تمتد منطقة دول اسيا الوسطى من بحر قزوين غربًا، الذي كان يعرف باسم “بحر الخزر”، إلى الصين ومنغوليا شرقًا، ومن أفغانستان وإيران جنوبًا إلى روسيا وسيبيريا شمالًا.
تتكون المنطقة من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، التي استقلت عنه في نهاية عام 1991، وتتكون حاليًّا من (أوزبكستان، وتركمانستان، وكازاخستان، وطاجكستان وقيرغيزستان).
يُشار إليها أيضًا بالعامية باسم “الستانات”؛ حيث إن جميع الجمهوريات التي تعد عمومًا داخل المنطقة لها أسماء تنتهي بالكلمة الفارسية “ستان”، التي تعني: “أرض، أو وطن، أو مكان”، مع أن تعريف هذه المنطقة موجود، فإنه لا يوجد تعريف متفق عليه عالميًّا لوصف هذه المنطقة، مع أن تحديد حدود المنطقة تحديدًا دقيقًا لم يحسم، حيث تشترك المنطقة في كثير من الخصائص العامة، أولاها أن آسيا الوسطى كانت من الناحية التاريخية مترابطة ترابطًا وثيقًا؛ ونتيجة لذلك كانت منطقة تقاطع الطرق لحركة الناس والسلع والأفكار بين أوروبا، والشرق الأوسط، وجنوب آسيا، وشرق آسيا على طول أحد فروع طريق الحرير، وحينئذٍ كان يطلق عليه بالفارسية “راه أبريشم”. وتعرف أحيانًا باسم “آسيا الداخلية”؛ فهي تقع ضمن مجال القارة الأوراسية، وتعرف جمهوريات آسيا الوسطى بالدول الحبيسة، أو المنسية، أو المختفية، أو المجهولة؛ وذلك لقلة المعلومات الواردة عنها، التي لا يعرف عنها أحد، لا القاصي ولا الداني، حيث تقع في منطقة بعيدة عن البلدان العربية والشرق الأوسط خاصة، ولا يوجد فيها أي موانئ تطل على بحار مفتوحة حيث البحر الوحيد الذي يحيط بها يعرف ببحر قزوين، وهو بحر مغلق يحيط بجمهوريات آسيا الوسطى، كما تطل عليه جمهوريات القوقاز من الجانب الآخر، وتحده روسيا من الشمال، وإيران من الجنوب، ولا يطل عليه سوى جمهوريتي تركمانستان وكازاخستان، وهناك طابع مميز يغلب على جغرافيا هذه البلدان، وهو كثرة الجبال العاتية، والوديان والمجاري المائية الضخمة، ومرور نهر سيحون المعروف فى اللغة الفارسية بـ “سير دريا”، ونهر جيحون المعروف في اللغة الفارسية باسم “أمو دريا”، في معظم بلدانها. وفي مرحلة ما قبل الإسلام وأوائل العصور الإسلامية، أصبحت منطقة آسيا الوسطى موطنًا للعرق الكازاخي، والأوزبك، والتتار، والتركمان، والعرق الطاجيكى الآري، والقيرغيز والأويغور، وحلت اللغات التركية محل اللغة الفارسية والدرية التي كانت منتشرة في المنطقة.
منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى نهاية القرن العشرين تقريبًا، كانت معظم منطقة آسيا الوسطى جزءًا من الإمبراطورية الروسية، ثم الاتحاد السوفيتي فيما بعد. والمنطقة موطن لنحو 7 ملايين من أصل روسي (500,000) أوكراني.
