بينما نبدأ مقالنا اليوم بشأن التيار المحافظ، فإننا بالتأكيد نجد أنفسنا بصدد أمرين؛ فمن جهة، بدأ التيار المحافظ بالظهور في أوروبا أواخر القرن الثامن عشر كرد فعل على التغييرات التي أحدثتها الثورة الفرنسية، ثم وصل إلى روسيا في أوائل القرن التاسع عشر (شيشكوف، وروستوبتشين، وغلينكا) وأدى إلى نشأة كثير من المدارس، بما في ذلك مدرسة الفكر المحافظ لأنصار النزعة السلافية (سلافوفيليا) من الروس (الإخوة كيرييفسكي، والإخوة أكساكوف، وسامارين، وخومياكوف) الذين وضعوا أسس المذهب المحافظ الروسي. كل هذا، بما في ذلك الجهود السابقة للمحافظين الأوروبيين، وإسهامات المحافظين الروس في تطوير الفكر المحافظ، يمنحنا أساسًا نظريًا جادًا للتعميم؛ مما يسهل مهمتنا نوعًا ما.
ومن جهة أخرى، فإن انتصار الحداثة في القرن العشرين، وخاصة الانتقال إلى نموذج ما بعد الحداثة (مع افتقاره إلى أي معايير) في بداية القرن الحادي والعشرين، قد أدخل العديد من الثغرات الأيديولوجية والتعميمات السياسية التي ولدتها الحداثة والعبث الصريح لـ “مفكري ما بعد الحداثة” في هذه الصورة المتسقة لتطور الفكر الفلسفي المحافظ. لقد حول كل هذا الفكر المحافظ، مثله مثل أي تيار فكري آخر، إلى مكب نفايات فكرية، حيث تتراكم أكوام من الاستنتاجات القيمة حقًا والهراء الصريح، التي وضعت- على ما يبدو انطلاقًا من اعتبارات تخريبية.
يعد هذا الأمر الثاني محيرًا ومربكًا جدًّا لأي باحث في الفكر المحافظ اليوم، حيث إنه يجبره على الخوض في هذه الأنقاض الفكرية بحثًا عن شيء ذي قيمة حقيقية؛ لهذا السبب بالتحديد تفتقر- بشدة- أي دراسة للفكر المحافظ- مثل أي دراسة اليوم- إلى الموضوعية، حيث إن الأمر متروك للمؤلف ليقرر ما سيأخذه من هذه الكومة من المعلومات الزائدة وما سيتركه؛ لذا من الضروري إجراء هذا التوضيح من أجل تجنب أي اتهامات بـ “عدم الموضوعية”، أو “التحيز” في التعميمات المقدمة هنا. نعم هذا رأي المؤلف، وهو وجهة نظر ذاتية ومبنية على التعميمات التي قام بها. إن الشيء الوحيد الذي يمكن تأكيده هو أن المؤلف يلتزم بمواقف التيار المحافظ الأساسي الروسي.
ومع ذلك، فإن المجموعة الكبيرة من الأبحاث الواردة هنا، التي أجريت في فترات سابقة، تفتح لنا آفاقًا واسعة جدًّا من التصورات عن تعريف التيار المحافظ بشكل عام، وتحديد أي من مظاهره الخاصة تندرج أو لا تندرج ضمن تعريفه. وانطلاقًا من سياق تطور الفكر المحافظ الروسي، سنأخذ بدورنا فقط تلك التعريفات المستخدمة والمعتمدة في روسيا التي تعد نظرًا إلى نشأة الفكر المحافظ الروسي من الفكر الأوروبي، شاملة- بشكل تلقائي (وفقًا لرأينا)- لتلك التعميمات التي أُجريت في أوروبا، والتي سيتعين علينا حتمًا الرجوع إليها أيضًا.
دعونا نبدأ من العكس، ونحدد ما لا يدخل ضمن تعريف التيار المحافظ. فالمحافظة ليست أيديولوجية سياسية. إن أي أيديولوجية سياسية هي أشبه بـ “خريطة الطريق” لتطبيق فكرة سياسية معينة، ومنظومة قيم، ومجموعة أدوات السلطة القائمة عليها، التي تريد أن تحظى بالشمولية. في النهاية، تهدف الأيديولوجية السياسية إلى الهيمنة على العالم من خلال تكييف كل شيء- تكييفًا صارمًا- مع صورتها المثالية، ورفض كل ما لا يتوافق مع هذه الصورة. ومع ذلك، يمكن لأي أيديولوجية أن تحمل طابع المحافظة.
لا يمكن للتيار المحافظ- في معناه هذا- أن يحظى بالشمولية، فهو منهجية، أي مجموعة من الأساليب التي تختلف من مجتمع إلى آخر، ومن حقبة تاريخية إلى أخرى، أي تختلف القيم التي يدافع عنها باختلاف المجتمع والفترة الزمنية. فعلى سبيل المثال، ما يعد مظهرًا من مظاهر المحافظة في المجتمع الأوروبي المتحرر بشدة في أوائل القرن التاسع عشر يمثل ذروة الفكر الليبرالي في روسيا في الفترة نفسها.
