تشهد الصيرورة التاريخية للبشرية اليوم علامات فارقة. إن عملية انهيار العالم القديم التي أطلقها تفكك الاتحاد السوفيتي منذ ثلاثين عامًا قد أوشكت على الانتهاء، وأصبحنا الآن في مرحلة مفصلية ننتظر فيها تغيرات كبرى تطول جميع الأصعدة، السياسية، والاجتماعية، والثقافية، والدينية، والفكرية. وعلى إيقاعات هذه التحولات تتشكل أنماط التفكير لدى الإنسان التي تنمو أو تتراجع آلياتها وهي تستوعب الواقع في محاولة لامتلاك الحقيقة. أما الحقيقة فهي مفهوم شديد النسبية، وكثير الخضوع للتغيرات مع تبدلات التاريخ وتقلباته، فالتاريخ هو صيرورة أبدية يمكن مقارنتها بدوامة ردود الفعل النفسية التي يتسع معها وعي الإنسان لقبول المفاهيم، أو تضيق قدرته على امتصاصها. كذلك بعض المعتقدات التي يبنى عليها الإنسان واقعه وحقيقته قد تختفي لبعض الوقت، ثم تنهض من جديد بحثًا عن تعبير آخر لها.
لقد دفعت الموجة الحديثة من الصيرورة التاريخية روسيا إلى المسرح العالمي بقوة لتحاول إبراز نفسها من جديد. ولكن أحد التحديات التي تواجهها روسيا اليوم هو بقاء بعض المفاهيم والتصورات عنها، ومنها الشائعة في العالم العربي، التي صنعتها الأنماط السابقة لاستيعاب واقع سوفيتي انقضى. لا نريد القول إن الوعي الجمعي العربي يتعامل مع روسيا على أساس تصورات خاطئة، بالعكس فإن هذه الدولة العظمى– الاتحاد السوفيتي- بتاريخها وأدبها وثقافتها كانت موضعًا لكثير من التأمل والتمعن، فضلاً عن سياساتها وأيديولوجيتها، فهي ليست كيانًا غريًبا؛ بل جرّبتها جيدًا الطبقة السياسية والنخب الفكرية في البلدان العربية. ولكن من جانب آخر، بعد أن استحوذت روسيا في الفترة الحديثة على نصيب كبير من الاهتمام بسبب عودتها قطبًا سياسيًّا مؤثرًا في الساحة الدولية، يلاحظ أن معظم تجليّات هذه العودة القوية برزت في شقها السياسي، في حين لم يكن الاتحاد السوفيتي يمارس نفوذه العالمي في السياسة فحسب؛ وإنما كان حضوره الفكري والثقافي والأدبي أيضا قويًّا، وإن جاء أحيانًا بغلاف أيديولوجي. والجميل بالمناسبة، أن الناس في العالم العربي لم ينصرفوا يومًا عن الاهتمام بالأدب الروسي، والتوغل في قراءاته الفلسفية.
لكننا في الوقت نفسه نميل إلى الاعتقاد بأن كثيرًا ممن كتبوا عن روسيا ومجتمعها وفكرها وفلسفتها لا يمكن لهم الادعاء بأنه امتلكوا الرؤية الكاملة لحقيقة الإنسان الروسي وإن جاءت كتاباتهم ثمرةً للتجارب العملية العميقة التي راكمتها سابقًا الاتصالات الثقافية بين روسيا والعالم العربي. والقارئ العربي وإن اطلع اطلاعًا واسعًا على أعمال عمالقة الأدب الروسي، فإن هذه المعرفة تقتصر عادة على عدد غير كبير من الأسماء، تاركة أسماء مهمة أخرى خارج نطاق الاهتمام والدراسة. وهكذا فإنه لا يزال كثير من الاجتهادات الفكرية التي تحاول تفسير عقلية الإنسان الروسي وبنيته، بصورة متعمقة، محجوبًا عن القارئ العربي، وإن كان مطلعًا جيدًا على كيفية شرح الأديب الروسي العظيم فيودور دوستويفكسي أبعاد النفس البشرية بفضل ترجمات أعماله الخالدة إلى اللغة العربية. والأمر اللافت أن “اللغز الروسي” كان يثير فضولًا كبيرًا لدى المفكرين والفلاسفة الروس منذ ما يقارب من مئتي عام، فاجتهادات بعضهم هي مادة سنتطرق إليها اليوم أيضًا.