هناك تنافس تركي إيراني لمد نفوذهما لاستقطاب أكبر عدد من تلك الجمهوريات للدخول في مناطق نفوذ كل منهما؛ حيث توظف كلتا الدولتين المعطيات الحضارية والجغرافية والثقافية التي تربط كلا منهما بشعوب ودول اسيا الوسطى والقوقاز، وحرصت كلتا الدولتين على تقديم نفسها كنموذج يحتذى به بين هذه الدول، وقد بلغ هذا التنافس ذروته في جمهورية أذربيجان التي تتجاذبها إيران مذهبيًّا، وتركيا قوميًّا. أما تفصيل ملامح سياسة كل من تركيا وإيران في آسيا الوسطى والقوقاز، فهي على النحو التالي:
أولا: التحرك التركي في سبيل إحياء المشاعر التورانية، ويقصد بذلك إعادة بروز ما يمكن الاصطلاح عليه بـ “العالم التركي” الذي يمتد جغرافيًّا من البلقان غربًا إلى الصين شرقًا ويضم أكثر من 150 مليون نسمة، وتركز تركيا في تعاونها مع التجمعات التركية في المنطقة على الجانب الثقافي؛ لتفادي إثارة النزعات العرقية الاستقلالية التي يمكن أن تنعكس على تركيا نفسها؛ لذا فإن ثلثي الاتفاقيات المبرمة بين تركيا والجمهوريات الجديدة في آسيا الوسطى والقوقاز تتعلق بالتعاون الثقافي واللغوي.
كما تجدر الإشارة إلى نجاح المساعي التركية في تنظيم المؤتمر الثاني للشعوب التركية للاتحاد السوفيتي في أبريل (نيسان) 1991، في مدينة قازان في جمهورية تتارستان الفيدرالية الروسية، وقد جمع ممثلي جمهوريات آسيا الوسطى وبعض الأقاليم المستقلة ذاتيًّا، وقرر المؤتمرون تأسيس حزب مؤتمر الشعوب التركية.
أما بالنسبة إلى تصدير النموذج التركي، فتعمل تركيا على الظهور كنموذج يتميز بخصوصيات رئيسية، أهمها: “التعددية السياسية، وتجربة التحول إلى اقتصاد السوق، والإرث التاريخي والثقافي والقومي المشترك، والوحدة المذهبية بين شعوب تلك المنطقة كافة” (شعوب المنطقة في العموم أحنافٌ في الفروع، مَاتُريدِيَّةٌ في الأصول).
تلقى تركيا تشجيعًا من القوى الغربية الكبرى للترويج لنموذجها في دول اسيا الوسطى، وإن اختلفت الأهداف، في حين ترى روسيا في نموذج “الإسلام التركي” البديل الجيد المتاح لمواجهة الأفكار السلفية المتطرفة التي نمت في المنطقة نتيجة تأثر بعض الجماعات فيها بالحركات السلفية في العالم العربي.
من بين ما تهدف إليه الطبقة الحاكمة التركية إحداث ريع إستراتيجي جديد يجعل تركيا هي رأس الحربة للغرب تجاه القوقاز وآسيا الوسطى، بعد أن كانت تؤدي هذا الدور تجاه الاتحاد السوفيتي سابقًا؛ ومن ثم تبرهن أنقرة من جديد على دورها الإستراتيجي، وتحافظ على تدفق المساعدات إليها، كما تسرع من الاندماج في السياسة والاقتصاد الغربيين وتجدر الإشارة إلى أن الاختراق السريع الذي قامت به تركيا في هذه المنطقة لم يكن ليتم بسهولة دون المساندة الأمريكية غير المشروطة لتركيا لتكون قوة استقرار في المنطقة، وعاملا موازنًا لإيران، وفي هذا السياق يندرج القرار الأمريكي في فبراير (شباط) 1992، بالاعتماد على تركيا لتنظيم عملية “إعادة الأمل” لمساعدة الجمهوريات الاشتراكية السابقة في آسيا الوسطى والقوقاز، وهو ما دفع إيران إلى وصف تركيا بأنها “عميل للولايات المتحدة الأمريكية يسعى إلى فرض نموذج غربي على جمهوريات آسيا الوسطى بهدف محو شخصيتها الإسلامية”؛ لذا كان من الطبيعي أن تتسم علاقات هاتين الدولتين الإقليميتين بالتنافس، ومحاولة كل منهما موازنة نفوذ الأخرى وارتباطاتها الإقليمية والدولية، كما أن هذا التنافس لا يعني غياب أسس موضوعية للتعاون، أهمها الروابط الحضارية المشتركة، وفشل كل منهما في الانضمام إلى طرق بديلة، وما يوفره التعاون من إمكانات ضخمة للمنطقة كلها.