عرّف عالم الاجتماع والفيلسوف كارل مانهايم المحافظة على أنها تيار فكري ظهر في عصر الحداثة كرد فعل على الأحداث في فرنسا، ووصفها عمومًا بأنها رفض للتحول الليبرالي. لا يشمل هذا التعريف أي مجتمع تقليدي كان موجودًا قبل الحداثة بصفته شكلا رئيسيًّا للمجتمع؛ أي إن التيار المحافظ كظاهرة- بالمعنى الدقيق للكلمة- ظهر في فترة تشكيل الحداثة كرد فعل سلبي عليها، في حين يجب تعريف كل ما كان قبل ذلك بطريقة أخرى. على سبيل المثال، يقترح الفيلسوف ألكسندر دوغين أن يُطلق على ذلك مصطلح “ما قبل الحداثة”.
بعبارة أخرى، يتطلب التيار المحافظ تحديد السياق الخاص به، وربط أي بيان بالبيئة التي تعمل فيها منظومة القيم المحافظة الخاصة به؛ أي إنه لا يمكن للمحافظة أن تكون شاملة. فيعد الكاثوليك في المجتمع الأوروبي اليوم، الذي يتسارع في خلع عباءة المسيحية، محافظين من الدرجة الأولى، وفقًا للمعايير الأوروبية، في حين يكادون يكونون في نظر المسيحيين الأرثوذكس الروس المعاصرين الذين يتبنون المعتقدات المسيحية القديمة في قمة تدهور الأخلاق والعقيدة المسيحية، وليس هناك أحد أكثر منهم انحلالًا سوى البروتستانت بتعددية طوائفهم، ولكن في الوقت نفسه، فإن البروتستانت، على سبيل المثال في الولايات المتحدة، هم معيار المحافظة؛ لذا من حيث المقاربات والتقييمات، فإن التيار المحافظ يتميز بتعددية شديدة، فقط من خلال ترتيب أي مجموعة من القيم لأي مجتمع في أي فترة تاريخية حسب مقياس “محافظ – غير محافظ” وتوزيع هذه القيم حسب قربها أو بعدها عن الأصل، ولكن دون نكرانها أو- أكثر من ذلك- إلغائها (سنناقش معيار الأصل فيما بعد)؛ ومن ثم فإن النزعة المحافظة هي منهجية لترتيب “التعقيد المزدهر”، كما عرَّفها الفيلسوف الروسي كونستانتين ليونتيف. تكمن أخلاقيات المحافظة في الاعتراف بالاختلاف، وليس في إنكار ما لا يتناسب مع إطارها الصارم (وهو ما يميز أي أيديولوجية سياسية).
علينا هنا أيضًا أن نناقش ونستثني- على الفور- تعريف المحافظة من حيث الوعي الحياتي بوصفه غير ذي صلة. تُفهم المحافظة الحياتية على أنها الحفاظ على ما هو موجود في البيئة اليومية، وتثبيت للوضع الراهن، أي إنه رفض التغيير، ورغبة في إبقاء كل شيء كما هو. إن هذه النزعة المحافظة الحياتية خاصة بوعي العامة، ولكنها ليست سوى نظرة سطحية جدًّا، ونوع من رد الفعل للإنسان العادي، الذي يميل بطبيعته إلى المحافظة، والثبات، وليس إلى التغيير، فهو يرى أي تغيير شيئًا مروعًا جدًّا، لا ينتج عنه سوى ازدياد الأمور سوءًا، فتتولد لديه رغبة في إيقافه؛ ومن هنا جاءت شعبية المحافظة وسط العامة. تسمح النزعة المحافظة نفسها للأيديولوجيات السياسية، أو المدارس الفلسفية التي آلت إلى الزوال بالبقاء فترة أطول، تاركة المجتمع محرومًا من تطوير الفكر الفلسفي أو السياسي فترة طويلة من الزمن. هذه النزعة المحافظة تظهر قبل نهاية الدورة السياسية وتعد رد فعل نفسيًّا أكثر من كونها موقفًا ذا مغزى.
من المثير للاهتمام أن النخب يوصم بعضهم بعضًا بالمحافظة الحياتية، لا سيما أولئك الذين يلتزمون النهج الليبرالي، فيصفون أولئك الذين يعارضونه بالمحافظين على أساس أنهم “ضد التنمية”. يعد هذا مستوى بدائيًّا جدًّا من المنطق السياسي، الذي عادة ما يستخدمه الليبراليون، وخاصة في الولايات المتحدة وأوروبا، وكذلك اليساريون، وخاصة في أوروبا، وفي بقية أنحاء العالم، حيث ترسخ الفكر اليساري. يستخدم هؤلاء لفظة “محافظ” كأنها نوع من أنواع السباب أو “الشتم”، مثل “فاشي” أو “ظلامي”. لا يدل هذا الاستعمال المتدني لمفهوم المحافظة إلا على تدني مستوى أولئك الذين يرون أن المحافظة ظاهرة ذات دلالات سلبية، ويستخدمونها في الحرب الأيديولوجية (أتباع الليبرالية واليسار السياسي) ضد خصومهم.
يمكننا استنتاج عدة أنواع رئيسية من الأساليب المحافظة في معالجة النظام الاجتماعي والسياسي، وذلك من أعمال المحافظين الكلاسيكيين عن طريق التعميم. على الرغم من رفض المحافظين الأنطولوجي لأي ثورة، ومظاهر التقدمية والمادية والوضعية، يمكن استخدام المحافظة كمنهجية (كما ذُكر أعلاه) في حالات خاصة لتحويل نظريات الحداثة السياسية كذلك، بما في ذلك الليبرالية والماركسية (أيديولوجيات اليسار السياسي بشكل عام)؛ ومن هنا تأتي مظاهر المحافظة في الأيديولوجيات السياسية، مثل الليبرالية المحافظة، أو المحافظة الاجتماعية.