وفي محاولة لتقريب الصورة، دعونا ننظر إلى الأمور من خلال مقاربة مختلفة مفاهيميًّا، وهي مقاربة تتعامل مع المفاهيم الشاملة والأساسية التي تشكل النمط العريق (Archetype) الخاص بالمجتمع، ويتصدرها مفهوم الرسالة أو الغائية. إن فكرة الرسالة لدى المجتمع الروسي قد أزاحتها تمامًا حقبة ما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي عندما أرادت نخبة “الديمقراطيين الجدد” في روسيا، وهي تركض وراء أوهام الديمقراطية، أن تزجّ بالتاريخ الروسي وعمقه الفكري إلى غياهب النسيان، والالتحاق “بالأمم المتحضرة” سعيًا إلى “المستقبل الديمقراطي المشرق”. وسيكون من الموضوعية تمامًا أن نشير إلى أن الشيوعية بنسختها السوفيتية المتأخرة قد تحولت إلى مضغة أيديولوجية في أفواه الناس بسبب بعدها عن الواقع المعيش، وضعفها التطبيقي، وتآكها الفكري؛ لأن أولويات المجتمع في عهد ميخائيل غورباتشوف اختزلت في “الانضمام إلى البيت الأوروبي المشترك”، ثم أصبحت الأيديولوجية في عهد يلتسين– أي أيديولوجية- محظورة في روسيا دستوريًّا وسط السعي المرضي للدوران في الفلك الأمريكي، إلى أن جاء عهد بوتين.
بيد أن القيم الروحانية الأساسية كسمات عضوية لمجتمع ينبض تاريخيًّا بالنشاط الروحاني، لا يمكن أن تموت مهما كانت الظروف السياسية أو الأيديولوجية؛ فهي عابرة للزمان والمكان، خاصة أننا نتحدث عن دولة ورثت الأرثوذكسية المسكونية عن إمبراطورية روما الشرقية (القسطنطينية) بعد سقوطها على يد العثمانيين إلى درجة أنه تبلورت في إمارة موسكو القروسطية رؤية روحانية ميتافيزيقية تصف موسكو بأنها “روما الثالثة” كما صاغها الراهب الروسي فيلوفي بسكوفسكي، في القرن السادس، وهو يعيش في مدينة بسكوف العريقة شمالي روسيا.
وإذا افترضنا أن الشعب الروسي يحمل شيئًا مهمًّا للعالم، فمن الصعب فهم طبيعة رسالته الروحانية بدون التوقف عند هوية حامل تلك الرسالة. فما هوية الإنسان الروسي وطبيعته الروحانية؟ إنه لأمر لافت أن معظم المفكرين الروس الكبار وهم يتأملون هذه المسألة قد اكتشفوا أن طابع الإنسان الروسي يحتوي على قدر كبير من التناقض الذي يجمع كثيرًا من الأضداد النفسية.
ولكن قبل التعريج على هذه التناقضات سيكون أيضًا من المهم القول هنا إن “اللامنطقية”، كأحد مكونات العقلية الروسية، تشكل نقطة الاختلاف الرئيسي مع هوية الإنسان الغربي ومحدداتها العميقة الأساسية. ولتوضيح أوجه الاختلاف أو التباعد بين الروسي والغربي– فلا ضير من القياس– حسبنا أن ننظر إلى كيفية معالجة الفكر الروسي “للمشروع الألماني الروحي”؛ لأن ألمانيا موطن لأهم الفلاسفة والمفكرين الذين تأثر بهم المتكلمون الروس كثيرًا في أواسط القرن التاسع عشر. وأكثر مَن ترك بصماته الواضحة على الساحة الفكرية الروسية وقتئذ كان غيورغ غيغيل Georg Hegel، أحد أهم أقطاب الفلسفة الألمانية الكلاسيكية التي أسست أصلا للتراث الفكري الفلسفي الغربي المعاصر ويعد المشروع الروحي الألماني نقيضًا لنظيره الروسي بحيث إن الغاية العليا في الأول تكمن في امتلاك السيطرة والغلبة والجاه، أما الثاني فيتطلع إلى “التشاركية أو “التضامنية” والأخوة بين شعوب العالم، وذلك حسب المفكر الروسي إيفان أكساكوف Ivan Aksakov زعيم حركة السلافوفيليا، أي النزعة السلافية في روسيا في القرن التاسع عشر.