تتوقف سياسات الدولتين في هذه المنطقة على عوامل كثيرة، أهمها حل التناقضات الداخلية، والقدرة على تلبية حاجات الدول الناشئة المتطلعة إلى دوريهما، ومواجهة نفوذ القوى الكبرى خاصة الأمريكي والروسي الذي لا يزال المحدد الأبرز لسياسات المنطقة.
التحرك الإيراني تجاه بلدان آسيا الوسطى ينقسم إلى قسمين، الأول: تجاه جنوب القوقاز، كوسيلة للثاني تجاه آسيا الوسطى، وهنا تأتي جمهورية أذربيجان في مقدمة الاهتمامات الإيرانية لاعتبارات أساسية تمس بالوحدة الإيرانية، وأهمها:
التداخل الإثني، إذ يوجد نحو 6 ملايين أذري يعيشون بالأخص في شمال غرب، وفي المنطقة المتاخمة للحدود مع جمهورية أذربيجان، ونحو 60٪ منهم لا يتكلمون الفارسية بالإضافة إلى الحدود المشتركة، وانتشار المذهب الشيعي، والتخوف الإيراني من إحياء المطالب التاريخية بتوحيد الشعب الأذري، خاصة أن هناك شاعرين من أعظم الشعراء الفرس الذين عاشوا في أذربيجان، وهما الشاعر الكبير نظامي الكنجوي، الذي عاش في ظل العصر السلجوقي، وهو من مدينة كنجا، والشاعر الآخر هو خاقاني الشيرواني، الذي عاش في شيروانشاه، وعاش أيضًا في العصر السلجوقي، ويعشقهما الأذريون بصفة عامة؛ ولذا اتسم تحركها برفض الطرح التاريخي بشـأن تقسيم أذربيجان (الكبرى)، وتغليب البعد المذهبي الديني على البعد القومي، والتدخل الدبلوماسي من أجل تسوية النزاعات، ولا سيما النزاع بين أرمينيا وأذربيجان، والدعم المالي لكثير من المنظمات الثقافية والاجتماعية، وحتى السياسية العاملة في أذربيجان، حتى إن سلطات باكو اتهمت إيران بالعمل على فرض النموذج السياسي الإيراني.
وبالسياسة الذرائعية نفسها، تطمح طهران إلى جعل منطقة جنوب القوقاز، منفذًا إستراتيجيًّا للنفط والغاز الإيرانيين عبر البحر الأسود نحو أوروبا، وقد شرعت في تمويل توسيع ميناء بوتي على البحر الأسود، وتحديث المصفاة الجورجية في باطومي، إضافة إلى احتمال تمويل إيران لمشروع خط أنبوب الغاز والنفط، وإنجاز طريق بري بين البلدين عبر أذربيجان، وقد التزمت طهران بتموين جورجيا بربع حاجاتها من الغاز، وتزويد مصنع طائرات سوخوي قرب العاصمة “تبيليسي” بالألومنيوم الإيراني مقابل التزام جورجيا ببيع طائرات حربية لإيران.
الثاني: التحرك الإيراني تجاه جمهوريات آسيا الوسطى مقارنة بجمهوريات جنوب القوقاز، وتتوافر لطهران إمكانات تحرك أحسن تجاه جمهوريات آسيا الوسطى، أهمها:
عامل الجغرافيا الذي يفرض إيران كأقرب طريق نحو مياه الخليج لتطوير المبادلات مع العالم الخارجي، بالإضافة إلى تفوق انتشار الإسلام، وأهمية الأقليات الفارسية، والروابط الثقافية العريقة، والحدود الطويلة المشتركة مع تركمانستان، وإمكانية الوصول إلى كازاخستان عبر بحر قزوين.
في هذا الإطار، تدرك طهران أهمية التنمية في حفظ الاستقرار على الحدود الشمالية؛ ولذلك تعمل بثبات على إقامة روابط اقتصادية متينة.
تسعى إيران إلى بناء شبكات سكك حديدية تربطها من خلال مدينة مشهد الإيرانية، مع جمهوريات آسيا الوسطى؛ وذلك لارتباطها بمزارات الشيعة في تلك المنطقة، ولأنها تقع في أقصى الشمال الشرقي من إيران، وهي المنطقة المتاخمة للحدود مع جمهورية تركمانستان التي تصل بتلك الجمهوريات قاطبة، وهو المشروع الذي سيفك عزلة تلك الجمهوريات، ويوفر لها مخرجًا بريًّا مباشرًا إلى مياه الخليج، كما يكسر عزلة طهران دوليًّا، ويجعلها حلقة مركزية في المحاور الاقتصادية التي تقام في المنطقة.