الليبرالية المحافظة هي تيار يسود في المدرسة الأمريكية المحافظة، مع أنه ظهر قبل ذلك بكثير في أوروبا، كما طوِّر كثيرًا في روسيا على يد “ب. ن. تشيتشيرين”، و”ك. د كافيلين”، و”ب. ب. ستروفي”، و”ن. أ. بيرديايف” كتحول تدريجي تطوري من بقايا الوعي التقليدي إلى القيم الليبرالية: “الملكية الخاصة، واقتصاد السوق، وحقوق المواطنين وحرياتهم، وهو ما يعد قيمًا مطلقة في المجتمع الليبرالي”. إلا أنه عادة ما يستبعد المحافظون الليبراليون أي أساليب ثورية لتحقيق تلك الأهداف الليبرالية الأساسية (كما كانت الحال في أواخر القرن الثامن عشر في فرنسا، أو في روسيا في تسعينيات القرن الماضي)، مفضلين الإصلاحات التطورية التدريجية، وهذا يشمل أيضًا قيمة الدولة التي يؤكدها المحافظون الليبراليون، في حين يعرّف الليبراليون الراديكاليون الدولة بأنها بقايا يجب التغلب عليها.
وكمثال على النهج الليبرالي المحافظ من التاريخ الحديث، يمكننا ذكر مفهوم “الإمبراطورية الليبرالية”، الذي اقترحه المصلح الليبرالي الروسي أناتولي تشوبايس في أوائل القرن الحادي والعشرين، والذي يتمثل جوهره في المزج بين السياسة المحافظة واقتصاد السوق؛ مما يعني تطبيق نظام اقتصادي مستقل مبني على الأسس الليبرالية والنظرية النقدية، ولكنه يُنفَّذ تحت إشراف الدولة. يتجسد هذا النهج بالتحديد في النظام الاقتصادي الروسي الحالي إلى حد كبير، مع وجود كتلة قوية من المحافظين الليبراليين المتبنين للنظرية النقدية في الحكومة خلال جميع فترات حكم فلاديمير بوتين. ولكن بشكل عام، يعتمد النموذج الليبرالي المحافظ الروسي على مقياس القيم الغربي، وهو لا يتمتع إلا بسيادة اسمية تجاه النظام الاقتصادي العالمي للغرب.
المحافظ الليبرالي، سواء في روسيا في عهد بوتين، أو في الولايات المتحدة وأوروبا، هو من يؤيد الضريبة الثابتة، ويعارض جميع أشكال السياسة الاجتماعية. إنه شخص يعارض مبدأ الرعاية الصحية المجانية، ويسعى إلى إخضاع كل شيء لرسوم، وتحسين العيادات، وتقليل الإنفاق الحكومي على الصحة. يعارض المحافظ الليبرالي دعم الفقراء على نفقة الدولة، ويؤيد الانسحاب التدريجي من جميع البرامج الاجتماعية، أي إنه مناهض للاشتراكية، لا ينحرف عن مبادئه. يرى المحافظ الليبرالي أن السعي إلى تحقيق العدالة أمر غير أخلاقي؛ لأنه قد يؤدي إلى ثورة، وأي ثورة تعني الدمار.
عرّف السياسي الإنجليزي، وأحد مؤسسي الفكر المحافظ، إدموند بيورك، النزعة المحافظة الليبرالية بأنها “مزيج من النزعة المحافظة والقدرة على التحسين”. ولكن رغم كل ذلك تعني المحافظة الليبرالية التسامح تجاه الدولة، أي إن التغييرات هي شيء جيد، خاصة إن كانت ليبرالية، ولكن الشيء الأهم هو ألا تدمر الدولة (كما كانت الحال في روسيا في التسعينيات من القرن العشرين). يحتاج المجتمع إلى الإصلاح، ولكن تدريجيًّا، ودون أن يتعرض لأي أذى بأي حال من الأحوال.
إذا أخذنا التجربة الروسية، فإن المحافظة الليبرالية هي أيديولوجية الأوليغارشية، وكذلك المصلحون الليبراليون الراديكاليون المستعدون في ظل ظروف معينة الدخول في عقد مع الدولة، مدركين أنه إذا تعذر خصخصة الدولة وإلغاؤها بالكامل (ما كان يحلم به المصلحون الليبراليون الروس والأوليغارشية في التسعينيات من القرن الماضي)، فمن الأفضل الاستمرار في استغلالها على الأقل، وتقسيم السلطات مع النخبة السياسية. بشكل عام، يمكن تسمية عصر فلاديمير بوتين بفترة الليبرالية المحافظة في روسيا، التي يحدث فيها تحول إلى الليبرالية بطيء، وبالكاد ملحوظ، وممتد إلى عقود، مع الحفاظ على بقايا الدولة الاجتماعية التي ورثتها روسيا من عهد ستالين. ليست روسيا الحالية فقط من تتبنى الفكر المحافظ الليبرالي؛ بل معظم النخب الأوروبية والأمريكية كذلك، التي استعارت منها الطبقةُ الحاكمة الحالية في روسيا هذا النموذج.
هناك مزيج آخر بين المنهجية المحافظة وأيديولوجية الحداثة يسمى المحافظة الاجتماعية. تمثل المحافظة الاجتماعية السعي إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، ولكن- كما هي الحال مع المحافظة الليبرالية- ليس بطريقة ثورية؛ بل عن طريق التغييرات التدريجية. من الأمثلة النموذجية على المحافظة الاجتماعية في روسيا المعاصرة ما يسمى بـ “الشيوعيين”، الذين يزعمون أن الماضي السوفيتي كان أفضل من الفترة الليبرالية التي تلته (يعتبر الادعاء بأن الماضي كان أفضل من الحاضر إحدى السمات المميزة للنهج المحافظ)، وأنه يجب استعادة المكاسب السوفيتية تدريجيًّا.
دون الخوض في تفاصيل ما كان أفضل وما كان أسوأ في الحقبة السوفيتية، يأسف المحافظون اليساريون- مثل أي محافظين بشكل عام- على انقضاء الماضي، ويرفضون ما جاء بعده، محاولين استعادة الحقبة السوفيتية، ولكن ليس بشكل كامل؛ بل فقط ما يتناسب مع واقع ما بعد الاتحاد السوفيتي القائم بالفعل: “العدالة، والفضيلة، والأخلاق والأنماط الاجتماعية للدولة”. إن أسس المحافظة اليسارية (الاجتماعية) هي تأكيد العدالة الاجتماعية بوصفها المعيار الأساسي للبنية الاجتماعية السياسية (وهو ما يميزها بشكل أساسي عن المحافظين الليبراليين)، فضلاً عن الحفاظ على الدولة الاجتماعية، والأسرة، والأخلاق الرفيعة وتطويرها، والتحرك بشكل عام نحو التوجه الاجتماعي.
من الأمثلة التاريخية التي يمكن ذكرها ضمن المحافظين الاجتماعيين، حركة النارودنيين (الشعبيين)، والاشتراكيين الثوريين، والاشتراكيين الثوريين اليساريين. إنهم (على عكس البلاشفة) حظوا بأكبر دعم ممكن بين الجماهير، وادعوا أن روسيا هي مجتمع أبوي تقليدي لا ينبغي له أن ينتقل إلى الرأسمالية؛ بل يجب أن ينتقل- من خلال المجتمعات- إلى النظام الاجتماعي، مع الحفاظ على الأسس الروحانية والأخلاقية؛ ومن ثم فإن المحافظة اليسارية هي العدالة الاجتماعية بالإضافة إلى القيم التقليدية، مع التركيز على الشعب والمجتمعات باعتبارهما الكيان الاجتماعي الرئيسي.
يمكن القول إن المحافظة الاجتماعية تقترح بناء مجتمع طوباوي (مكان جيد ومثالي لا وجود له)، يجمع بين أفضل ما في الماضي وحلم المستقبل. يشكل الشعب القوة الرئيسية للمحافظة اليسارية بدلاً من الطبقة الأرستقراطية؛ أي إن المحافظين الاجتماعيين يركزون على العوام بدلاً من السياسيين.
وهكذا، فإن الهدف الأسمى للمحافظة الاجتماعية المناهضة بشدة للبرجوازية والعقائدية (التي لا تقبل لا الاشتراكية الراديكالية، ولا الثورة بأساليبها المدمرة)، هو التقدم والحركة التطورية نحو العدالة من أجل العامة. يعد النظام الملكي مقبولًا كذلك لدى المحافظين الاجتماعيين، ولكن في إطار وجود القيصر الصالح (بالنسبة إلى الشعب) والطيب، الذي يعارض البويار (النبلاء). وُصِفَ هذا النظام الملكي الشعبي ذو النزعة الاجتماعية المحافظة في أعمال سولونيفيتش.
كان من مظاهر المحافظة الاجتماعية في أوروبا الاشتراكية البروسية، والفاشية (باعتبارها قومية يسارية)، وتيارات أخرى وصفها علماء اليسار المحافظ النظريون، مثل لورينز فون شتاين، وغوستاف شمولر، وأدولف فاغنر، وأوتو ماير، إلخ. في العالم العربي، بنيت الأنظمة الموالية للسوفيت على أساس المحافظة الاجتماعية، في مصر (في عهد عبد الناصر)، وفي سوريا والعراق على أساس حزب البعث (وهو ما لا يزال له تأثير في كثير من دول العالم العربي). يمكننا أن نذكر هنا أيضًا الجماهيرية الليبية في عهد معمر القذافي.
مع ذلك، فإن التيار المحافظ الأساسي- بالتحديد- هو الذي يمكن اعتباره التيار المحافظ الفعلي، الذي لا تشوبه أي عناصر دخيلة. يسعى التيار المحافظ الأساسي إلى تحقيق هدف رئيسي؛ هو الحفاظ على الأصل، وكل ما هو أصلي (كما ذُكر أعلاه)، مستندًا إلى فكرة أن تاريخ البشرية بكامله هو انصراف عن “العصر الذهبي”، وانتقال تدريجي، وسقوط إلى “العصر الحديدي”، وتحول من المعرفة الشاملة إلى الفقدان التدريجي لتراث الأجداد، والتقاليد، وحضور الروح. وهكذا نظرة التيار المحافظ الأساسية إلى عملية التحول برمتها التي تمر بها البشرية على أنها تدهور وركود وسقوط؛ لأن المعيار الرئيسي للتقييم هنا هو الروح، والروحانية، وليس المادة، والمادية، وكذلك الخلود، وليس الزمن. تسمي الكنيسة هذا السقوط في الحداثة خروجًا عن الأصل، أو ردة، أو رفضًا للعلمانية.
إذن، يعد الأصل هو النموذج الذي يجب اتباعه. وكلما اقتربت منه هذه الظاهرة أو تلك، باعتباره نقطة مرجعية، كانت أكثر محافظة، وابتعدت عن السقوط. وهنا نعود إلى حيث بدأنا، إلى تعددية النهج المحافظ. على سبيل المثال، بالنسبة إلى تاريخ الولايات المتحدة، كانت النقطة المرجعية الأصلية هي الحالة الروحانية والأخلاقية في أواخر القرن الثامن عشر لأوروبا التي كانت قد تدهورت تدهورًا خطيرًا في ذلك الوقت، وكانت تشهد ذروة نشأة الحداثة، لكن أصبحت حالة فتور الروح الأوروبية تلك بالتحديد، وانتصار الطوائف البروتستانتية هي النقطة المرجعية للولايات المتحدة، حيث كانت البروتستانتية وروح الثقافة الأوروبية في القرن الثامن عشر معيارًا للمحافظة والأولوية (الأصل).
إذا أخذنا التاريخ الروسي، فإن معيار الروح المحافظة للدولة الروسية هو روسيا المقدسة، التي بدأت كدولة مركزية للشعب الروسي (بدلاً من القبائل المتفرقة) منذ لحظة معمودية روس من الأمير القديس فلاديمير المعادل للرسل. منذ تلك اللحظة، كان المصير الوحيد الذي ينتظر روسيا المقدسة هو حكم عدو المسيح، ونهاية العالم، التي تتحرك نحوها الدولة الروسية، وهي تمر بمراحل مختلفة تقربها منها. إن المثل الأعلى للمحافظة السياسية بالنسبة إلى التاريخ الروسي هو الدولة في عصر دوقية موسكو، وهو النموذج السياسي البيزنطي القائم على سيمفونية القوى، الذي يفترض أن موسكو هي روما الثالثة، أي يتبنى البيزنطية السياسية في نسختها الأصلية، التي لم تُشوَّه بعد، ولم يحدث بها أي انحرافات عن المُثل الأصلية. تشكل فكرة المملكة الأرثوذكسية، والتحول إلى العصر الذهبي للدولة الروسية، القيم التي يسترشد بها التيار المحافظ الأساسي في نسخته السياسية، وذلك- في الوقت نفسه- بالإضافة إلى نقد الحداثة، ونهج التطور الغربي بصفته عملية تاريخية تعد معيارًا للسقوط الروحاني، والانحطاط، والتدهور، والانحدار من الروحانية إلى المادية، تم تبنيها طواعية.
يتمثل المستقبل، من منظور مناهج التيار المحافظ الأساسي، في الدفاع عن الحقائق الأبدية ضد التراجع عنها، والتخلي عن سمو الروح، والسقوط إلى أدنى مستويات الفقر الروحي والانحلال. يعد الحفاظ على دين الأسلاف، والإيمان بالله الخالد مهما كان الأمر، هو ضرورة مطلقة للمذهب المحافظ في تطلعه إلى المستقبل. ويعد هذا التطلع نموذجًا لأي تيار محافظ أساسي. ومن هذا المنظور، يمكن أن تتمتع كل من النارودنية (الشعبية) والعرقية (الإثنية) بالقدر نفسه من المحافظة، سواء في صورتهما الخلقية أو غير ذلك؛ ومن هنا جاء حب المحافظين للثقافة الشعبية.
إن سقوط الغرب ليس سوى خيار حضاري، وتراجع عن الأصل، وضرورة حتمية للحضارة الغربية، التي تسير في هذا الطريق بإصرار وخطى متتابعة. وهذا يعني أن الغرب، من وجهة نظر المحافظة الأساسية، هو مناهض للمحافظة من الأساس، ومع ذلك، هناك مجال للمحافظة في كل مرحلة تاريخية، وفي كل سياق دلالي لاحق؛ لأن كل مرحلة من مراحل سقوط الغرب تعد أكثر تحفظًا من المرحلة التالية، مهما بلغت فظاعتها في ذاتها.
باختصار، يعتمد نهج المحافظة الأساسية على إضفاء طابع الكمال على الماضي، فالماضي كامل، هو “حقيقي، وجيد، وجميل” (كما قال أفلاطون عن الفكرة)، والعودة إلى نظام القيم السائدة في الماضي هي في ذاتها فكرة بالنسبة إلى المحافظين، وهدف لبناء المستقبل، أما التقدم، كفكرة، وبسعيه إلى الكمال، فيعني السقوط. إن رفض التقدم بوصفه قيمة جوهرية هو حتمية مطلقة للتيار المحافظ الأساسي. يقف المحافظون الأساسيون ضد الزمن، الذي تضيف إليه الحداثة طابع الكمال، مدافعين عن الخلود. من وجهة النظر هذه، فإن الوضع على حافة الهاوية، والنهاية وشيكة؛ وذلك نتيجة التخلي عن المعايير الأخلاقية التقليدية، والانحلال الروحي، والسقوط في هاوية العدمية الروحية.
لكن المحافظة الأساسية ليست فقط توجهًا لرفض التقدم، حيث غالبًا ما يحاول خصوم المحافظين تصويرهم؛ بل هو أيضًا توجه بنَّاء وإيجابي. تتمثل صورة المستقبل، من وجهة نظر النهج المحافظ، في استعادة الدين، والإمبراطورية (النموذج التقليدي للدولة، على عكس الدولة القومية الحديثة)، والملكية (حيثما أمكن ذلك). إن الرسالة الرئيسية للتيار المحافظ الأساسي هي كالتالي: “منظومة القيم الأخلاقية تنهار أمام أعيننا”. وترد المحافظة الأساسية على وحشية الأخلاق تلك بتوجهها الإيجابي إلى المستقبل القائم على العودة إلى الأصول والقيم الأبدية.
بالنسبة إلى المحافظين الروس، يتمثل جزء لا يتجزأ من توجههم البنّاء في استعادة دور الطوائف الدينية التقليدية في حياة المجتمع، ومنها بالإضافة إلى الأرثوذكسية، التي يفضل أن تكون في نسختها الأصلية قبل الانشقاق، الإسلام التقليدي، واليهودية التقليدية، والبوذية التقليدية، وغيرها من المعتقدات التقليدية للشعوب الأصلية في روسيا بتعدد أنواعها. تعد كلمة “التقليدي” هنا ذات أهمية أساسية، حيث إنه تُستبعد جميع أنواع الطوائف، خاصة تلك التي أُنشئت في عصر الحداثة كبديل ديني زائف لا علاقة له بالتقاليد والأنواع الدينية الأصلية. يتأثر الإحياء الديني- كذلك- بالنهج التعددي للمحافظة. فعلى الرغم من صرامة تلك المعتقدات الأساسية، لا يؤدي النهج المحافظ إلى قمع الأديان والحقوق والحريات. إنه فقط يضع كل هذا في سياق ديني، ويصنف جميع الطوائف الدينية إلى تقليدية وغير تقليدية، وحتى إذا تحدثنا عن طوائف ليست تقليدية بالنسبة إلى روسيا (مثل الأنجليكانية)، لكنها موجودة في الفضاء الديني الروسي قرونًا، فيصنفها إلى راسخة وغير راسخة.
يعد النموذج المثالي للمحافظ هو الشخص الروحاني الذي لا يستطيع أن يتخيل نفسه دون الله والحقيقة والأبدية، والذي يؤمن بالعناية الإلهية.
ومن بين الكمائن التي غالبًا ما ينصبها للمحافظين خصومهم هو سؤالهم عن إنكارهم للتقدم العلمي والتكنولوجي، قائلين إنه إذا كنتم من المحافظين، فلماذا تستخدمون جميع الابتكارات التقنية ولا ترتدون اللابتي، وتستنيرون بشمعة؟[1] هذه حجة تخمينية بحتة وسطحية؛ حيث إنه لا تستبعد القيم الروحية للمحافظين التقدم التكنولوجي، خاصة فيما يتعلق بمسائل الدفاع والأمن، ولكن الفارق الوحيد هو أن المحافظين لا يضفون طابع الكمال على التقدم العلمي والتكنولوجي ومشتقاته، ولا يقدسونه، بل يستخدمونه بهدف المنفعة، وحسب الحاجة. وفي منظومة قيم المحافظ، الكمال لله وحده، في حين أن التقدم العلمي والتكنولوجي ليس له سوى أهمية تطبيقية، ومكانه في أسفل التسلسل الهرمي للقيم.
إن أحد مظاهر النزعة المحافظة، التي يمكن تصنيفها تصنيفًا أكثر منطقية على أنها تنتمي إلى التيار المحافظ الأساسي، هو الثورة المحافظة. الفارق الرئيسي هو أن الأساليب الثورية تعد مقبولة هنا، ولكن ليس من أجل التحقيق السريع للنتائج التقدمية أو الليبرالية، ولكن بالعكس، للتأكيد الثوري للقيم المحافظة. لا تقترح الثورة المحافظة الحفاظ على بقايا القيم التقليدية والمحافظة، ولكنها تصر على التأكيد الثوري للمبادئ الأبدية من جديد، وبشكل فوري وكامل، على الرغم من الانتصار الظاهري للحداثة.
من بين المدافعين الغربيين عن الثورة المحافظة أوزوالد شبنجلر، وكارل شميت، وآرثر مولر فان دن بروك، ويوليوس إيفولا، ومارتن هايدجر. ومن بين المنظرين الروس للثورة المحافظة، التي غالبًا ما يشار إليها في روسيا في سياق الأيديولوجية السياسية للبلشفية الوطنية، يمكننا ذكر أوستريلوف، وسافيتسكي، ودميترييفسكي. لا يحتمل الثوار المحافظون الوضع الراهن. إنهم يطالبون بالرجوع إلى كل ما هو أصلي وتقليدي في التو واللحظة، وهو ما يميز- بشكل عام- الفئة الأرستقراطية. الثوريون المحافظون هم أرستقراطيو الروح الذين يلجأون إلى اللاوعي التقليدي كقوة ثورية. وتعد الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 أحد الأمثلة على التطبيق السياسي لأفكار الثورة المحافظة ومناهجها.
يرتبط التيار المحافظ في روسيا بالتقاليد، ولا يمكن فصله عن العقيدة الدينية، أي إنه نوع كامل من المحافظة الأساسية، وقريب من المثالية. إن النزعة المحافظة الأساسية معيارية وطبيعية في روسيا إلى درجة أنها هي بالتحديد التي تسمى بالمحافظة في المفهوم الروسي. على الرغم من تطور المدرسة الليبرالية المحافظة، والمحافظة الاجتماعية والثورة المحافظة في روسيا، فإنها جميعها استُعيرت من الغرب، وتمثل فقط خطوطًا فكرية منفصلة داخل الحركة المحافظة العامة، التي تعد أساسية والأكثر راديكالية في أسسها.
تعني المحافظة في روسيا استعادة التقاليد الروسية بالكامل، وفي شكلها الأولي، وإعادتها إلى الشكل الذي كانت عليه قبل بداية استعارة الابتكارات الغربية والتجارب الليبرالية التي بدأت مع انشقاق الكنيسة في القرن السابع عشر، من خلال إصلاحات بطرس الأكبر، مرورًا بالفترة الليبرالية من القرن الثامن عشر التي تلتها نهضة قصيرة للتيار المحافظ في القرن التاسع عشر، وانتهت- بطبيعة الحال- بثورة 1917. ومع ذلك، ظل معظم التاريخ الروسي الذي امتد إلى أكثر من ألف عام في عباءة التقاليد؛ مما يعني أن الوعي الروسي، سواء للعامة أو للنخب، محافظ في أساسه، وكان محافظًا وتقليديًّا حتى قبل ظهور المحافظة نفسها- كرد فعل على تحديات الحداثة- وكذلك قبل الحداثة نفسها التي وصلت إلى روسيا بعد تأخير كبير.
لطالما كانت الأرثوذكسية الروسية، مثل جميع الأديان التقليدية، تنتمي إلى التيار المحافظ الأساسي، وتنطلق من الاعتراف بوجود العصر الذهبي للتقاليد الأصلية، مُقرة بعملية الردة والتراجع والانحطاط التي حدثت بعد ذلك. إن ما يسميه الغرب تطورًا، يُعرِّفه الوعي الديني الروسي بأنه سقوط، وأي محاولة للحاق بالغرب في السياق المادي والتقني كانت تتم في التاريخ الروسي لا محالة على حساب القداسة والتقاليد، من خلال الانصراف القسري والصارم عن الأصل إلى الحداثة، وهو ما كان دائمًا مصحوبًا بالدماء وبتضحيات كبيرة.
الفارق بين المحافظين الروس وغيرهم هو أن المحافظين الروس يتطلعون دائمًا إلى الأصل، ولا يستسلمون للانحراف عنه، في حين أن الفكر الغربي المحافظ ينحرف عنه باستمرار، وفي كل مرة يترسخ في كل منعطف جديد من ذلك الانحراف وكأنها نقطة انطلاق جديدة. وأكثر من ذلك أنه في عالمنا الحالي، غالبًا ما تُنسب أكثر أنواع الانحطاط فظاعة إلى المحافظة، خاصة في الولايات المتحدة. وماذا عمن يسمون بالمحافظين الأمريكيين، وفي مقدمتهم “الحزب الجمهوري” الأمريكي، فإن كل الفارق بينهم وبين ليبراليي “الحزب الديمقراطي” هو درجة جواز نزع الصفة الإنسانية. في الوقت الذي يدعو فيه الليبراليون الأمريكيون (الديمقراطيون) إلى التحول النهائي إلى ما بعد الإنسان “المسوخ، والمستنسخات البشرية، والسايبورغ، وأنواع أخرى من التهجين بين الإنسان والآلة”، يدعو خصومهم الجمهوريون الذين يزعمون أنهم محافظون إلى التوقف على تشريع زواج المثليين، فضلا عمن يسمون بالمحافظين الجدد. في الواقع، وضع أتباع مُنظّر المحافظين الجدد ليو شتراوس منهجية المحافظة ومقارباتها لتخدم الشيطانية الصريحة، وليست الأوبرالية، بل الواقعية، وقلبوا كل شيء رأسًا على عقب. اتخذ ليو شتراوس أفكار نيتشه وهايدجر وشميت أساسًا له، وقلبها ليضعها في خدمة الأهداف الأدنى والأكثر وحشية ومناهضة للإنسانية. إن تيار المحافظين الجدد الأمريكيين في جوهره هو شيطانية تحت ستار المحافظة، هو عدو المسيح الذي يزعم أنه المسيح. بشكل عام، كل ما يحدث في السياسة الأمريكية والفكر الأمريكي يمثل النقيض تمامًا لما هو معتقد في روسيا، وأوراسيا، والشرق، ويؤخذ بالعكس، ويُقلب رأسًا على عقب، وهذا يعني أن تيار المحافظين الجدد الأمريكيين هو نقطة تقع أقصي القطب المقابل للتيار المحافظ الروسي الأساسي.
على الرغم من ذلك، يجب الاعتراف بأن الغرب المتحضر بشكل عام، والولايات المتحدة بشكل خاص، لم يصلوا إلى نقطة الانحدار القصوى هذه في لحظة، ولكنهم دائمًا ما كانوا يتحركون إلى الأمام، متقدمين على الحضارات الأخرى؛ لذلك، في أي مرحلة تاريخية، كل ما هو محافظ للغرب وأوروبا والولايات المتحدة يكون بالنسبة إلى المجتمع التقليدي ليبراليًّا جدًّا، ويمثل درجة عميقة من الانحطاط. ومع ذلك، نظرًا إلى أن الانحلال أسهل من الترابط، والعيش في راحة ونعيم أسهل من الزهد والسمو الروحي، فإن الغرب ينتصر في كل مرة يعرض فيها على العامة الهبوط درجة أخرى إلى الأسفل، إلى المستوى التالي من الانحلال، إلى الراحة، والاسترخاء، والرذيلة الشرعية. في هذا تكمن “مميزاته”، وسر انتصاره الدائم على التقاليد والمحافظة.
لقد تأثر المجتمع الإسلامي بنموذج التنوير الغربي بشكل سطحي جدًّا. بشكل عام، هو مثل المجتمع الروسي مبني على أسس المحافظة الأساسية، وينجذب في حالته الطبيعية دون تدخل غربي، نحو الحالة الأولية المتوازنة، ويعود إلى الأصول والنماذج الاجتماعية السياسية التقليدية الثابتة.