ويضيف أكساكوف: “في الغرب تقتل الروح ويُستبدل بها أشكال تطوير للدولة، وهذه الدولة هي شرطوية بالضرورة”. إنهم (أي الألمان) يستبدلون القانون بالضمير، ويستبدلون النظام بالاندفاعات الروحانية في عمق النفس الإنسانية، ويتحول العمل الخيري لديهم إلى عملية ميكانيكية. أما الدولة الروسية فتقوم على “الطوعية والحرية والسلام”، ورغم بعض المثالية التي يمكن أن يلمسها المرء في هذا الوصف، فإن قولاً آخر ربما يساعد قليلا على الإمساك بمكامن الهوية الروسية؛ وهو أن “الإنسان الروسي شخصية موهوبة لكنه لا يجيد الشكل بقدر ما يجيد الجوهر”، وفق تعبير لأحد أباطرة الفكر الروسي الفلسفي الديني في القرن العشرين نيقولاي بيرديايف، الذي سنركز هنا على أفكاره قليلا ويقصد هذا القلم الفلسفي الروسي الكبير أن الإنسان الروسي قد لا يجيد التعبير تعبيرًا واضحًا عن عمقه الروحاني والإنساني، ولكنه يجيد ممارسته.
ولا تفوتنا الإشارة إلى أن القيم الأسمى الأهم بالنسبة إلى القلب والعقل الروسيين تاريخيًّا تدور حول نزعتين شديدتين، هما الدينية والإيمانية، إلى درجة أنه يمكن أن نلحظ بعض تجلياتهما على نطاق متزايد في روسيا المعاصرة، وهنا وجه آخر لتمايز الروح الروسية عن بنية الإنسان الغربي الذي تتزايد لا دينيته اليوم بأشكال متسارعة مرعبة.
والمثير أن أحد أغرب المفكرين الدينيين الروس في عهد قيصرها نيقولاي، بداية القرن التاسع عشر فلاديمير بيتشيرين، بعد أن يئس من ظروف القمع والاستبداد في بلاد القياصرة، لم يغادرها فحسب؛ بل ترهبن بعدما تحول إلى الكاثوليكية في أوروبا بحثًا عن “حرية الفكر الغائبة في وطنه”، وكتب رسالة نبوءة عجيبة إلى المفكر والكاتب الروسي ألكسندر هيرتسين، أشهر دعاة الإصلاحات البورجوازية والديمقراطية في روسيا، تنبأ فيها بقدوم “حضارة مادية تصبح كالطاغي على الروح الإنسانية، لا مجال للهروب منها”. ومع أن هذه الكلمات قيلت منذ أكثر من قرن ونصف القرن، فإننا نلاحظ اليوم كيف انهار المركز الروحاني للإنسان المعاصر ليدور حول الماديات الطاغية فعلًا، وحسبنا أن نتذكر كيف احتل جهاز الهاتف النقال، وغيره من الأجهزة العصرية، المكانة شبه الدينية لدى الجيل الجديد من الشباب، فباتت رغبة تغييرها إلى أخرى جديدة جنونًا أشبه ما يكون بطقوس خاصة بعبادة جديدة غريبة!