تأتي جمهورية تركمانستان في مقدمة الطموحات الإقليمية الإيرانية، إذ افتتحت في عشق أباد أول سفارة لإيران في آسيا الوسطى، ويرجع هذا الاهتمام إلى عوامل عدة، أهمها:
الحدود المشتركة الطويلة، ووجود نحو مليوني نسمة من التركمان في إيران، أي ما يعادل نصف سكان تركمانستان؛ ومن ثم فهي تطرح تقريبًا الإشكال نفسه الذي تطرحه جمهورية أذربيجان لإيران، إذ تعد مجالا حيويًّا، ومصدر قلق في الوقت نفسه. كذلك انتعشت العلاقات الإيرانية مع جمهوريات آسيا الوسطى وأوزبكستان مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، ومما ساعد على ذلك المكانة المتميزة التي بقيت الثقافة الفارسية تحظى بها في آسيا الوسطى وأوزبكستان، خاصة أنها ظلت راسخة قرونًا عديدة وكان لها تأثيرها البالغ في المجالين الثقافي والسياسي، حيث تقع مدينتا سمرقند وبخارى- أهم مدن الثقافة الفارسية- في آسيا الوسطى.
أما جمهورية طاجيكستان فقد اكتسبت أهمية خاصة في إطار الطموحات السياسية الإيرانية؛ بسبب انتشار الإسلام فيها دون منازع، والأصول الفارسية لأغلبية سكان طاجيكستان مقارنة مع بقية الجمهوريات الأخرى، والانتشار الواسع للغة الفارسية، وتخوف الطاجيك ذوي الأول الفارسية من سيطرة الأغلبية ذات الأصول التركية في مجال آسيا الوسطى.
عكس تحركها الديني النشط في أذربيجان، اتسمت سياسة إيران تجاه طاجيكستان بالواقعية والحذر من تنامي المطالب السياسية لبعض الأطراف الداعية إلى إقامة “طاجيكستان كبرى”، تمتد- وفقًا للقوميين الطاجيك- من كابول إلى بخارى، بدلاً من ذلك فضلت إيران دور الحكم في الصراعات السياسية الداخلية، وعقب سقوط الحكومة الائتلافية مع الإسلاميين والليبراليين عام 1992، كانت طهران سباقة إلى الاعتراف بالحكومة الشيوعية الجديدة في دوشانبي.
أما بالنسبة إلى التعاون الإقليمي فقد شرعت إيران وتركيا– بحماسة واضحة- في العمل على إدماج علاقاتهما الثنائية بالجمهوريات المستقلة في أطر تعاون إقليمي تستطيعان من خلالها هيكلة المجال المجاور في منظمات تعاون إقليمي، وصوغ المحتوى السياسي والتوجه الخارجي للتنظيم الإقليمي المقترح. وبشـأن المبادرات الإقليمية الإيرانية فقد تم إحياء نشاط منظمة التعاون الاقتصادي التي أنشئت عام 1985، وتضم تركيا وإيران وباكستان، وقد عملت طهران على انضمام أذربيجان وتركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان وكازاخستان، ويتطلع القادة الإيرانيون إلى أن تصبح هذه المنظمة سوقًا إسلامية كبيرة تضم 250 مليون نسمة على مساحة 4 ملايين كيلومتر مربع، وتأسيس مجلس التعاون لبحر قزوين في أبريل (نيسان) 1992، بهدف تسهيل المبادلات التجارية والملاحة، وتطوير الموانئ، والتنقيب على النفط والغاز، واستغلال الموارد البحرية، إضافة إلى تأسيس منظمة ثقافية إقليمية للشعوب الناطقة بالفارسية، تضم إيران، وطاجيكستان، وبعض المجموعات من الفصائل الأفغانية.
تحقق هذه المبادرات لإيران مكاسب عدة، أهمها منافسة التطلعات التورانية لتركيا والداعية إلى تجميع الشعوب التركية، وفتح المجال للجمهوريات ذات الأغلبية المسلمة للخروج تدريجيًّا من دائرة النفوذ الروسي، والتخفيف من حدة التطلعات القومية العابرة للحدود، وتقليص تدخل القوى المعادية في المنطقة، وخاصة احتمالات توسع الناتو فيها.
أما ردود الفعل التركية، فقد تميز تحرك تركيا الإقليمي بطرح مشروعات موازية ومماثلة للمشروعات الإيرانية؛ فقد دعت تركيا في أكتوبر (تشرين الثاني) 1992 إلى مؤتمرات قمة للدول ذات الأغلبية التركية في آسيا الوسطى والقوقاز، كما سارعت إلى إنشاء منطقة التعاون الاقتصادي للبحر الأسود في يونيو (حزيران) 1992 في إسطنبول، وتضم الدول المطلة على البحر الأسود، إضافة إلى ثلاث دول غير مطلة عليه، وهي ألبانيا، وأرمينيا، وأذربيجان.
لكن تدخل القوى الكبرى في المنطقة، وخاصة سياسة الاحتواء والمقاطعة الأمريكية التي تقف ضد أي مشروع تعاون إقليمي تشترك فيه إيران مع جمهوريات آسيا الوسطى أعاق تفعيل كثير من مبادرات التعاون تلك. كما يجب ألا ننسى في هذا السياق أيضًا أن إسرائيل تسعى، منذ استقلال جمهوريات آسيا الوسطى عن الاتحاد السوفيتي، إلى تمتين العلاقات معها، لا بل تنويع هذه العلاقات؛ لتصبح أبواب هذه الكتلة الآسيوية مفتوحة أمامها لاستثمارها والنفاذ إليها لدعم موقفها في فلسطين، وانعكاسات ذلك على العلاقات العربية مع دول اسيا الوسطى. وهو ما يطرح عدة أسئلة، أبرزها: ما أسباب التغلغل الإسرائيلي في آسيا الوسطى؟ وما الوسائل التي استخدمتها إسرائيل لتسهيل عملية تغلغلها في دول آسيا الوسطى؟ وما مستقبل التغلغل الإسرائيلي في آسيا الوسطى؟
عند البحث عن أسباب التغلغل الإسرائيلي في آسيا الوسطى، تبدو للمراقب ثلاثة أنواع رئيسية من العوامل التي تفسر أسباب هذا التغلغل، فهي إما عوامل إستراتيجية، وإما اقتصادية، وإما أمنية.
العوامل الإستراتيجية، يرى بعض الباحثين الغربيين أن هناك عدة عوامل إستراتيجية للتغلغل الإسرائيلي في آسيا الوسطى، لعل من أبرزها:
(1) تحييد دور العرب والمسلمين في آسيا الوسطى، والحد من تطوير علاقتهما المشتركة، وخاصة إذا كان لها تأثير لتقييد التحرك الإسرائيلي في المنطقة؛ خشية أن تثمر تلك العلاقات انعكاسات وتداعيات من شأنها أن يكون الميزان السياسي في غير صالح إسرائيل، في المنظمات الدولية.
(2) الوجود الإسرائيلي من الناحية الجغرافية مهم جدًّا في تلك المنطقة، حيث ترى إسرائيل في آسيا منطقة عمق لها يمتد من البحر الأحمر كشريط بحري له إطلالة عسكرية وصولاً إلى أوزباكستان في آسيا الوسطى.
في حين يفسر بعض الباحثين الآسيويين أسباب تغلغل إسرائيل الإستراتيجي في آسيا الوسطى، بالتالي:
(1) تحسين الوجه الإٍسرائيلي، وجعله مقبولا لدى الأوساط الآسيوية المسلمة.
(2) إظهار أهمية اعتماد دول آسيا الوسطى على إسرائيل في إعداد كوادرها العسكرية وتأهيلهم.
(3) تقديم التسهيلات التي تتيح بناء علاقات مع أنظمة دول اسيا الوسطى.
(4) إظهار قدرة إسرائيل على خدمة أجندة دول آسيا الوسطى عمليًّا وعسكريًّا.
تهدف إسرائيل من وراء كل ذلك إلى قطع الطريق أمام كل من إيران وتركيا والدول العربية. لتحويل المنطقة إلى مركز نفوذ جديد لهم بعد تفكك الاتحاد السوفيتي.
عقب استقلال جمهوريات آسيا الوسطى، سارعت عدة دول عربية إلى الاعتراف باستقلالها، وكانت مصر من الدول المبادرة إلى افتتاح سفارات لها في جمهوريتي أوزبكستان وكازاخستان، في حين يرعى السفير المصري في كازاخستان المصالح المصرية في قيرغيزستان، ويرعى السفير المصري في روسيا المصالح المصرية في طاجكستان وتركمانستان.
كما تبادل الطرفان كثبرًا من الزيارات، فقد قام الرئيس الكازاخستاني نور سلطان نازارباييف بثلاث زيارات إلى مصر، كانت الأولى عام 1993، والثانية عام 2007، والثالثة عام 2008، وكانت الزيارة الأخيرة من أجل المشاركة في فعاليات المنتدى الاقتصادي العالمي الذى عقد في شرم الشيخ، ومنحه الرئيس المصري وسام قلادة النيل، في حين كانت الزيارة الأولى للرئيس المصري السابق مبارك لكازاخستان في نوفمبر (تشرين الثاني) 2006، وقد أعطت هذه الزيارة دفعة قوية للعلاقات المصرية الكازاخستانية، كما زار الرئيس الأوزبكى الراحل إسلام كريموف مصر عام 1994 لافتتاح سفارة بلاده في القاهرة، وكذلك عام 2007، هذا بالإضافة إلى زيارات بعض الوزراء والمسؤولين.
وعلى الصعيد الثقافي، ارتكزت سياسة مصر تجاه تلك الكيانات على البعد الديني الممثل في الأزهر الشريف، ووزارتي الأوقاف والتعليم، ولعل أحد مظاهر هذا التعاون، بناء مركز مبارك الإسلامي في مدينة ألماتا الكازاخية بتكلفة تجاوزت 15 مليون دولار أمريكي، وكلية مبارك للدراسات العربية في العاصمة التركمانستانية عشق آباد، بالإضافة إلى المنح الدراسية المقدمة من الأزهر الشريف، وإرسال الأئمة والمحاضرين على نفقته الخاصة إلى المؤسسات الدينية التابعة لتلك الدول، ومنذ عام 1993 تلقى أكثر من 150 من الطلاب الكازاخستانيين تعليمهم في الجامعات المصرية المختلفة على حساب الجانب المصري، كما شارك أكثر من 700 متخصص كازاخي من مختلف التخصصات، كالاقتصاد والحقوق، والزراعة، والإعلام، والسياحة، في الدورات التي ينظمها الصندوق المصري للتعاون الفني مع دول آسيا الوسطى.
وعلى صعيد العلاقات الاقتصادية، عانت دول آسيا الوسطى عقب استقلالها تدني أحوالها الاقتصادية رغم ما تملكه من موارد طبيعية، لا سيما في مجال النفط والغاز الطبيعي واليورانيوم، وهو ما استرعى انتباه الأقطاب الدولية والإقليمية، وتحديدًا إسرائيل، التي سرعان ما ثبتت أقدامها في تلك المنطقة، مستغلة بذلك ضعف الحضور العربي في تلك الدول. رغم الصلات الثقافية المصرية القوية، فإنها لم تتجه إلى تحقيق مستوى التعاون الاقتصادي المطلوب، فتشير الأرقام والإحصاءات إلى أن حجم التبادل التجاري بين مصر وكازاخستان بلغ عام 1997 نحو 28.6 مليون جنيه مصري، وزاد حتى وصل إلى أقصى درجاته عام 2008، فوصل إلى نحو 920 مليون جنيه مصري، فيما بلغت الواردات المصرية من جمهورية كازاخستان نحو 886 مليون جنيه، في حين بلغ حجم الصادرات المصرية إلى كازاخستان نحو 34 مليون جنيه، ثم تضاءل حجم التبادل التجاري بين البلدين عام 2011 بنحو 175 مليون جنيه مصري، وهو ما يعني في مجمله أرقامًا محدودة جدًّا.
إن دور الجامعة في هذا السياق قد تبلور من خلال اجتماع الغرف والاتحادات العربية ومثيلاتها بدول آسيا الوسطى وجمهورية أذربيجان، إضافة إلى رجال الأعمال والمستثمرين من الطرفين، وهو الاجتماع الذي عقد في مدينة الرياض يومي 28 و29 أبريل (نيسان) 2014.
كما أُطلق منتدى الاقتصاد والتعاون العربي مع دول اسيا الوسطى وأذربيجان، في دورته الأولى 11 مايو (أيار) 2014، الذي أسفر عن توافق المشاركين على تشجيع الاستثمارات المتبادلة، وخلق مناخ مناسب لجذب رجال الأعمال والمستثمرين من الجانبين، ودراسة العوائق التي تواجههم، وسبل إزالتها، وإبرام اتفاقيات ثنائية لحماية الاستثمار وتشجيعه وتفادي الازدواج الضريبي.
هذا إلى جانب تطوير قطاعات النقل البري والبحري والجوي والسكك الحديدية بين الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية ودول آسيا الوسطى وجمهورية أذربيجان، والتوافق على تنسيق المواقف في المحافل الاقتصادية والتجارية، والتعاون مع الأطراف الدولية الأخرى بهدف الإسهام في عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية على المستوى الدولي بما يخدم مصالحهم.
تم الاتفاق أيضًا على تبني أنشطة متعددة تعكس دور الدول العربية ودول آسيا الوسطى وجمهورية أذربيجان في الثقافة العربية الإسلامية، والدعوة إلى العمل على المحافظة على الإرث الحضاري، والتعاون على تطوير البرامج في مجالات الثقافة والترجمة والمؤسسات التعليمية، من خلال إقامة المعارض الثقافية المشتركة، والمهرجانات الفنية ومعارض الكتب، وتشجيع إقامة الروابط بين مراكز البحوث والدراسات والمراكز العلمية، وتبادل الطلاب والمنح الدراسية، وفي السنوات الأخيرة تم الاتفاق بين رؤساء هذه الدول والمسؤولين المصريين على تبادل الوفود السياحية لزيارة القاهرة وشرم الشيخ، في مقابل أن يزور السياح المصريون المعالم الأثرية في كل من بخارى، وسمرقند، وحواضر العالم الإسلامي في تلك البلدان.
تقوم منظمة التعاون الإسلامي على توطيد العلاقات بين دول آسيا الوسطى مع الدول الإسلامية بصفة عامة، والدول الخليجية بصفة خاصة، لتعريف المصالح المشتركة، لا سيما أن المنظمة تتبنى برنامجًا للتعاون الاقتصادي بين مجموعة دول آسيا الوسطى ومنظمة التعاون الإسلامي؛ لتعريف الاحتياجات، وتبلور مشروعات محددة من شأنها أن تربط دول الإقليم وجيرانه بشبكة من الطرق البرية والحديدية، إضافة إلى تعزيز التقارب والتعاون في شتى المجالات.
وفي السياق نفسه، تجدر الإشارة إلى أن المنظمة تتبنى الفكرة التي بادرت إليها كازاخستان لإنشاء منظمة للأمن الغذائي تحت مظلة منظمة التعاون الإسلامي؛ بهدف تحقيق تكامل الإنتاج الزراعي بين الدول، وسد الثغرات، وتفادي حدوث نقص أي إمداد غذائي لأي سلعة غذائية أساسية. كما أعلنت منظمة التعاون الإسلامي أن مدينة “ألماتي” المدينة الكبرى في كازاخستان، ستكون عاصمة الثقافة الإسلامية لعام 2015.
كما عقدت اجتماعات في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، منها اجتماعات اللجنة السعودية الكازاخستانية المشتركة على المستوى الوزاري في الرياض، ومن ناحية ثانية يمكن القول إن التوجه نحو الاقتصاد الإسلامي أو الصيرفة الإسلامية، يشكل قاعدة مهمة للتقارب الخليجي مع هذه البلدان، في هذا السياق، لا سيما أن التوقعات تشير إلى أن قطاع التمويل الإسلامي سيتضاعف لتصل قيمته إلى 3.4 تريليون دولار في السنوات الخمس المقبلة.
أما البحرين فيأتي تحركها في هذا السياق من خلال بعض الكيانات المصرفية ذات الطابع الإسلامي، مثل “مجموعة البركة”، التي يتوقع أن تدلف إلى أسواق دول آسيا الوسطى عبر فروعها في تركيا؛ لأن تلك الأسواق تشترك في كثير من الخصائص مع تركيا لجهة الإرث، واللغة، والعلاقات القوية. كما تشهد هذه الدول علاقات متنامية مع دولة الإمارات العربية المتحدة، بوصفها الوجهة السياحية والاستثمارية الأكثر تميزًا عربيًّا لشعوب بلدان آسيا الوسطى ومستثمريها.
يحقق التقارب بين دول الخليج العربية ومصر، ودول اسيا الوسطى، واقعًا أكثر توازنًا، لا سيما أنه سيدعم فرص موازنة قوة اللاعبين الإقليميين الصاعدين، مثل إيران وتركيا، كما أن هذا التعاون سيدعم جهود دول المنطقة والمجتمع الدولي بصفة عامة لمكافحة الإرهاب، والحد منه، في ضوء تشابك العلاقات بين التنظيمات المتطرفة العابرة للحدود في تلك المنطقة، ويمكن في هذا الصدد أن تتطور العلاقات الخليجية المطّردة مع دول آسيا بشكل أكثر فاعلية، بما يحقق مصالح مختلف الأطراف، عبر بعض الآليات التكميلية التي تسهم في مزيد من الفهم المتبادل، ومنها:
إجراء حوار إستراتيجي بين مصر ودول اسيا الوسطى مبني على أساس دعم الثقافة الدينية المعتدلة ممثلة في دور الأزهر الشريف، الذي تنظر إليه شعوب المنطقة بكل فخر واعتزاز، وتعدّه المرجعية الدينية الأعلى لمسلمي العالم، وقلعة الاعتدال والوسطية، التي تدرس تراث العلماء الأفاضل الذين خرجوا من تلك المنطقة، وكان لهم سهم كبير في الحضارة الإسلامية، مثل الإمام البخاري، والإمام النسفي، والترمذي، والنسائي، ومذاهب المتكلمين الكبار، مثل المَاتُريدِيَّة، والطرق الصوفية التي نشأت فيها، اليسوية والقادرية، والنقشبندية، وغيرها، للبحث عن أفضل الطرق لتعميق العلاقات بين المنطقتين، ويُقترح في هذا الإطار:
الخاتمة
إن الحديث عن العلاقات بين العرب وآسيا الوسطى، هو حديث عن علاقة الجزء بالكل؛ فقد نشأ العرب في الركن الجنوبي الغربي لآسيا الوسطى، وبالتحديد في شبه الجزيرة العربية، ومنها انتشروا في القرن السابع شرقًا في اتجاه فارس (إيران) وآسيا الوسطى، وصولا إلى الصين وشبه الجزيرة الكورية والجزر الإندونيسية، كذلك اتجه العرب غربًا في اتجاه إفريقيا الشمالية. وبينما تحولت إفريقيا الشمالية إلى العروبة والإسلام، فإن فارس وآسيا الوسطى، ومعها باقي أجزاء آسيا، اعتنقت الإسلام، ولكنها لم تستعرب، ويبدو أن أحد العوامل التي أسهمت في عدم تحول آسيا إلى العروبة، هو الدور الذي لعبته إيران، كمنطقة عازلة بين موجات الهجرة البشرية العربية وباقي آسيا، مقارنة بالدور الذي لعبته مصر كمنطقة وصل بين العرب وباقي أجزاء القارة الإفريقية. ويمكن للعرب أن يعيدوا هذا الوصل المرتكز ليس فقط على مشتركات حضارية، وتاريخية، وثقافية، ودينية؛ ولكن أيضًا على مصالح كبرى اقتصادية وجيوسياسية، في منطقة مهمة بالنسبة إلى الولايات المتحدة، والغرب عامة، وروسيا، والصين، تسعى كل من إيران وتركيا وإسرائيل، لتثبيت نفوذها فيها لتبدو مفيدة أو قادرة على إزعاج قوى عالمية أخرى، لتحقيق أهدافها القومية العليا، التي في جوانب عديدة منها ستكون على حساب العالم العربي، وقواه الرئيسية المؤثرة (مصر، والسعودية، والإمارات).