شقاق مجتمعي، وتشكيل ميليشيات مسلحة، وقد تتحول المنطقة إلى مركز جديد للحركات الإسلاموية المتطرفة، مما يشجعها في العالم العربي على النهوض من جديد. وتشكل البلدان العربية الثلاثة (مصر، والسعودية، والإمارات) مركزًا للدعوة إلى السلام والنماء والاستقرار، ووجودها في هذه المنطقة ودعمها لبدان تلك المنطقة، هو تدارك لخطر متوقع، ومحاصرته في مهده، ويشكل رؤية بديلة مقابل قوى التثوير والفوضى، وهو ما يعتقد أنه سيلقى قبولا من الصين وروسيا، وكذلك الهند، وأوروبا والولايات المتحدة.
من المهم أيضًا التنبه للتطورات الجديدة للوجود الصيني في الخليج، وتطور العلاقات العسكرية بين بكين وموسكو، ومشاركتهما الفعالة في التحالف الأمني الأوراسي المسمى منظمة شانغهاي للتعاون (SCO)، التي يطمح كلا الطرفين إلى تحويلها إلى حلف عسكري على غرار “حلف وارسو” السابق، وقد أعلن السفير الروسي لدى طهران، ليفان دغاغريان، أن روسيا وإيران والصين ستجري مناورات بحرية مشتركة في منطقة الخليج أواخر عام 2021 – أوائل عام 2022. يمكن للوجود العسكري الروسي والصيني أن يؤدي إلى خلق استقرار أو زعزعة له؛ وعليه فربط كلا البلدين بمصالح أكبر قد يحقق ضمانات أمنية إضافية لبلدان الخليج العربية.
تمثل المنطقة الأوراسية سوقًا بكرًا للاستثمار العربي بحاجة إلى إعادة بناء شامل، وتمتلك موارد طبيعية كبرى يمكن أن تمثل فرصة استثمارية عربية فريدة من نوعها، مع قربها من العالم العربي، وانفتاحها على عدة مجالات جغرافية. كما أن خلق تشبيك للمصالح في المنطقة له، إلى جانب الفوائد الاقتصادية، فوائد جيوسياسية وأمنية عدة.
تتمتع أوراسيا، بمفهومها السياسي، بأهمية خاصة لدى القوى الرائدة في العالم (الصين، وروسيا، وأوروبا، والولايات المتحدة)، والقوى الإقليمية الناهضة (الهند، وباكستان) والقوى الطامعة (تركيا، وإيران)، وهنا يأتي دور السياسة الهجينة التي تمنح هامشًا عريضًا من المناورة لتقديم فوائد للأصدقاء، أو ردع للخصوم.
أوراسيا، بحكم الجغرافيا وعوامل ثقافية ودينية، تمثل تهديدًا أمنيًّا تزداد خطورته مع ما يحدث الآن في أفغانستان، التي يتوقع أن تنزلق فيها الأمور نحو الفوضى، وما سيتبع ذلك من تأثير في الهند، وباكستان، وبلدان آسيا الوسطى، وبشكل ربما أقل في الصين، وروسيا، وارتدادات ذلك وفق التجربة التاريخية على المنطقة، ومن الأهمية بمكان رصد هذه الأخطار عن قرب، وتقديم المساعدة للقوى المعتدلة لمواجهتها قبل توسعها، أو استخدام الخصوم لها.
تسعى القاهرة والرياض وأبوظبي إلى تحرير الإسلام من سيطرة التيارات الإسلاموية، والسياسات الأيديولوجية التي تستخدمها أنظمة سياسية لخدمة أجنداتها الجيوسياسية لأجل مزيد من التوسع والنفوذ. الوجود النشط للأزهر الشريف في هذه المنطقة التي يمثل فيها المسلمون أغلبية في كثير من بلدانها، وأقلية مؤثرة في بعضها الآخر، مع انتماء معظم سكانها بالأصول إلى المدرستين المَاتُريدِيَّة والأشعرية، اللتين تمثلان الخط الأساسي للاعتقاد في الأزهر، ومكانة السعودية الدينية الكبرى التي لا ينازعها فيها أحد وسياسات التسامح والتعايش والسلام بين الأديان والمذاهب والأعراق التي تتبناها الإمارات، تمنح هذه المزايا للثلاثي العربي عوامل التفوق على المنافسين، والأرجح أن تلقى قبولاً كبيرًا من أنظمة بلدان المنطقة وشعوبها.
تؤثر الأحداث في أوراسيا، في بلدان مهمة وحليفة، مثل الهند، وباكستان، وللغرب مصلحة في استقرار المنطقة، وتنمية بعض بلدانها ودعمها، مثل جورجيا، وأوكرانيا وأذربيجان وبلدان البلطيق؛ وهو ما يمنح محور الاستقرار العربي مساحة عريضة لتبني سياسات هجينة، والقيام بمقايضات سياسية تراعي التوازنات مع القوى الكبرى والإقليمية المؤثرة بما يعود بالنفع على شعوب هذه المنطقة، والعالم العربي، وأمنه واستقراره، وهو أمر آخر يزيد من أهمية الوجود العربي النشط والفعال في أوراسيا.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الباحث ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير