مقالات المركز

ثلاث عقبات رئيسية تعترض تحولها إلى قوة عالمية

هل حقًا عادت روسيا؟



شارك الموضوع

في يوم الثلاثاء، الخامس عشر من مايو (أيار) 2007، وبعد انتظار طويل، جاء الاتصال أخيرًا- الرئيس ينتظركم في استراحته الريفية «نوفا أغاريوفا» التي تبعد 40 دقيقة عن موسكو. عند وصولنا كان بوتين يجلس إلى طاولة طويلة مستطيلة وهو في مركزها بحضور مجمل أعضاء مجلس الأمن القومي الروسي، واستقبلنا بابتسامة ساخرة، وقال: “أعتقد أن الوزيرة رايس، بصفتها طالبة سابقة في التاريخ الروسي، ستقدر هذا المكان جيدًا”. كان هذا هو المكتب السياسي الحديث، بلاط القيصر الروسي الجديد. كانت الدلالة دقيقة مثل بوتين نفسه: «لقد عادت روسيا مجددًا»– بعد حديث صاخب توعد وهدد بوتين فيه جورجيا، وهو يلوّح بسبابته للوزيرة رايس، منتقدًا مجمل السياسات الأمريكية قلت لنفسي: “لم تكن هذه روسيا التي تركتها قبل عقد من الزمان وهي مستلقية على ظهرها”- وليام بيرنز، السفير الأمريكي السابق في موسكو، ومدير وكالة المخابرات المركزية الحالي (كتاب القناة الخلفية، ص 179).

هل حقًا عادت روسيا؟

عند الحديث عن «العودة» الروسية للتأثير في مسرح السياسة العالمية، نجد إجابات متباينة، لكن قبل محاولة الإجابة عن هذا السؤال الذي يبدو للوهلة الأولى مضللًا، نحتاج إلى توضيح المقصود بهذه “العودة”.

عند المقارنة بين روسيا القيصرية ووريثتها الإمبراطورية، سنجد أن الأخيرة قد توسعت في المساحة، ولكنها خسرت “الروح الروسية” وقسمت المجتمع بين تقليديين وحداثيين يمثلون نخبتها، وهؤلاء كانوا ينظرون بازدراء إلى المجتمع الموسكوفي بقيمه وعاداته وتقاليده ونمط تدينه الأرثوذكسي في عاصمتهم الجديدة مدينة بطرس الأكبر، أو «سانت بطرسبرغ» كما تسمى حاليًّا، ويعتبرون أنفسهم أوروبيين، في حين لم تكن أوروبا تراهم كذلك. لشرح هذا التناقض، يقول الكاتب الروسي ميخائيل شيدرين (1826-1889): “في روسيا، كنا موجودين فقط بالمعنى الواقعي- ذهبنا إلى المكتب، وكتبنا رسائل إلى أقاربنا، وتناولنا العشاء في المطاعم، وتحدث بعضنا إلى بعض، وما إلى ذلك، لكننا روحيًّا كنا جميعًا من سكان فرنسا”. أما المؤرخ والكاتب الروسي نيقولاي كرامزين (1766- 1826)، فقد وصف شعور الصدمة لهذه النخب الروسية “المتأوربة”، في كتابه (رسائل رحالة روسي 1792)، بالقول: “في الطريق إلى كونيغسبرغ، دهش ألمانيان عندما علما أن روسيًّا يمكنه التحدث بلغات أجنبية، وفي لايبزيغ، تحدث الأساتذة عن الروس على أنهم برابرة ولم يصدقوا أن لديهم كتابًا واحدًا من تأليفهم. أما الفرنسيون فقد اعتبرونا قرودًا لا تعرف إلا كيفية التقليد”. أخيرًا، عبّر الأديب الكبير فيودور دوستويفسكي (1821- 1881) عن خيبة الأمل هذه بقوله: “في أوروبا يروننا تتارًا، وفي آسيا يروننا أوروبيين”.

أدى هذا التناقض فيما بعد، من بين عدة أسباب أخرى، إلى سقوط الإمبراطورية الروسية، وقيام الاتحاد السوفيتي، بعد ثورة فبراير (شباط) 1917، وموجتها الثانية في أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه، ونشوب حرب أهلية دموية استمرت خمس سنوات، وخسارة بولندا وفنلندا، والأراضي التي اكتسبتها في الحرب العالمية الأولى.

بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، تراجعت مساحة روسيا من (22,402,200) كم²، إلى (17,075,400) كم²، أي خسرت (5,326,800) كم²، مع ما شكله هذا التراجع من ضعف اقتصادي، وسكاني، وأعباء جيوسياسية تدفع اليوم روسيا ثمنها من خلال صراعات وخصومات مع جيرانها.

إذن، عند طرح السؤال “هل عادت روسيا؟”، لا بد أن يعقبه سؤال آخر عن ماهية هذه العودة؟

منذ إعلان قيام «روسيا القيصرية» عام 1547، يشهد التاريخ السياسي الروسي عملية مستمرة تبدو ميكانيكية من التدهور والتراجع المستمر، أما نسبيًّا، وبالمقارنة بوضع الاتحاد الروسي، الذي تأسس عام (1991)، ووضعه الحالي، فبالتأكيد قد عادت روسيا من هذا الجانب وحسب، لكنها لم تعد بأي حال من الأحوال إلى ما كانت عليه سابقًا، أو حتى إلى أقرب نسخة من نسخ إمبراطوريتها المتعاقبة، وأعني بذلك الاتحاد السوفيتي، فالاتحاد الروسي الآن أقل منه في المساحة، وعدد السكان، وطبيعة الاقتصاد ونمطه وقوته، ومستوى التأثير العالمي، والقوة العسكرية، والتمدد والنفوذ. أما روسيا “التسعينات” التي كانت تعاني الفوضى، وحكم المافيا والحركات الانفصالية، فلم يعد لها وجود؛ وعليه فنحن أمام عودة للحد الأدنى إلى ما كانت عليه روسيا تاريخيًّا.

الكفاح الروسي من أجل المكانة العالمية

منذ وصوله إلى السلطة، ركز خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تغذية الشعور القومي، وإثارة الفخر الوطني لدى الروس الذين شعروا بالمهانة بعد تفكك إمبراطوريتهم الحمراء، واستخفاف الغرب بهم وبدورهم، وصولًا إلى مرحلة بدء الصدام مع الغرب بعد حرب أوسيتيا الجنوبية 2008، التي بلغت ذروتها بعد ضم/ استعادة شبه جزيرة القرم 2014، مع ما رافق ذلك من انتقادات غربية لسياسات روسيا، ونظام حكم بوتين، والتحذيرات المتزايدة في الغرب عامة، والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، من سعي روسيا إلى قيادة عالمية جديدة.

لا يُخفي المنظرون السياسيون الروس- على تباين أفكارهم- رغبتهم في استعادة دور روسيا على المسرح العالمي، ولكنهم- هذه المرة- لا يدعون إلى عالم ثنائي القطبية تكون روسيا طرفًا فيه مقابل الولايات المتحدة كما كانت عليه الحال في أثناء الحرب الباردة؛ لعلمهم بأن روسيا الحالية لا تمتلك المقومات التي تؤهلها لذلك، ولتجربتهم التي تعلموا من خلالها أن القيادة القطبية الثنائية تستدعي تحمل أعباء أكبر بكثير من أي مكاسب يمكن أن تتحقق من خلفها، بدلاً من ذلك ينطلقون من دعوة مفادها أن العالم مقبل على «تعددية قطبية» ستكون فيها روسيا قطبًا من ضمن عدة أقطاب عالمية أخرى، وفي هذه الحالة سيمتد نفوذ “القطب” الروسي المفترض إلى ما يسمى في الأدبيات السياسية الروسية «الجوار القريب»، أو بلدان الاتحاد السوفيتي سابقًا، ولكن شكل هذا القطب وهذا الاتحاد الجديد، عليه اختلاف كبير بين النخب الروسية، وإن كان الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU) هو التصور الأقرب إليه حتى الآن.

بعيدًا عن الطموح المشروع لكل دولة أو قوة ترى في نفسها القدرة، تعترض الطموحات الروسية عدة عقبات أمام تحقيق ذلك الهدف، وفي هذا المقال سنكتفي بأبرز ثلاث عقبات، وهي: (هشاشة النظام السياسي، والخواء الروحي والأيديولوجي، والضعف الاقتصادي).

هشاشة النظام السياسي في روسيا

رغم حداثة التاريخ السياسي الروسي (أقل من 1200 عام)، حين بدأت الدولة الروسية الأولى سنة (862)، عندما نشأت إمارة نوفغورود، في شمال غرب روسيا حاليًّا. فإن هذا التاريخ غني بالأحداث المثيرة، وقصة السلطة فيها تكاد تكون واحدة، وفي كثير من الأحيان يسأل المرء نفسه متحيرًا وهو يقرأ أحداث هذا التاريخ: هل إلى هذا الحد لم يقرأ الروس تاريخهم، أو يسعوا إلى التعلم من أخطائهم، فكرروها بشكل يثير “الإعجاب” إن جاز التعبير، أم أنهم كانوا مستسلمين لما تقرره الأقدار، معتقدين عن قناعة أن بلدهم هو “روسيا المقدسة”، أو “سفيتايا روس” بالروسية؟ وهي فكرة فلسفية-دينية ظهرت لدى السلاف الشرقيين منذ القرن الثامن الميلادي، وتحديدًا بعد “معمودية كيفانس” التي بدأت سنة (867)، وأدت في نهاية المطاف إلى اعتناق الأمير فلاديمير الأول المسيحية الشرقية اليونانية، وتعميد شعبه، ثم ترسخت بعد انتصار إيفان الرابع- غروزني أو “الرهيب” على خانيات التتر في أستراخان وسيبيريا وقازان، وإعلان نفسه قيصرًا لروسيا، ووريثًا شرعيًّا لبيزنطة بعد سقوط القسطنطينية عام 1453، على يد الترك العثمانيين، ولكونه يحمل دماء إمبراطورية من جدته صوفيا باليولوغينا، ابنة أخي آخر أباطرة بيزنطة قسطنطين الحادي عشر؛ وعليه فقد تم اعتبار موسكو “روما الثالثة”، و “مملكة الجنة”، و” ومكان القيامة الأبدية لله في السماء وعلى الأرض”. وقد أكد هذه الفكرة في الوقت الحالي، سنة 2013، المتروبوليتان إيلاريون، الذي قال: “كأبناء وبنات للكنيسة الأرثوذكسية الروسية، نحن جميعًا مواطنون في روسيا المقدسة. عندما نتحدث عن روسيا المقدسة، لا يمكن أن يكون فيها المرء روسيًّا حقيقيًّا، دون أن يصبح أولاً أرثوذكسيًّا، ويعيش حياة الكنيسة، كما فعل أسلافنا مؤسسو روسيا المقدسة”.[1]

قد يبدو هذا هو التفسير المنطقي لحالة الركون الروسي للقدر، والإيمان بأن القوى الإلهية ستحفظ روسيا في كل الأحوال، فلا داعي للخشية على مستقبلها، أو أن يرهق المرء نفسه في بناء مؤسسات تضمن استمرارية الدولة، المهم وجود الحاكم القوي المستبد، ومن المهم هنا توضيح أن “الاستبداد” صفة إيجابية للحاكم في العقلية الروسية، وتعني القدرة والسطوة، وهو ما ينبغي أن يتميز به الحاكم الروسي “الجيد” وفق هذا التصور، وقد عبر عن ذلك الاعتقاد، تعبيرًا أكثر وضوحًا، المؤرخ الروسي فلاديمير بولداكوف، عندما قال: “لقد تعود الشعب الروسي أن الصورة النموذجية للسلطة هي تلك التي تمتلك القوة والجبروت واحتكار العنف نتيجة قرون طويلة من الحكم الاستبدادي، حيث احتاج الشعب الروسي دومًا إلى الحاكم الزعيم القوي الحازم المفهوم، هذا الأمر من مقومات السلطة في روسيا في الماضي، والحاضر، والمستقبل أيضًا”.

لكن هذه الغيبيات والإيمان بها، لم تفعل دومًا فعلها. وضع المؤسس الأول روريك (862- 879) أساس الدولة الروسية، ثم وسعها ونقل عاصمتها إلى كييف الأمير أوليغ فيشي “العراف” (879- 912)، ودوّن ياروسلاف- مودري “الحكيم” (978- 1054)، منظومة قوانينها، وطورها فلاديمير مونوماخ (1053- 1125)، ووصلت الدولة الروسية إلى قمة مجدها، وبسبب القصور الذاتي الداخلي، وعدم وجود آلية لتنظيم السلطة بين أمرائها المتصارعين، تعرضت للاجتياح المغولي الذي بدأ عام 1237.

تمكن ألكسندر نيفيسكي (1220- 1263)، من مواجهة الصليبيين الكاثوليك من السويديين والألمان، بعد عقد صفقة خضع مقابلها لخانية القبيلة الذهبية المغولية، ليحفظ الوجود الروسي والإيمان الأرثوذكسي، وصولًا إلى توقف أمير موسكو المعظم إيفان الثالث (1440- 1505)، عن دفع الجزية إلى القبيلة الذهبية، وتحرير الدولة الروسية بعد زهاء قرنين ونصف القرن من النير المغولي، ليُتم حفيده إيفان الرابع (1530- 1584) ما بدأه الجد بضم كل أراضي القبيلة الذهبية، وإعلان روسيا القيصرية (1547)، التي دخلت من بعده ما تسمى “الحقبة المظلمة”، أو “عصر الاضطرابات”، من صراعات وحروب أهلية، وغزوات خارجية؛ لعدم وجود نظام واضح لنقل السلطة، أو مؤسسات قادرة على أن تسد فراغها، وقد تكرر الأمر فيما بعد في العصر الإمبراطوري. أما الاتحاد السوفيتي فقد سقط سقوطًا حرًّا في حالة فريدة من نوعها ربما لم ولن تتكرر في التاريخ، بلا ثورة، أو انقلاب، أو انهيار اقتصادي. اجتمع في إحدى غابات بيلاروس ثلاثة زعماء، ستانيسلاف شوشكيفيتش، من بيلاروس، وليونيد كرافتشوك، من أوكرانيا، وبوريس يلتسن، من روسيا، ووقعوا في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 1991، ما تسمى «اتفاقية بيلوفيشسكايا»، لإلغاء الاتحاد السوفيتي، على الرغم من وجود استفتاء شعبي أيد فيه الغالبية بقاءه مع القيام ببعض الإصلاحات، واتصلوا أولًا بالرئيس الأمريكي جورج بوش الأب لإبلاغه بقرارهم، ثم فيما بعد علم به رئيس البلاد آنذاك غورباتشوف من وسائل الإعلام كأي مواطن عادي، لتنتهي بذلك تلك الدولة العظمى، بشكل لم يخطر ببال حتى ألد أعدائها.

الاتحاد الروسي اليوم، ليس مصيره ببعيد عما حدث للدولة الروسية الأولى، كييفسكايا روس (879- 1240)، وروسيا القيصرية (1547- 1721)، وروسيا الإمبراطورية (1721 1917)، أو روسيا السوفيتية (1922- 1991)، فلا وجود لقيادة واضحة ما بعد الرئيس بوتين، وكل الشخصيات الظاهرة على الساحة محدودة الكفاءة والخبرة والثقافة، باستثناء وزير الخارجية سيرغي لافروف، البالغ من العمر 71 سنة، ووزير الدفاع سيرغي شويغو (66 سنة). أما الحزب الحاكم «روسيا الموحدة»، فهو أشبه بنادٍ لتجمع أصحاب المصالح للالتحاق بحزب الحكومة، ويمثل خليطًا من شخصيات مختلفة التوجهات، وكما يقول الصحفي الروسي ماكسيم شيفتشينكو: “بدون بوتين، لا وجود لشيء يسمى حزب روسيا الموحدة”. في الغالب تنتهي هذه الأحزاب بنهاية مؤسسها في ظل افتقادها لأي أيديولوجية أو قاعدة شعبية، ونظرًا إلى تأسيسها الفوقي من السلطة، لن ينتظرها في الغالب سوى مصير “الحزب الوطني الديمقراطي” في مصر، الذي تحلل بعد تنحي الرئيس المصري الأسبق مبارك.

لا يعرف النظام السياسي الروسي ولا يعترف بدولة المؤسسات، ولا يتقن الروس ما يتقنه الأمريكيون في “فن إدارة التناقضات” داخل أجهزة الدولة، على العكس من ذلك هناك أطراف متصارعة مصالحها متضاربة، لا تمثل سوى نفسها، ولا وجود لقواعد حقيقية خلفها، ويكمن دور الرئيس أو “القيصر” في إدارة هذه الصراعات بنفسه، وفي حالة ضعفه أو غيابه لأي سببٍ كان، تدخل البلاد- كعادتها- في حالة من الفوضى، وكما صرح بوتين نفسه عندما طرح البعض توليه منصب رئيس مجلس الدولة، مع منحه صلاحيات عليا قبل ترك منصب الرئاسة (2024)، فكان رده على هذا المقترح بالقول: “تعدد السلطات في بلد مثل روسيا لا يعني سوى الفوضى”، أو وفقًا للمثل الروسي: “الغابة لا تتحمل سوى دب واحد”، وأمام هذه المعضلة، طرحت رائدة الفضاء السوفيتية السابقة، وعضو مجلس الدوما فالنتينا تريشكوفا، تعديلًا دستوريًّا بخصوص مدد الرئاسة، سمح في النهاية بتصفير العداد لصالح بوتين، ليبقى فيما يبدو رئيسًا مدى الحياة، دون الإجابة عن سؤال «وماذا بعد بوتين؟».

عندما وجه الإعلامي عمرو عبد الحميد، هذا السؤال إلى الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين، رد عليه بأنه: «يتمنى بقاء بوتين في الحكم مدى الحياة ما دام قادرًا على ذلك، وأن بديله ربما يكون كارثيًّا ويؤدي إلى عودة روسيا إلى زمن الاضطرابات التي شهدتها في التسعينات من القرن الماضي» ، وعندما باغته بسؤال آخر قائلا: وماذا لو غاب بوتين من الصورة لسبب قهري؟ كان رده: «نأمل أن يحل محله شخص جيد، أو أفضل منه، ولكنه غير معروف لدينا، وربما يكون موجودًا في الخفاء».[2]

وهكذا، مرة أخرى لا يجد حتى أكثر المفكرين الروس فطنة وتأثيرًا، سوى القدر للجوء إليه، وفق نظرية «روسيا المقدسة»، التي حتمًا لن يتركها الرب تذهب إلى الهلاك، وسيخرج “المخلص” لينقذها من الضياع. عندما تقرأ التاريخ السياسي الروسي لا يمكنك سوى أن تتخيل، ماذا لو فكر الروس في حل هذه المعضلة، كيف كان وضع بلادهم، مع ما تمتلكه من مساحة شاسعة، وموارد ضخمة لا مثيل لها، وشعب قدم تضحيات لم يقدم أي من شعوب الأرض- بلا مبالغة- مثلها؟ ربما لو حدث هذا الاستقرار لكانت روسيا اليوم هي الدولة الأقوى والأعظم في التاريخ، بدلاً من ذلك، نشهد دولة تنهض وصولًا إلى مرحلة القوة العظمى، ثم تتحلل بعد وفاة زعيمها القوي وصولًا إلى تفككها، وما قبل النهاية بوقت قليل يأتي من يوقف هذا الانهيار، ويتم اعتبار ذلك نصرًا وعودة من جديد ليظل مخلدًا في السلطة، مكررًا الأخطاء نفسها التي أدت إلى وصولها إلى لحظة الانهيار الكامل، وهكذا تتكرر القصة، وتفقد روسيا أموالًا وموارد وأرواحًا غالية، دون تراكم للقوة.

هل يؤمن الروس بالقدر، وأنه لصالحهم إلى هذا الحد، أم هو العجز عن التغيير، فكان “القدر” مجرد خداع للنفس، أم قد تتغير المعادلة لأول مرة في تاريخ روسيا، وتقرر أن تصنع قدرها ومصيرها بنفسها؟ لا نملك إجابات واضحة عن هذه الأسئلة، ولكن الأكيد أن مستقبل السلطة في روسيا يكتنفه الغموض، وهو ما يعوق تحولها إلى دولة عظمى، فلا وجود لمؤسسات دولة قادرة كما هي الحال في الولايات المتحدة، ولا لحزب عَقَدي يضمن الاستمرارية وتطوير الدولة على غرار الحزب الشيوعي الصيني، ولا الخلود مع التمتع بالشباب والحيوية متاح للبشرية ليبقى بوتين، وما دامت هذه المعضلة بلا حل حتى الآن، فلا مجال للحديث عن تحول روسيا في المستقبل إلى قوة عظمة عالمية، أو إمكانية لثقة القوى الإقليمية ذات الثقل في أن تدير ظهرها للغرب وتتحالف مع روسيا، لتربط مصيرها ببلد هو نفسه يجهل ماذا سيحل به غدًا، في حين أن جُل ما يمكن للروس تمنيه هو ألا يفقدوا ما بين أيديهم، وقد يكون ذلك الأمر متعذرًا.

ختامًا، قد يكون من المفيد التذكير برسالة مهندس الحرب الباردة جورج كينان (1904- 2005)، المسماة البرقية الطويلة (Long Telegram) 1946، التي من بين ما قاله فيها: “على الولايات المتحدة أن تؤجل جميع مشاريعها لخلق تغيير في الاتحاد السوفيتي حتى وفاة يوسِف ستالين، وبعدها يمكن العمل عليها بهدوء وصولًا إلى تنفيذها”[3]، وهو ما كرره مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق زبغنيو بريجينسكي، حين دعا، عام 2016، إلى عدم الدخول في مواجهة حادة مع روسيا، وانتظار “مرحلة ما بعد بوتين؛ لخلق التغيير المنشود”[4]. يبدو أن الغرب قد درس وفهم تاريخ روسيا، أكثر من بعض الروس، وينتصر في نهاية المطاف ليس بفضل قوته أو ذكائه؛ ولكن لحكمته ومعرفته بتاريخ خصمه والعمل بما تقتضيه تلك المعرفة.

الخواء الروحي والأيديولوجي

بعيدًا عن جدلية “إلى أي الاتجاهات ينتمي الشعب الروسي؟”، وهي جدلية لم يتمكن الروس أنفسهم من حسمها حتى الآن، إلى الشرق أم إلى الغرب، وإلى أي منهما وجهته؟ مع وجود محاولات “توفيقية”، مثل “الأوراسية” التي تحاول المزج بين كلا الاتجاهين، وإن كنت أميل إلى القول إن الشعب الروسي “قلبه مع الغرب، ولكنه ذو عقلٍ شرقي” وهذا العقل الشرقي لا يستقيم مع أفكار مثل “الفردانية”، على العكس من ذلك، فالفردانية تُخرج “أسوأ” ما في الشخصية الروسية، وتجعل منها شخصية “أنانية” غير مكترثة بالآخرين، أو بالنظام العام والقانون، بدلاً من ذلك، يجد هذا الشعب نفسه في القيم “التشاركية”، والرابطة العَقَدية أيًّا كان مصدرها، مع حاجته إلى سلطة مركزية عليا تتولى إدارة شؤون البلاد وتنظيمها.

يقول إيفان، أحد أبطال رواية «الإخوة كارامازوف»: “إذا كان الله غير موجود، فكل شيء مباح”، هكذا اختصر الأديب الروسي دوستويفسكي الطبيعة الروحية الروسية. الإيمان، أيًّا كان شكله، عامل رئيسي في تحفيز الشخصية الروسية، وبدونه فهي لا شيء. كانت روسيا القيصرية، وبشكلٍ ما الإمبراطورية، قائمة على القيم الأخلاقية الأرثوذكسية، وراعيها وحاميها القيصر، وحسب تعبير الفيلسوف الأمريكي صامويل هنتنغتون (1927- 2008): “في الأرثوذكسية، الإله هو الشريك الأصغر للقيصر”، فكان لتغير مشاعر الشعب بالاتجاه السلبي تجاه نيقولا الثاني (1868- 1918)، دوره في تراجع الإيمان ما قبل الثورة البلشفية، إلى جانب فقدان الثقة بالكنيسة بسبب تأييدها المطلق للإمبراطور الروسي وحاشيته، لكن مع قيام الاتحاد السوفيتي، عالج الأخير هذا المشكلة عبر “القيم الاشتراكية” التي في مجملها لا تخلف كثيرًا عن القيم المسيحية الأخلاقية، مع استخدام فن “الصورة” الدعائية للقادة والزعماء السوفيت، لتقديم مثال شبيه بالأيقونة الأرثوذكسية المقدسة، وتحنيط جسد لينين، والاحتفاظ به في ضريح خاص، في محاكاة لاحتفاظ الكنيسة بأجساد القديسين، وصولًا إلى ما يسمى “عبادة الفرد”، في محاكاة إضافية لشخصية القيصر عبر شخص السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفيتي.

بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، وجد الروس أنفسهم في العراء، لا القيم الأرثوذكسية لها وجود لدى غالبية الشعب الذي ولد وترعرع في ظل “القيم الاشتراكية” العلمانية، ولا هذه القيم بقيت بعد تفكك الدولة التي كانت تعتنق أيديولوجيتها، وحل محل ذلك مجموعات متناثرة من الأفكار المستنسخة في الغالب من الغرب.

الاتحاد الروسي الآن لا يمتلك نموذجًا يمكن أن يشكل عامل إلهام لشعبه، فضلاً عن محيطه القريب، وبالضرورة لباقي شعوب العالم الأخرى، وعلى الرغم من جميع محاولات الرئيس بوتين ليبدو هو ونظامه في صورة “المحافظين” المؤمنين بالقيم الأرثوذكسية والعادات والتقاليد الروسية العريقة، فإن هذه الدعاية لا تجد لها صدى في الداخل الروسي، ولدى الشباب تحديدًا غير المكترثين بها. نتيجة لذلك، نجد اليوم فجوة كبرى بين الشباب من 14 إلى 40 سنة، وما فوق الأربعين، يرى الفريق الأخير بوتين ويقيم نظامه من خلال منظور ما شاهده قبيل تفكك الاتحاد السوفيتي، وفوضى التسعينيات المرعبة، في حين أن هؤلاء الشباب لم يعاصروا أو يعوا جيدًا تلك الأحداث، ولديهم من وسائل المعرفة والاطلاع على العالم الخارجي ما لم يتوافر لدى الجيل السابق لهم، ويرون الاستقرار أمرًا مسلمًا به، ويقارنون بين أوضاع بلادهم على مستوى الفساد والحريات والرفاهية، وأوضاع باقي شعوب أوروبا.

على المستوى الأخلاقي، لا وجود لمنظومة قيم اجتماعية مبنية على أيديولوجية ما، أو قيم دينية، إلا ربما داخل الأقليات القومية، أما على المستوى السلافي، فالفلسفات والأديان الشرقية تلقى لدى المهتمين بالجوانب الروحية رواجًا غير عادي، مثل البوذية، والهندوسية، وحركة هاري كريشنا، وغيرها.

في ظل هذه الأجواء، تستمر روسيا في التدهور الديمغرافي المخيف، بلغ سكان الاتحاد السوفيتي عام 1989 نحو (286,730,819) نسمة، وكان تعدد سكان روسيا وحدها (146,863,931)، في حين بلغ سكان الاتحاد الروسي عام 2019 نحو (145,872,256)، بمعدل خصوبة (1.72) مقارنةً بعام 1989، الذي كان (2.12). وفق المعدلات الحالية سيصل عدد سكان الاتحاد الروسي عام 2050 إلى نحو (135,824,481)، أي بمعدل نمو سلبي (-0.22%)، في حين سيتحول الريف إلى ما يشبه مدن الأشباح بعدما يصل عدد سكان المدن إلى 81.4 %، وسيرتفع معدل منتصف العمر ليصبح (41.7)؛ مما يبشر بأمة ذات أغلبية من العجائز والمسنين، وأعباء إضافية على القطاع الصحي لرعايتهم.[5]

احتل الاتحاد الروسي، عام 2010، المركز الأول عالميًّا في عدد حالات الإجهاض، بمعدل (1,054,820) حالة، ورغم تراجع هذا العدد إلى (737,948) عام 2016[6]، فإنه يظل كبيرًا جدًا في بلد يعاني تراجعًا سكانيًّا مع مساحة شاسعة من الأراضي، كما أن هذا التراجع لا يدل على زيادة في معدلات القيم الدينية، أو بسبب قيمة أخلاقية أخرى؛ بل للتحسن النسبي للوضع الاقتصادي مقارنة بسنوات التسعينيات، وهو ما أدى إلى توافر وسائل منع الحمل، وزيادة الوعي لدى الشباب بممارسة “الجنس الآمن”.

أدى غياب ما تسمى بـ “القوى الناعمة” إلى معاناة روسيا من مشكلات لا حصر لها مع “محيطها القريب”، الذي كان من المفترض أن يكون الأقرب إليها، وقد تحول هذا المحيط إلى عبء وعامل استنزاف، حسب وصف البروفيسور تشاو هوا شنغ (Zhao Huasheng)، الأستاذ في معهد الدراسات الدولية، بجامعة فودان، في شنغهاي الصينية. أوكرانيا في حالة حرب تقريبًا مع روسيا، وكذلك جورجيا، وبلدان آسيا الوسطى، تتحفظ فيها أوزباكستان وتركمانستان، وكلتاهما بلد مهم، على الانضمام إلى الاتحاد الأوراسي، مع تنامي المشاعر القومية المناهضة لروسيا في كازاخستان، في حين تجبر الظروف الاقتصادية الصعبة كلاً من طاجيكستان وقرغيزستان على التقارب مع روسيا. بلدان البلطيق كلها في حالة خصومة مع موسكو، وهناك قطيعة مع مولدوفا على إثر الخلاف بشأن إقليم ترانسنيستريا، ووصول مايا ساندو، المؤيدة للوحدة مع رومانيا والتكامل مع الغرب إلى السلطة. بيلاروس، لولا الانتفاضة الشعبية ضد الرئيس ألكسندر لوكاشينكو، لربما التحقت بتحالف “ثلاثية لوبلين” بين بولندا وأوكرانيا وليتوانيا. أما الحليف الرئيسي في البلقان صربيا، فما إن ما لوح لها الغرب، وأبدى استعداده للبدء في تسويةٍ ما بشأن كوسوفو، حتى قررت بلغراد الانسحاب من المناورات السنوية مع روسيا. أرمينيا، التي تعرضت لهزيمة مذلة في حربها الأخيرة في ناغورنو قره باغ/ آرتساخ، أعاد شعبها انتخاب نيكول باشينيان، المحسوب على الغرب، والمعادي لروسيا، رغم مرارة الهزيمة؛ درءًا لما هو أكثر “مرارة” حسب وصف أحد المعلقين الأرمن، بعودة حزب أرمينيا الجمهوري، القريب من الكرملين.

غياب النموذج السياسي أو الاقتصادي، أو أي إلهام لشعوب العالم، كما كانت الحال في ظل الاتحاد السوفيتي، مع كون 77% من مساحة البلاد داخل قارة آسيا، وفقط 33% داخل القطاع الأوروبي، ورغم ذلك يسكن فيه 80% من السكان، وحدود برية من 14 دولة، منها الصين بعدد سكان مكون من عشرات الملايين على حدودها مقابل أقل من خمسة ملايين روسي، وفي ظل التدهور الديمغرافي الحالي، وعدم قدرة النظام على جعل موسكو، هوليوود أوراسيا، ومركزًا لكل الراغبين في الشهرة في الفن والموسيقى لتعزيز اللغة الروسية الآخذة في التراجع بجوارها القريب، أو أن تكون قبلة للعلم والتكنولوجيا والفرص الاقتصادية كما كانت في الماضي، أو مركزًا للنخب الثقافية الأوراسية حيث لا يهتم النظام بكل هذه الموارد الضخمة، ويؤمن فقط وحصرًا بالقوة، ونظرته إلى الثقافة والفن تكاد تكون معدومة، بناءً على كل ما سبق، يصعب جدًّا أن تكون روسيا قطبًا عالميًّا في ظل هذا الفراغ الروحي والأيديولوجي، وغياب منظومة قيمية اجتماعية راسخة، إلى جانب التدهور الديمغرافي المستمر الذي يثير أطماع الشرق والغرب في أراضيها ذات الثروات الضخمة، وبالتحديد في سيبيريا، التي وفق بريجينسكي، من الأفضل لروسيا أن تتبنى مشروع “سيبيريا الأوروبية”، ليتولى الغرب إعمارها وتطويرها بدلًا من سيطرة الصين “الحتمية” عليها.

الضعف الاقتصادي

عندما تولى الرئيس بوتين، كان اقتصاد روسيا تحت قبضة “الأوليغارشيين السبعة”، المنتمين جميعًا إلى قومية واحدة، ويمتلكون- وفق تصريحاتهم- نحو 70 % من اقتصاد البلاد، وقد واجهم بوتين بكل قوة وحزم، واستبشر الروس بأن عهدًا جديدًا من الشفافية والمساواة الاقتصادية ينتظر البلاد، ولكن سرعان ما تبدد هذا الأمل، وتبين فيما بعد أن الصراع كان على الأوليغارشية ولم يكن معها (حول دورها في العملية السياسية، وولائها الخارجي، ومدى استعدادها لدعم سياسات الرئيس بوتين). من قَبِل هذه المعادلة بقي ومن رفضها زُجَّ به في السجن، أو هرب من البلاد، وجردوا من “ممتلكاتهم”. يقول المؤرخ الروسي أندريه فورسوف: “في عهد يلتسن، كان في روسيا 8 أشخاص يمتلكون المليارات، وخلال 15 عامًا من حكم بوتين ارتفع عددهم إلى 96 مليارديرًا”.

درجة الحرية الاقتصادية لروسيا (61.5)؛ مما يجعل اقتصادها يحتل المرتبة الثانية والتسعين بين الاقتصادات الأكثر حرية في مؤشر 2021. والمرتبة الثانية والأربعين بين 45 دولة في منطقة أوروبا، وهي مرتبة أقل من المتوسطات الإقليمية والعالمية.[7]

حسب منظمة الشفافية الدولية (Transparency International)، تحتل روسيا عام 2020، المرتبة الـ (129) من (180) دولة حول العام في مؤشر الفساد، ودفع نحو 27 % من مواطنيها على الأقل رشوة إلى موظفي الخدمة العامة[8]، لتتساوى بذلك مع مالي والغابون وكينيا، وتقترب من باكستان المتفوقة عليها بخمس نقاط، حيث جاءت في المرتبة الـ (124)، وتتفوق عليها روندا بـ (80) نقطة، حيث جاء ترتيبها الـ (49)، أما الولايات المتحدة فقد جاءت في المرتبة الـ (25)، والصين في المرتبة الـ (78)، وهو ما يوضح الهوة الكبرى بين القوتين الصينية والأمريكية ونظيرتهما الروسية.[9]

ما زال الاقتصاد الروسي حتى الآن ريعيًّا، يعتمد على عائدات الغاز والنفط، ولم تتمكن روسيا بعد من تنويع اقتصادها الضعيف الذي لا يؤهلها لتحمل أعباء قوة عالمية، على سبيل المثال بلغ الناتج المحلي الإجمالي لروسيا عام 2019 (1,700) USD من التريليونات، في حين بلغ الناتج المجلي الإجمالي الأمريكي في المدة نفسها (21,428) USD من التريليونات.[10]

أدى ضعف الاقتصاد، واعتماده على الريع، وتفشي الفساد في مؤسسات الدولة، إلى هجرة رؤوس الأموال، والعقول والأدمغة الروسية إلى خارج البلاد، حتى بات المجتمع مكونًا من أربع مجموعات رئيسية هي: (النوابغ ممن يمتلكون مقومات اقتصادية تسمح لها بالهجرة إلى أوروبا أو أمريكا الشمالية، والمحظيون من أبناء الأوليغارشية وأقاربها ورجالات الدولة الذين يحصلون على وظائف مميزة بفضل دائرة علاقاتهم لا بفضل موهبتهم، والمكافحون الذين جل طموحهم الهجرة للعمل والإقامة في موسكو، وأصحاب الحظ السيئ ممن لا يمتلكون مقومات اقتصادية أو دائرة معارف قوية، وتدفن أحلامهم في دوائر أجهزة الدولة البيروقراطية خارج موسكو وسانت بطرسبرغ).

نتيجة لذلك، يعد الاستثمار في روسيا من الألعاب الخطيرة في ظل غياب القانون والشفافية، ونرجسية السلطة السياسية التي تمارس سياسة يمينية إمبريالية تجاه جيرانها الأضعف، ربما أشد قسوة من سياسات الولايات المتحدة، دون مراعاة للتفرقة بين الشعوب لتجتذبهم والنظم الحاكمة المختلفة معها، بدلاً من ذلك تساعد سياسات السلطة الروسية على تأكيد نظريات “المعادين” لها في محيطها القريب، والترويج للمقولة الشهيرة “روسيا سجن الشعوب”، وضرورة التضحية- مهما كانت- للتحرر من نيرها، والالتحاق بالمعسكر الغربي. على سبيل المثال، عندما أدت أحداث سياسية طويلة في مولدوفا عام 2009، إلى تنحي رئيسها فلاديمير فورونين، المفضل لدى موسكو لأنه من الرافضين للوحدة مع رومانيا، ووصول القوميين الراغبين في الوحدة مع بوخارست والتكامل الأوروبي، ما كان من موسكو سوى اتخاذ قرار حظر استيراد النبيذ المولدوفي؛ لعدم “مطابقته” للمواصفات الروسية (بعد أكثر من 200 سنة اكتشف الروس فجأة هذه “الحقيقة”)، مع حظر استيراد المنتجات الزراعية، وهي البلد الأشد فقرًا في أوروبا، والمعتمدة في اقتصادها على هذه الصادرات إلى روسيا؛ مما رفع معدلات العداء الشعبي لروسيا، وصولًا إلى سيطرة المناهضين لموسكو على الرئاسة والبرلمان- حدث الشيء نفسه، ولكن بشكل أشد مع جورجيا، فعندما نشبت الحرب معها عام 2008، تم طرد جميع الجورجيين العاملين في روسيا، ووقف استيراد المنتجات الزراعية والنبيذ الجورجي، ومنذ عامين تم حظر السفر المباشر إليها، حيث تعتمد السوق السياحية اعتمادًا كبيرًا على الروس. وحدث الأمر نفسه مع أوكرانيا، حيث مُنِعت التحويلات المالية إليها، ووُضِعت قيود لسفر الأوكرانيين إلى روسيا وإقامتهم فيها. يحدث هذا كله بينما يتحدث الرئيس بوتين، وباقي أعضاء الحكومة الروسية، عن “الأخوة” مع شعوب البلدان السوفيتية السابقة، وأن الشعب الأوكراني “شقيق” الشعب الروسي، وأن روسيا تفرق بين الشعب الأوكراني الذي لا يوجد بينه وبين روسيا “خلافات”، وحكومته التي لا تراعي مصالحه، في حين يوجه سلاح العقوبات في الأساس إلى الشعوب، في تناقض بين الحديث المعلن والتطبيق العملي وفق الناقدين لسياساتها، الذين يرون ألا فرق بين سياسات موسكو وواشنطن، وإن كنا مخيرين بين سياستين إمبرياليتين فسنختار إمبريالية واشنطن أو بروكسل، لأنها أكثر رحمة، وتحمل معها شيئًا من التقدم والتحديث، مقابل الأوضاع المتدنية في روسيا وعليه فلا وجود لاقتصاد روسي حقيقي، ولا قدرات روسية اقتصادية قادرة على مساعدة الحلفاء، مع خلط خطير بين الخلافات السياسية والاقتصاد دون قواعد واضحة، وعدم قدرة على اجتذاب المحيط القريب لغياب نموذج اقتصادي ناجح، وكلها أمور لا تؤهل روسيا لبناء قوة عظمى عالمية.

جدلية الأحادية والتعددية القطبية

يصف الدبلوماسي السابق، والإعلامي الروسي أرتيوم كابشوك، إحدى سمات العقلية الروسية بالقول: “يفكر الروس في غالبيتهم إما في الماضي البعيد، وإما في المستقبل البعيد أيضا”[11]، ينطبق هذا المثل على غالبية المنظرين السياسيين المحافظين والأوراسيين في روسيا، فهم منشغلون بمستقبل العالم البعيد أكثر من واقع بلدهم الحالي ومستقبله القريب، وبات الحديث عن “الأحادية” القطبية، والتبشير بعالم “التعددية القطبية”، حديثًا مكررًا في كل أدبياتهم، وصولًا إلى تفسيرات رغبوية أكثر منها واقعية بشأن خريطة تحالفات روسيا، وما الذي ينبغي للآخرين فعله.

المتتبع لكل الدوريات السياسية الأمريكية الجادة، يجد أن هناك شبه اجماع بأن زمن “الأحادية” القطبية قد انتهى، بل إن أول من استخدم مصطلح “لحظة” الأحادية القطبية، هم المنظرون السياسيون الأمريكيون أنفسهم، منتقدين بعض المحافظين الجدد، والليبراليين الحالمين، الذين روجوا لما يسمى “نهاية التاريخ”، ونشوة النصر “الزائف”- حسب وصفهم- بعد نهاية الحرب الباردة، وبات اليوم التيار الشعبي والنخبوي المناهض لمنطق “الأحادية” القطبية، يتفوق على المتشبثين بعالم تقوده الولايات المتحدة بمفردها والخلاف محصور في شكل هذا العالم، ومَن القوى التي ستشكل أقطابه وحصصها، ودور الولايات المتحدة في تنظيمه.

لقد نشأت “الأحادية” القطبية بسبب الفشل الروسي أولًا في الحفاظ على الاتحاد السوفيتي، وفي تآمر النخبة المحلية عليه، لا بسبب “تآمر” الغرب كما يدعي بعضهم؛ ونتيجة لذلك وجدت الولايات المتحدة نفسها القوة المهيمنة الوحيدة على هذا الكون في لحظة فوضوية لم يكن من الممكن استمرارها. بعد مرور عقد على هذه اللحظة، تمكن العالم من استيعاب الصدمة، ونهضت قوى جديدة وتطورت، وبدأت الصين تطفو بقوتها الاقتصادية على السطح بعدما كانت مستترة. واقعيًّا، أصبح الآخرون أقوياء بما يكفي أكثر من كون الولايات المتحدة أصبحت ضعيفة، واتضح مع الوقت أن فائض القيمة من وراء القيادة المنفردة أقل بكثير مما تستحقه، والمتتبع لسياسات إدارة أوباما، أو ترمب، أو الإدارة الحالية، يدرك أنها تتخلى عن طيب خاطر عن هذا الدور، والخلاف بين كل هذه الإدارات في آلية هذا الانتقال نحو عالم متعدد الأقطاب.

على سبيل المثال، تنتقد موسكو الانسحاب الأمريكي من أفغانستان؛ لإدراكها أن الفراغ الذي سيؤدي إليه لن تتمكن بمفردها من مواجهة آثاره، وسيكون مكلفًا. كما أن الصين لا ترغب في انسحاب الولايات المتحدة من حماية الممرات العالمية التي تُؤمن لها تجارتها دون تحملها أعباء حمايتها. أوروبا فشلت كل محاولاتها في إنشاء منظومة أمن جماعي خارج نطاق الناتو، ولا تثق أغلب بلدانها بأي مظلة أمنية لا تكون الولايات المتحدة طرفًا فيها. وبعيدًا عن تلك التصريحات الحماسية عن “الهزائم” الأمريكية، فإن الواقع يوضح (أن العالم متمسك بأمريكا، بما في ذلك خصوم أمريكا، أكثر من تمسك أمريكا بدورها العالمي، وأنه لا وجود لقوة قادرة على ضمان أمن العالم واستقراره ما بعد الهيمنة الأمريكية).

التعددية القطبية نتيجة طبيعية سيتجه إليها العالم عما قريب، وستجسد قدرات كل دولة ودورها العالمي أو الإقليمي حسب قدراتها الاقتصادية، والإبداعية، وتماسكها المجتمعي، وما لديها من قوة ردع عسكرية. لا وجود في الواقع لصراع حول ذلك المستقبل المنظور كما يحب بعضنا أن يتخيل.

خَدر القوة الزائفة

عند تتبع توصيف غالبية المنظرين الروس لما يسمى “تراجع” القوة الأمريكية على الساحة الدولية، نجد تفسيرات مختلفة، ولكنها مثيرة في الوقت نفسه، باتفاقها- في غالبيتها على أن روسيا بوتين في المقام الأول، والصين في المقام الثاني، مدفوعة بالموقف الروسي “الجريء” في مواجهة أمريكا، إلى جانب وصول شي جين بينغ إلى رئاسة الصين قد عززت من هذا الاتجاه العالمي لعكس مسار الهيمنة الأمريكية.

يغيب عن هذا التحليل المُتخيل لمسار الأحداث، أن الاتحاد الروسي، ومن قبله الاتحاد السوفيتي، وبالتحديد منذ النصف الثاني من الستينيات، ناضلا رغم اختلاف الأيديولوجية من أجل شيء واحد، وهو “قبولهم على قدم المساواة مع الغرب”، كما يذكر المؤرخ الروسي أندريه فورسوف، في دراسته الرائعة «لماذا، وكيف وُلد عالم 1991؟».[12]

لو أن هناك جهة ما قررت أن تتصدى لمشروع العولمة في إطارها الثقافي، وفرض نظام سياسي واجتماعي موحد على البشرية جمعاء لا بد من اتباعه، وشكلت جدار حماية لبقاء التنوع في هذا العالم لانتشاله من براثن شمولية أصحاب نظرية “نهاية التاريخ”، فهم- بلا أدنى مبالغة- العرب والمسلمون، وبشكل جزئي الصين بصعودها الاقتصادي المذهل في حين كان الدور الروسي هامشيًّا في هذه العملية، واستفاد من مخرجاتها النهائية.

رفض العالم العربي الفاشية ممثلة في التيارات الإسلاموية، وواجهها، ولم تتمكن من الوصول إلى السلطة لسوى فترات زمنية محدودة جدًّا، كما رفض الاشتراكية العلمية بصيغتها السوفيتية، حتى حلفاء الاتحاد السوفيتي من العرب، خطوا لأنفسهم خطًا خاصًا بهم، كما رفضوا الرأسمالية الأمريكية، وأخذوا منها فقط ما يناسبهم، في الوقت الذي كان جُل طموحات النخب الروسية أن يتم الاعتراف بها شريكًا للرأسمالية، وجزءًا من الليبرالية العالمية، حتى بعد وصول الرئيس بوتين إلى السلطة، فقد تركز نضاله كله- بحسب تصريحاته- على أن “يلتفت الغرب إلى روسيا”.

القوى التي واجهت حروب أمريكا “الفاشلة”، وواجهت تمددها العسكري والأيديولوجي، العرب، وعلى أراض عربية، روسيا لم تقدم لهم مساعدة، أو تقاتل معهم أو نيابةً عنهم يُذكر أن الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما، في حديثه المشهور عقيدة أوباما (THE OBAMA DOCTRINE)، قال: “في آسيا، والصين، وإفريقيا، وباقي العالم كله، لم نواجه تلك المشكلات في صنع التغيير كالتي واجهتنا في منطقة الشرق الأوسط”، ويعني بذلك العالم العربي.[13]

تحسُّن الوضع الاقتصادي الروسي الذي كان في حالة مزرية، كان نتيجة للتعثر الأمريكي في مشروعها بصنع “عراق جديد”، وعلى إثر ذلك ارتفع برميل النفط من 23 دولارًا في بداية عام 2003، إلى 146 دولارًا في النصف الثاني من عام 2008، ولم يكن لروسيا دور في هذا التعثر، أو دعم للجهات التي قاومت الوجود الأمريكي في المنطقة.

التدخل العسكري الروسي في سوريا، الذي بدأ في الثلاثين من سبتمبر (أيلول) 2015، ما كان له أن يحدث إلا بعد هزيمة المشروع الإسلاموي في المنطقة الذي كانت ترعاه تركيا وبعض الأطراف الأمريكية، بعد سقوط الإخوان في مصر بفضل أحداث الثلاثين من يونيو (حزيران) 2013، ومَن وقف مع مصر ودعمها في تلك المرحلة، المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، في حين كانت روسيا تَرقُب من بعيد النتائج، واستفادت منها، دون تدخل، أو القيام بأي دور.

التغير في موازين القوة العالمية كان نابعًا من فشل الولايات المتحدة في صنع التغيير الذي أرادته في منطقة الشرق الأوسط العربي، وعدم قبول شعوبه وأنظمته لمشاريعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، واستفادت الصين من هذا التورط الأمريكي اللامتناهي في حروب العراق وأفغانستان وغيرها، بصعودها الاقتصادي، وروسيا عبر زيادة أسعار النفط، وحدوث فراغات استغلتها لتبدو وكأنها صعدت من جديد كقوة “عظمى”. في مقابل هذه الحقائق الواضحة، يسقط بعض السياسيين الروس في خَدر الشعور بالنصر ونشوته، بل الادعاء بأنهم صناعه أو المساهمون بالقسط الأكبر فيه، مستغلين حالة الاستقطاب السياسي الداخلي في واشنطن العاصمة، والمبالغات النابعة من خصومات سياسية بشـأن حجم الدور الروسي في التدخل في الشأن الداخلي الأمريكي، أو خطورة التوسع الروسي على مصالح أمريكا، ويبدو أن هذا الفخ قد سقط فيه الكثيرون في روسيا؛ لأنه يداعب شعور الفخر القومي المفقود لديهم منذ عام 1991، فضخموا فيه حتى تخيلوه حقيقة (روسيا لم تساهم في تغيير العالم، والتغيير حدث لفشل المشاريع الأمريكية في المنطقة، والأخطاء التي ارتكبتها السياسة الأمريكية عبر تدخلاتها، والعمل الصيني الحكيم والدؤوب اقتصاديًّا).

نحو علاقات عربية- روسية قائمة على المصارحة

نظرًا إلى أن هذا المقال سيُنشَر باللغة الروسية، إلى جانب العربية، وعملًا بالحكمة العربية القائلة “صديقك من صَدَقَك لا من صدَّقك”، ولعلمي بأن الأصدقاء الروس يقدرون الصدق والوضوح حتى لو لم يتفقوا مع كثير مما قيل، كان من المهم توضيح جزء من عدة أجزاء من الالتباسات والمفاهيم التي أراها خاطئة في الفكر السياسي الروسي العام تجاه المنطقة وقضاياها.

رغم كل ما يقال عن “التقارب” الكبير في العادات والتقاليد، والرؤى والتصورات بين العرب والروس، لكن هذا الحديث تغلب عليه المجاملة، أو هو تفسير مجتزأ لبعض الظواهر السطحية التي يبدو منها وكأننا متقاربون، ولكننا في الواقع مختلفون في القيم والمُثل والعادات والتقاليد، ورؤيتنا للعالم وما ينبغي أن يكون عليه، ومع ذلك، فهناك مشتركات على درجة عالية من الأهمية، يمكن أن تؤسس- لأول مرة- لعلاقة صحية جادة، قائمة على المصارحة والمكاشفة، والمصالح المشتركة بين الاتحاد الروسي، وقوى الاستقرار العربية الرائدة.

في ظل التغير في الأوضاع الدولية والاقتصادية، يمكن بحق للولايات المتحدة أن تقول الآن “نحن جالسون على تلة عالية مشرقة”، ولا داعي لوجودنا وتدخلنا في المنطقة. ظاهرة الإرهاب أصبحت محلية، وفقدت صفة الدولية، ولم تعد تهدد الولايات المتحدة أو حلفاءها المقربين- النفط لم يعد سلعة إستراتيجية أمريكا بحاجة إليها، ولديها الآن فائض منه، إلى جانب الغاز الذي تسعى إلى تسويقه لأوروبا- لديها شجرة سكانية شابة في حالة نمو، في حين يعاني خصومها شيخوخة مقبلة ستستنزف جزءًا كبيرًا من ميزانيتهم- حفظ أمن إسرائيل لم يعد يشكل أولوية؛ لأنها باتت تمتلك من أدوات القوة والعلاقات ما يمكنها من حماية نفسها دون الحاجة إلى وجود أمريكي مباشر في المنطقة- لا تشكل روسيا تهديدًا للولايات المتحدة على المستوى الاقتصادي، ولا تمتلك نموذجًا مناقضًا لنموذجها يمكن أن يكون بديلًا عنه، ولا قدرة على سد الفراغ الذي يمكن أن تخلفه فتستغله، على العكس من ذلك لدى روسيا أعباء عديدة على حدودها، في حين أن حدود الولايات المتحدة آمنة، بلا مخاطر تتهددها أو تستنزف طاقاتها.

المتضرر الحقيقي من أي فوضى في المنطقة هو روسيا في المقام الأول، القريبة منها والمحتاجة إليها لتكون نافذتها على آسيا وإفريقيا وجنوب أوروبا، وهناك مصلحة عربية روسية مشتركة في ضمان الاستقرار، وأعداء مشتركون يمكن أن يهددوا أمنهما ووحدتهما الداخلية.

الحديث عن عالم متعدد الأقطاب، وتصوير أن هناك معركة عالمية مفتوحة تقودها روسيا وبعض “حلفائها” لتحقيق هذا الهدف المنشود، خلافًا لكونه مبالغة كبرى، فإن قوى الاستقرار العربية مهتمة بواقع المنطقة أكثر من مستقبل العالم، رغم نبل هذه الدعوة الكريمة للمشاركة في “صنع” التاريخ.

روسيا، وفق كل المعايير، غير مؤهلة، وليست قادرة، ولا تملك إمكانات قوة عظمى عالمية، وقد يكون الأنسب وصف الاتحاد الروسي بأنه “أقل من قوة عظمى، وأكبر من قوة إقليمية”، ولا يقلل هذا الوصف من شأن روسيا، ولا من دورها، ولا من قدرتها، فروسيا تمتلك فعليًّا كل الأدوات التي تمكنها من تحقيق قوة عظمى عالمية، ولكن حتى تأتي هذه اللحظة، قد يكون من الأفضل البناء على الحاضر، والتطلع إلى المستقبل المبني على الواقع، بعيدًا عن التمنيات.

أمام روسيا اليوم، خيارات كثيرة فيما يخص علاقتها بالمنطقة، المشاركة في حوار جاد وبناء، وإدراك اللحظة التي تفتح فيها قوى الاستقرار العربي ذراعيها لها لإقامة علاقة إستراتيجية حقيقية يستفيد منها كلا الطرفين، وتنعكس إيجابيًّا على روسيا اقتصاديًّا وجيوسياسيًّا وأمنيًّا، أو التعلق بنظريات تبدو مخالفة لكل أسس الجيوبوليتيك، من قبيل إمكانية قيام “تحالف تركي- إيراني- روسي” لقيادة المنطقة ما بعد أمريكا، أو أن طهران وأنقرة تقودان عملية التحول في النظام العالمي إلى جانب موسكو، وستشكل معًا مستقبل العالم المتعدد الأقطاب. لا التاريخ، ولا العقيدة، ولا الجغرافيا السياسية والأيديولوجية لدى كل أطراف هذا التحالف الافتراضي تمكنهم من الوصول إلى هذه النقطة وقد يكون الوصف الأمثل أننا أمام مباراة “جمباز” سياسي، أو حفلة تنكرية للتكاذب السياسي بين البلدان الثلاثة، يتخيل من خلالها كل طرف قدرته على استغلال الآخر لخدمة مصالحه الآنية، ثم ركله بعدما تنتهي حاجته.

تركيا، المأزومة في موقع جغرافي يحيط بها قوى مختلفة عنها قوميًّا ودينيًّا ومذهبيًّا، تبحث عن نافذة تمكنها من التنفس عبرها، وكانت الطموحات أن يكون العالم العربي هذه النافذة، أو الحديقة الخلفية لها، وبفضل قوى الاستقرار العربية التي تصدت لمشروعها، بدأت تركيا تدرك أخيرًا أن سعيها هذا لن يصل بها إلى أي شيء سوى خسارة محققة. قد لا يبدو من الحكمة تخيل أن تركيا قد تخلت عن مشروعها، ولكن أقدامها بدأت تلامس الأرض أكثر من أي وقتٍ مضى كانت فيه معلقة في أوهام استعادة “الإمبراطورية العثمانية” بشكل جديد، عبر حصان طروادة الإسلاموي. السؤال هنا: “إلى أي اتجاه ستكون وجهتها القادمة؟” يعتقد البعض أنها تنتظر أول لحظة ضعف روسية، أو انشغال في قضايا داخلية، لتقديم نفسها للغرب كجهة قادرة على مد نفوذها لصالح الناتو في محيط روسيا القريب، ويخدمها في ذلك العامل القومي مع شعوب بلدان آسيا الوسطى والتتر والبشكير داخل روسيا، والشرعية التاريخية لحكمها البلقان قرونًا، ومبدأ “شعب واحد في دولتين” مع أذربيجان، والعاطفة الدينية مع مسلمي شمال القوقاز، والعلاقات المتنامية مع أوكرانيا وجورجيا.

إيران هي أيضًا تعاني الأزمة نفسها، حيث يختلف عنها محيطها ثقافيًّا ومذهبيًّا ودينيًّا، وتبحث عن متنفس لمد نفوذها وصراعها في الواقع على أمريكا لا معها، حيث تسعى السياسة الإيرانية إلى تأكيد قوتها ونفوذها للطرف الأمريكي والغربي لتحصل على شرعية وجودها عبر ميليشياتها في المنطقة، لتعود إلى رؤيتها الراسخة بأن روسيا هي الخصم والخطر الأكبر على حدودها، مع مشروعاتها الخاصة في طاجيكستان وأفغانستان وجنوب القوقاز، ومنطقة الخليج مع ما تمثله من أهمية كبرى لسوق النفط العالمية. كما اتخذت قوى الاستقرار العربي، موقف حياد إيجابي لصالح روسيا في أزمتي جورجيا وأوكرانيا، وموقف متحفظ تجاه سيطرة طالبان على أفغانستان، عكس الموقف التركي المؤيد لكلا البلدين، ويمكن باستثماراتهم والعمق الحضاري العربي الإسلامي، موازنة التدخلات التركية والإيرانية المهددة لروسيا في محيطها القريب.

عربيًّا، لا وجود لعامل قومي مع مسلمي روسيا يمكن أن يشكل خطرًا على وحدة الاتحاد الروسي، وتناهض قوى الاستقرار العربي الأيديولوجية الإسلاموية التي تسعى باسم الإسلام إلى خدمة مشاريع جيوسياسية خاصة بقوى أخرى، ومن مصلحتها ألا يكون لطهران أو أنقرة نفوذ في البلقان، أو آسيا الوسطى، أو القوقاز، فضلاً عن داخل روسيا. وإلى جانب حكم الجغرافيا الذي يخلق مصالح ومخاطر مشتركة، هناك بُعد تاريخي روحي مهم في العلاقة بين الطرفين، الديانة الإبراهيمية بعقائدها الثلاث (اليهودية، والمسيحية، والإسلام)، وهي العقائد التي يعتنقها غالبية الروس اليوم، وجهة المؤمنين بها وقبلتهم ومقدساتهم تقع في الشرق العربي؛ مكة المكرمة والمدينة المنورة، قدسا أقداس المسلمين، تقعان في المملكة العربية السعودية، التي إليها يتوجه المسلمون الروس خمس مرات في اليوم لأداء صلواتهم- الحج في الأرثوذكسية الروسية يكون إلى ثلاثة أماكن مقدسة (القدس في فلسطين، ودير سانت كاترين في سيناء المصرية، يليهما في الأهمية جبل آثوس في اليونان)، فلسطين تقع فيها البقعة المقدسة لليهود الروس كما لباقي يهود العالم، ويشترك معهم في ذلك  المسلمون والأرثوذكس الروس.

بناءً على ما سبق، قد يكون من المفيد، في هذه المرحلة، بدء ورشة عمل فكرية عربية- روسية؛ لبدء الترتيب لشكل جديد يراعي المتغيرات العالمية والإقليمية، ومبني على الصراحة والقدرات والإمكانات؛ لبدء علاقة تعاون، وشراكة حقيقية.

مشروع خريطة طريق

التركيز على الأخطار المشتركة، وهي كثيرة، وهناك توافق في العموم بشأنها، بحاجة إلى تدعيمه بحوار دائم، في إطار كتلة واحدة لبلدان الاستقرار العربي، أو «تحالف القادرين» لمواجهة خطر الإسلاموية، وهناك أيضا مشاريع التثوير ودعم “الثورات الملونة”، ورفض النماذج السياسية الغربية المستنسخة، وفرضها على ثقافات وبلدان مختلفة، واحتكار الدولة للسلاح ومواجهة انفلاته، مع ضرورة إدراك الجانب الروسي أن تسامحه مع الميليشيات المدعومة من إيران يشكل رد فعل عكسيًّا يؤدي بدوره إلى تحفيز ميليشيات مضادة لها تمثل خطرًا عليها، وتأسيس منظومة أمن جماعي لتحقيق اكتفاء ذاتي لحفظ الممرات البحرية، وتدفق الطاقة إلى الأسواق العالمية، ودعم حوار الأديان والحضارات وقيم التسامح وقبول الآخر.

زمن المقايضة، إما واشنطن وإما موسكو، لم يعد له وجود الآن، وفي حال إصرار الجانب الروسي على هذه المقايضة لن يكون أمام بلدان المنطقة وشعوبها سوى اختيار واشنطن، رغم أي خلافات معها؛ نتيجة للمقومات التي تمتلكها واشنطن، وتفتقدها موسكو، كما سلف، وتم توضيحه. بدلاً من ذلك، فإن البناء على المشتركات، واختيار المشروعات المفيدة لكلا الطرفين، دون خلق أزمات مع واشنطن تعطل مجمل تطور العلاقات مع موسكو، هو الخيار الأفضل.

العمل التدريجي المستقر خير من كلام ووعود كبيرة، دون القدرة الفعلية على تطبيقها، ومن هذه المجالات جوانب التجارة المشتركة، والسياحة، والطاقة النووية السلمية، والتصنيع العسكري الخفيف، والتعاون في مجال الفضاء، وتعزيز آلية (أوبك بلس) التي أكدت نجاحها مع السعودية، وخلق إطار عمل دائم أكثر استقرارًا لها، وتنظيف الفوضى التي خلّفتها أحداث ما يسمى “الربيع العربي”، وبدء إعادة إعمار سوريا وليبيا والعراق، وكلها مشروعات معطلة ستستفيد منها روسيا، ولا يمكنها القيام بها دون توافق مع قوى الاستقرار العربي. ويطول الحديث عن أوجه التعاون المفيدة لكلا الطرفين دون استفزاز أطراف أخرى يمكن أن تعمل على تعطيلها.

أخيرًا، تحتاج المراكز البحثية، والشخصيات السياسية العربية، إلى خلق انفتاح أكبر على القوى السياسية والفكرية الروسية، وإدارة حوار هادئ معها، وخلق خطوط تواصل إعلامية مع الطرف الروسي؛ لأن غالبية الأخبار عن القادة العرب في روسيا مصدرها ترجمات الإعلام الغربي، أو التواصل المباشر النشط من الجانبين التركي والإيراني مع جهات داخلية روسية؛ مما يخلق صورة مشوشة عما يحدث في المنطقة من أحداث، فحتى اللحظة، هناك فهم خاطئ لكثير من القضايا، يحتاج إلى ورش عمل ممتدة لخلق رؤية قائمة على فهم صحيح، كما أن المبالغة العربية في بعض الوعود، أو الحديث عن تطوير للعلاقات في جوانب عدة، دون التركيز على المشتركات، أمر لا يحبذه الجانب الروسي، ويؤدي إلى ردود فعل عكسية، فالعلاقات مع روسيا تظل مهمة إذا وُضعت في إطارها الصحيح، بعيدًا عن التخيلات والأوهام، أو المبالغات.

ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.

[1] Metropolitan Hilarion –  Russian Orthodox Church Outside of Russia – Appeal by Metropolitan Hilarion on the celebration of the 1,025th anniversary of the Baptism of Rus – June 19, 2013, http://www.synod.com/synod/eng2013/20130619_enmhappeal1025.html

[2] برنامج رأي عام – قناة تن الفضائية – ألكسندر دوغين – 03 سبتمبر 2020 https://www.youtube.com/watch?v=FNsJ_tX7_5U&t=2s

[3] Digital Archive – Wilson Center – February 22, 1946

George Kennan’s ‘Long Telegram’, https://digitalarchive.wilsoncenter.org/document/116178.pdf

[4] Zbigniew Brzezinski – The American Interest – Toward a Global Realignment – April 17, 2016, https://www.the-american-interest.com/2016/04/17/toward-a-global-realignment/

[5] Population of Russia (2020 and historical) – World Meters, https://www.worldometers.info/world-population/russia-population/

[6] Минцифры России – Число прерываний беременности, https://www.fedstat.ru/indicator/41696.do

[7] Economic Freedom – The Heritage Foundation – Russia – 2021, https://www.heritage.org/index/country/russia

[8] Transparency International – Center for Anti-Corruption Research and Initiative Transparency International Russia 2020, https://www.transparency.org/en/countries/russia#

[9] Transparency International – CORRUPTION PERCEPTIONS INDEX 2020, https://www.transparency.org/en/cpi/2020/index/pak

[10] Russia Economic Outlook – Russia Economy Data, https://www.focus-economics.com/countries/russia

[11] مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث- سمات العقلية الروسية – 19 أبريل 2021، https://www.youtube.com/watch?v=gaE7Alrkf0g&t=1164s

[12] Андрей Фурсов – Газета – Капитализм, СССР-1 и СССР-2 – 22 июля 2021, https://zavtra.ru/blogs/zhizn_i_smert_kapitalizma_3

[13] By: Jeffrey Goldberg – The Atlantic – THE OBAMA DOCTRINE – APRIL 2016 ISSUE, https://www.theatlantic.com/magazine/archive/2016/04/the-obama-doctrine/471525/


شارك الموضوع