وعودة إلى التناقضية التي تُميِّز بنية العقلية الروسية، فوصفها المفكر نيقولاي بيرديايف في أربعينيات القرن الماضي بالكلمات التالية: “يجب علينا أن نفهم أن طبيعة الإنسان الروسي هي طبيعة منقسمة؛ فهو من جانب، خشوع ومتبرئ وجاهز للتضحيات، ومن جانب آخر عاصٍ وثائر من أجل العدالة. إنه متعاطف مشفق وقاسٍ في آن.. يتطلع إلى الحرية ويميل إلى العبودية. إن الروس لديهم شعور مختلف تجاه الأرض، فأرضهم مختلفة عن تلك التي في الغرب. إن ميتافيزيقية الدم والعرق غريبة عليهم جدًّا، ولكنهم قريبون من ميتافيزيقية الأرض”. وقال بردياييف أيضًا إن “الفكرة الأزلية لدى الشعب الروسي أنه لا يشغله عمران هذه المدينة على هذه الأرض (و”المدينة” بمعناها المجازي طبعًا) وإنما يتطلع إلى مدينة المستقبل.. إلى قدس جديدة، ولكن هذه القدس الجديدة ليست معزولة عن الأرض الروسية الشاسعة، إنها مرتبطة بها، وستدخل فيها”.
وإذا وجد القارئ بعض الصعوبة في استيعاب كلام بيرديايف، فإن الفيلسوف نفسه يهب لمساعدتنا ملخصًا أن الوعي الروسي الدفين يندفع فطريًّا نحو “النهاية”، فهو يتطلع إلى “آخر الزمان”، أي إن الهدف الروحاني الأعلى لدى الإنسان الروسي يتجاوز الجغرافيا والزمان، وهذا ما كتبه سنة 1946. وهنا جسر إلى مَن سبقه في التأمل في رسالة روسيا ومنهم الفيلسوف الروسي الفريد بيوتر تشادايف. كان هذا المفكر الروسي شخصية فكرية نادرة ومثيرة للجدل في آن، حيث كانت كتاباته النقدية والفلسفية “ريادية”، وغير اعتيادية بالنسبة إلى روسيا أواسط القرن التاسع عشر، إلى درجة أن سلطات القيصر نيقولاي الأول أعلنته مصابًا بالاضطراب العقلي. لكن المهم أنه هو أيضًا رغم انتقاده الشديد لتقاليد المجتمع الروسي ومكانته في التاريخ العالمي، وتمجيده الحضارة الغربية، تيقن في مؤلفاته المتأخرة أن الروس “مدعوون إلى حل معظم القضايا الاجتماعية (الكونية) وإلى استكمال معظم الأفكار التي نشأت في المجتمعات القديمة، والإجابة عن أهم أسئلة تنهض أمام البشرية. ويمكن القول إن الطبيعة نفسها حتمت علينا أن نكون محكمة ضميرٍ حقيقية للبت في كثير من القضايا المنظورة أمام المحاكم العظمية للروح البشرية والمجتمع البشري”!
ولروسيا على تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين الريادةُ في مواجهة التاريخ بعد أن حاولت القفز فوق النمط الرأسمالي “الحتمي” في سياق التطور المجتمعي التاريخي، فهي قد شيدت بالفعل نظامًا اجتماعيًّا وسياسيًّا لم يشهده التاريخ، ينطلق من الإيمان بالرسالة الإنسانية الكبرى. وحتى الشيوعية السوفيتية، التي أصبحت في ذمة التاريخ اليوم فإنها لم تكن خالية من هاجس الغائية، وكان الفكر الشيوعي، حتى بغلافه الماركسي والمادي، يعبر عن رسالة مفعمة بإحساس ما تسمى في الأدبيات الفسلفية الروسية “سوبورنوست” (Sobornost)، وهو مصطلح روسي فلسفي ديني يعني الجمعية، أو التشاركية، أو حتى الاشتراكية إن شئتم، ولكنها اشتراكية من نوع خاص، تلك التي تتشارك فيها روح الإنسان مع سعيه إلى إنقاذ البشرية من تداعي صفاتها الإنسانية. إن “سوبورنوست” تعني لدى الفلاسفة الروس السعي إلى الوصول بالبشرية إلى الغايات العليا كمجتمعات متلاحمة موحدة روحيًّا، وليس كأفراد متشظين متباعدين كما هي حالة كثير من المجتمعات اليوم، وخاصة في البلدان الغربية. وهنا يكمن خلاف آخر مع مفهوم الغائية المركزي في الفكر الفلسفي الألماني والغربي عمومًا، الذي يتحدث عن أن لا مجال لتطور الفرد أو المجتمع إلا من خلال التنافس، والتنافس هو ليس فقط أن يفرض الفرد هيمتنه على الفرد الآخر؛ وإنما في الواقع قد يلغيه في النهاية تمامًا.
أما المفارقات في محددات الطابع القومي الروسي، فهي- حسب المفكر والفيلسوف الديني الروسي نيقولاي لوسسكي- تشمل الإرادة والتحمس مقابل التقاعس والخمول الروح الحرة والبحث عن القيم العليا مقابل الميل نحو الفوضوية والعدمية (عند المثقفين) والشغب (عند عامة الناس)، طيبة القلب الفطرية مقابل القسوة غير المبررة، الموهبة والبنية السحرية للوعي مقابل الميل نحن النيل من ذاته، الغائية الرسالية مقابل نقص الانضباط. أما السمات “السلبية” التي تؤطر الطابع الروسي فتتخلص- وفق المفكر نيقولاي لوسسكي- في التقاعس، والنزعة الانتقادية، وغياب الفعل والمبادرة، والعنهجية، والميل إلى التصرفات اللاعقلانية، والتمزق الداخلي، والتفريط في نكران الذات والميل إلى تعاطي الكحول وإدمان السكر.
واللافت أن هذه التناقضات تركت- على ما يبدو- بصماتها القوية في تاريخ الشعب الروسي، وكتب نيقولاي بيرديايف أن “روسيا هي عالم خاص، إنه الشرق الغرب، وإنه عالم يجمع بين العالمين؛ لذلك فإن النفس الروسية هي نفس معقدة وعويصة؛ لأنها تستضيف الصدام بين المسارين التاريخين الاثنين”، والمقصود المسار الغربي والمسار الشرقي. من جانب آخر، فإن هذا الاستطقاب الذاتي في الثقافة الروسية والتوازن غير الثابت بين وحدتها واستقطابها هي نفسها، يشكل عوامل مرونتها غير العادية وتأقلمها التاريخي العالي؛ مما يضمن لها القدرة الخارقة على البقاء ليس فقط في أصعب الظروف؛ وإنما أيضًا في ظروف كارثية، وفي ظروف “مضادة للثقافة”.
وهكذا فإن القرن العشرين بالنسبة إلى الشعب الروسي وحده شهد منعطفات تاريخية فريدة لم يعشها أي شعب آخر. جرّب الروس فيه سقوطًا مدويًّا لإمبراطوريتهم القيصرية ثم ثورتين اثنتين (ثورة فبراير 1917 وثورة أكتوبر 1917) انتهت ثانيتهما، وهي الأكبر، بحرب أهلية دموية أخضعت الدولة للاحتلال المتعدد الجنسيات، ولكن البلاشفة تمكنوا من إثبات أركان دولتهم السوفيتية الفتية التي واجهت فيما بعد أعتى عدوان من ألمانيا هتلر، وانتصر فيه السوفيت؛ ما أهلهم ليصبحوا قطبًا عالميًّا ينازع الولايات المتحدة الأمريكية- وريثة بريطانيا الاستعمارية- وانهاروا مجددًا في التسعينيات ليعودوا إلى الساحة في ظهور قوي متجدد، وذلك كله خلال أقل من تسعين عامًا!
وإذا كان لنا المجال للعودة إلى المقارنة بين أهم ما يميز العقلية الروسية عن تلك الغربية، فتتخلص الفوارق الأساسية هنا في الأشكال التالية:
أولا: الشخصية مقابل المجتمعية. سمة الشخصية/ الشخصنة هي الوصف الطاغي للإنسان الغربي؛ ومن هنا بعده أو ابتعاده عن العالم، والنزعة الفردية، والصراع من أجل الاعتراف، وحبه نظام الهرمية كتركيبة للمجتمع، كما جانب الإرادة والفعل النشط المبادر، وارتكازه على الوعي الذاتي. أما التركيبة العقلية للإنسان الروسي فالجانب الشخصي عنده يحتل حيزًا أقل، حيث يزداد قربه إلى العالم والناس؛ ومن هنا حبه للمجتمع والعمل الجماعي، والسعى الفطري نحو المساواة والعدالة.
ثانيًا: الفردية مقابل الجماعية. الإنسان الغربي هو مخلوق فردي، أما الروسي فجماعي. ساد في أوروبا على مدى القرون الوسطى، وخاصة بدءًا من حقبة النهضة، نمط الدفاع عن الحريات الفردية بوضع الفرد أو الشخص بمعزل عن المؤسسات الكبرى، كالكنيسة، أو الدولة. الفيلسوف الروسي والسوفيتي الكبير أليكسي لوسيف وصف فترة النهضة “بالتأسيس الطائش والعشوائي للفاعل الإنساني”؛ لذلك أصبح الإنسان الغربي يتمتع بشخصيته الفاعلة والقوية. أما الروسي فكان- مثلما قال عنه نيقولاي بيرديايف- “الشعب الروسي كان دائمًا يحب أن يعيش في دفء مجتمعه، وفي حالة الذوبان داخل طبيعة الأرض، وفي حضن الأم”؛ لذلك لا يشعر الروسي بخط فاصل واضح بين نفسه والآخرين ولا يشعر بالمعزولية الذاتية، ويرى نفسه جزءًا من الكمال الجماعي؛ ومن هنا كان يأتي أحيانًا بين السمات “السلبية” لطابعه، الخضوع الطوعي للتضييق والقمع (ولكن ليس إلى ما لا نهاية فيه!). والخلاصة أن الروسي متوجه أكثر إلى المجتمع القوي، ويميل إلى الاعتماد على الآخرين، أما الفرد في المجتمع الغربي فلا يعتمد إلا على نفسه.
ثالثًا: في تنظيم المجتمع والعلاقات بين أفراده. يؤمن الإنسان الأوروبي بمبدأ الهرمية أو التسلسلية، أما الروسي فيميل إلى مبدأ المساواة. والهرمية هي سلطة الأقلية على الأغلبية، أما المساواة فهي سلطة الأغلبية، أو حتى هي “سلطة الجميع”، نظريًّا على الأقل. كيف تُحدَّد قيمة الإنسان وشأنه في الهرمية؟ إن المعايير الأساسية هنا هي إنجازات الفرد وقوته، أما المساواة فهي تضفي تلك القيمة على كل إنسان، بغض النظر عن إنجازاته؛ بل ذهب بعض الباحثين إلى القول إن المساواة غير مقبولة بالنسبة إلى الفرد الغربي؛ لأنها تضع “السيد” و”العبد” في نفس المصاف، وتنزع عن “السيد” كل إنجازاته، وتُرجعه إلى مجتمع بلا روح فردية، وتنزع عنه شخصيته الفريدة. أما الروس فهم مقتنعون بأن عدم المساواة والاضطهاد هما جذور كل العداوات والويلات في العالم؛ لذلك يحوم التفكير الروسي العميق حول المساواة بين كل الناس، ويمنع تفوق الفرد على الآخر.
رابعًا: الإرادة ضد التأمل. الجانب الإرادي والفعل النشط/ المبادر يتجلى أكثر في الإنسان الغربي، أما الإنسان الروسي فيسود فيه جانب التأمل “الخامل”؛ لذلك يتهرب الروسي في بعض الأحيان من النشاط الفاعل، مفضلا التأمل والمراقبة. وبما أن الإنسان الروسي يعيش بسلام مع “العالم الخارجي” فإنه يفسح له المجال متراجعًا عن القيام بالفعل النشط، محافظًا في الوقت نفسه على الهدوء والسكون والتوازن. أما الفرد الغربي فهو مدفوع بغريزة السيطرة على العالم، ويندفع إلى القيام بالفعل النشط وإثبات أنه فرد مستقل ومكتفٍ ذاتيًّا؛ لذلك فإن محيطه “عديم التوازن”، وعلاقاته معه غير متناغمة، ويحاول بهذا السبب أن يركن إلى الوضوح والترتيب الجيد، ويسعى إلى التخلص من كل ما هو غامض، ومبهم، وعشوائي. الأوروبي- إذن- يميل إلى النشاط المرتب الروتيني، عكس الروسي الذي لا يتمتع بإتقان العمل المرتب المتواصل.
إن هذه المقارنات هي- بالطبع- ليست بالضرورة مقارنات مطلقة، وهي لا تمنع أن “يحمل جناح الغرب في ثناياه الكثافة العقلية في التفكير، فى حين أن الجناح الشرقى يعكس الجانب التأملي، والوجداني في التفكير. وكلا الجناحين يكمل أحدهما الآخر فى الشخصية الحضارية الروسية”.
يتصرف الشخص الروسي أحيانًا على نوبات، وقد يهب فجأة ويسرع إلى مبادرة ما، لكنه قد تبرد همته سريعًا، فيترك ما تحمس له. يقول المفكر والفيلسوف الديني الروسي نيقولاي لوسسكي: “الروس لهم مواهب غنية، ولكنهم كثيرًا ما يقتصرون على المبادرة بمشروع فريد، أو بخطة عمل فقط، دون إكماله حتى النهاية. ولوحظ منذ زمن بعيد أن الحديث مع العالم الغربي يعطيك أساسًا حول ما كتب هذا العالم في أعماله، أما محادثة العالم الروسي فتأتي بمضمون أغنى وأفكار جديدة مقارنة بما هو مكتوب في أعماله المنشورة”.
في سنوات ما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، ذهب بعض علماء الاجتماع إلى التركيز على السمات “غير المريحة”، أو “السلبية”، للإنسان الروسي؛ نظرًا إلى تدني نظرته إلى نفسه ومجتمعه بسبب ما عاناه على صعيد التداعيات الاجتماعية والنفسية الثقيلة في ظل كارثة اختفاء دولته الكبرى الاتحاد السوفيتي. ويُفهم من دراسات بعض هؤلاء الباحثين ومنهم يوري ليفادا، عالم الاجتماع الروسي المعروف، ومؤسس أحد أكبر مراكز دراسات الرأي العام في البلاد، تفضيلُهم منهجًا “انتقاديًّا” بوصفه “أكثر دقة وموضوعية” في دراسة روح “الإنسان ما بعد السوفيتي” كما أسموها. ووصل الباحثون الجدد إلى أن الأبعاد العميقة الأساسية “لـلإنسان ما بعد السوفيتي” تدور حول الصفات التالية: “إنه الإنسان الذي يعاني عدم الارتياح المزمن، الإنسان “الجمهري” أو “الحشدوي”، أي الذي تدور معاييره الذاتية حول نظرة المجمع إليه، البدائي أو المحدود فكريًّا وجماليًّا الذي يصور بدائيته وفقره كفضيلة، المتردد أو غير المطمئن لأنه لا مؤسسات فعالة تشعره بالأمانة الاجتماعية والقانونية، الذي يعاني الحنين الأبدي إلى ماض ملمَّع ومبيَّض ويُرْجع كل مشكلاته إلى الأعداء والمؤامرات الخارجية”.
وبدلاً من كل ذلك “المتقادم” الذي عدّه هؤلاء الباحثون الجدد جزءًا من الماضي، أو يجب أن يصبح جزءًا من الماضي كما قالوا، استحدثوا ما يسمى “بالعقلية الروسية ما بعد الحداثة”؛ ذلك لأن للإنسان الروسي المعاصر- وفق تصوراتهم- مستوًى ثقافيًّا آخر تحدده المستجدات المدنية، بل إن هذا المستوى الثقافي الآخر- برأيهم- سيزاحم تدريجيًّا نمط التفكير التقليدي لدى الفرد الروسي. أما العقلية الجديدة، وهي عقلية ما بعد الحداثة، فهي تختلف عن مثيلتها العريقة؛ لأنها “تتماشى مع المجتمع المعاصر، وتستطيع امتصاص تعقداته، وتنوعاته، وديناميكيته”.
ولكنَّ علماء وباحثين روسيين آخرين أشاروا إلى أن الحقيقة العلمية لأنماط العقليات للبشر وطرائق تفكيرهم أكثر تعقيدًا من الأطروحات الآنفة الذكر، حيث لا توجد “عقليات عصرية جيدة” وأخرى “قديمة سيئة”. إن في ذلك- برأي هذا القسم من العلماء- تبسيطًا شديدًا لظاهرة مركبة كالعقلية. يقول نقاد “عقلية ما بعد الحداثة” إن العقلية أو النفسية “تتسم- في الأغلب- بالمزيج المتشابك للجديد المتنوع والقديم المتنوع”.
مهما يكن من أمر، لاحظ كثير من الباحثين أن النمط النفسي الروسي الروحاني في أيامنا بدأ يتعرض للتدمير التدريجي تحت تأثير ازدواجية النمط العلماني للحياة العصرية وصفاقتها. وزاد ذلك من تناقضية طابع المواطن الروسي الذي ستجد فيه كل شيء: “الميل إلى القومية المتطرفة والانفتاح على الثقافات الأخرى، والقسوة التي تتعايش مع قدر مذهل من الرحمة، كما أن الميل إلى إيذاء الآخر يعيش جنبًا إلى جنب مع التعاطف العميق مع آلام الآخرين ومشاعرهم، أما موهبة العمل المتفاني والتحمل فيجاورها الخمول والكسل واللامبالاة”.
ويشير علماء الاجتماع اليوم إلى أن ميزة الصبر مثلاً، بصفتها جزءًا من الشعور بالرحمة والإنسانية، قد تراجعت مكانتها في المجتمع الروسي المعاصر. كما كشفت دراسة اجتماعية كثيفة أجريت تحت إشراف عالم الاجتماع والفيلسوف الروسي الكبير نيقولاي لابين، شملت فترة ما بين عامي 1990 و2006، أن سمة التضحية، وهي وظيفة أخلاقية مهمة لدى الشعب الروسي، التي كانت تحتل المرتبة (الثامنة) ضمن القيم الأخلاقية الأساسية، تراجعت إلى المرتبة (الحادية عشرة)؛ بل أفسحت المجال أمام قيم جديدة كالاستقلالية، والمبادرة، التي يعدّها علماء الاجتماع الروس من الحداثة.
إن امتلاك الرؤية الواسعة للروحانيات الكامنة في الإنسان الروسي قد يؤمن- برأينا- الحد الأدنى من تفهم دوافعه الفطرية في مجالات كثيرة، فيمكننا أن نجد تعبيرًا لها في توجهات روسيا- مثلا- على صعيد العلاقات الإنسانية، والروابط الدينية والثقافية مع العالم العربي. وليس مصادفة- على سيبل المثال- ذلك الشعور اللا إرادي لدى الإنسان الشرقي، والعربي تحديدًا، أنه قريب من الروسي بطريقة ما، فربما وجد القارئ في هذا المقال محاولة لتفسير هذه الظاهرة.
وهنا قد يتساءل القارئ: حسنًا، ولكن كيف يمكن أن يساعدنا كل هذا على فهم طبيعة توجهات روسيا كدولة في الشرق العربي؟ وما حقيقة سياساتها؟ وماذا تريد في منطقتنا؟ ربما ليس من السهل إسقاط ما كتبناه على الشأن السياسي حرفيًّا؛ بل سيكون من الخطأ- برأينا- أن نحاول دائمًا ترجمة الأبعاد المبطنة للنمط الروسي العريق على المجال السياسي أو الاقتصادي الذي تتحرك فيه روسيا اليوم؛ لأن تلك المواقف تمليها- بالدرجة الأولى- متطلبات ظرفية خاضعة لتأثير عوامل مختلفة، تكون من ضمنها- مثلا التوجهات الأيديولوجية للنخب الحاكمة. ولكن في الوقت نفسه علينا أن نعترف بأن السياسة، وإن كانت بعيدة من الانفعالات والعواطف، فإنها لا تُمارس دائمًا بشكل مصلحي خالص، وقد لا تكون السياسة معزولة بالضرورة عن الحوافز الروحانية الباطنية لمن يزاولها.
صحيح أنه في السياق التاريخي للحديث عن إيمان روسيا وروحانيات شعبها قد تختفي بعض المعتقدات الكبرى لهذا الشعب لبعض الوقت، لكن الصيرورة التاريخية لا تمنع نهوضًا متجددًا لمفاهيم عضوية أساسية تدخل في بنية الوعي الروسي بحثًا عن تعبير آخر لها.