يقوم النظام المحافظ الأساسي العربي على الإسلام التقليدي (السُّني عادة)، تمامًا كما تتشابك أسس المحافظة الأساسية للمجتمع الروسي تشابكًا وثيقًا مع الأرثوذكسية. بالإضافة إلى ذلك، فإن المنظومة الاجتماعية العربية، كما هي الحال في البيئة الروسية، تقوم على المجتمع كوحدة منسجمة، وذلك بوصفه كيانًا اجتماعيًّا رئيسيًّا. إلى جانب الوعي الديني العميق، كل هذا يجعل المجتمع العربي، والعالم العربي بشكل عام، مستقرًا ومتناغمًا، وشبه محصن ضد أي نماذج للقيم السياسية والأيديولوجية الغربية. كانت هذه هي الحال أيضًا في المجتمع الروسي حتى انشقاق الكنيسة في القرن السابع عشر، الذي كان يهدف إلى تدمير هذه الأسس الطائفية الدينية، والأسس التقليدية، التي جعلت الدولة الروسية غير معرضة تقريبًا للعدوان الغربي، سواء العسكري، أو الأيديولوجي (مفهوم الدولة الحصن).
مثلما دخل الغرب العالم الروسي مسببًا تآكل الأسس الأصلية والتقليدية المحافظة، وكسرها في نهاية المطاف، فقد تعامل بالطريقة نفسها مع العالم العربي. وإدراكًا من الغرب أنه لن ينجح الأيديولوجيون والسياسيون والاستراتيجيون الغربيون في فرض منظومة قيمهم على العالم العربي دون تدمير أسس الإسلام التقليدي، فإنه يدخل المجتمع العربي الإسلامي من خلال الإسلام بوصفه الأداة الأكثر تأثيرًا في النظام الاجتماعي.
بعد أن أُثبت تجريبيًّا أن المجتمع القائم على الإسلام التقليدي هو شبه منيع وغير معرض لأي تأثير خارجي، بدأ الأيديولوجيون الغربيون عملية طمس التكامل العَقَدي للإسلام من خلال إدخال بعض العناصر المستحدثة وغير الطبيعية به، أي عن طريق تحديث الإسلام وتجديده. يمكن إرجاع بداية هذه العملية إلى القرن الثامن عشر، عندما بدأ- كما يقولون الآن- التكنولوجيون السياسيون والأيديولوجيون البريطانيون في تلك الفترة بإنشاء نسخة محدثة من الإسلام على طريقة التنوير الأوروبي. لقد فعلوا ذلك من خلال تبسيطه وإدخال الابتكارات التي تتماشى مع روح العصر (الأوروبي) الجديد، مع نقد العناصر “القديمة” التي “عفى عليها الزمن” و “غير الحديثة”، واستبدال عناصر وتعميمات أخرى مبسطة وحديثة وتقدمية بتلك العناصر القديمة.
كان أحد رواد هذه العملية والمبادرين إليها، أو بالأحرى من ذاعت شهرته، حسن البنا، مؤسس جماعة “الإخوان المسلمون” (منظمة إرهابية محظورة في روسيا). فإنه بمشاركته ظهر تيار التجديد في الإسلام، الذي أتاح الفرصة لأن يُخلق على أساس التقليد الإسلامي (من خلال التبسيط والتحديث) نسخ سياسية من الإسلام، أي نوع من الأيديولوجيات السياسية التي تشبه في مهامها النظريات السياسية الرئيسية للحداثة (الليبرالية، والماركسية، والقومية) التي كانت آنذاك في مرحلتها التكوينية. الهدف من هذه العملية هو خلق واجهة مفهومة للسياسيين والإستراتيجيين الغربيين لدخول المنطقة العربية، أو أي مجتمع إسلامي بشكل عام، من أجل إخضاعه وإدارته فيما بعد، أي للكشف عن المجتمع الإسلامي، وفرض نظامهم المعرفي عليه، ونشر الأسس الغربية فيه، وإدخال معاييرهم وأساليبهم الخاصة في تفسير الأمور. بالأخذ في الحسبان الوعي الديني المرتفع في العالم العربي، أصبح الإسلام هو السبيل الوحيد للقيام بذلك.
وهكذا يسيّس الغرب الإسلام لجعله أداة للسيطرة الخارجية على المجتمعات الإسلامية التقليدية. أساس هذا النهج، الذي يفسد الإسلام التقليدي ويحدّثه، هو العقلنة والتخلص من كل ما هو غامض، والتطهير من التقاليد، التي تضع التعاليم الإسلامية في سياق شعبي أو بيئي (ما يعرف في الإسلام بالعادات). الحقيقة، هذه سكولاستية تجاه الإسلام أي إنه تُطبق عليه تجربة التحديث نفسها التي تعرضت لها المسيحية في وقت سابق في أوروبا خلال مسيرتها في طريق التحديث، والتبسيط، والتطهير من العنصر الغامض اللاعقلاني. هكذا نشأت الظروف التي سمحت بظهور الإبداع السياسي والأيديولوجي الحر لدى الإستراتيجيين الغربيين، على غرار تلك التي تم تهيئتها في المسيحية الغربية. كان الهدف الرئيسي هو جعل الإسلام منفتحًا ومرنًا وقابلا للتأقلم بحرية مع الأيديولوجيات السياسية لعصر الحداثة من خلال القضاء على هيمنة المصدر الإلهي المعصوم من الخطأ وغير المتغير. وقد تحقق ذلك بإضافة عنصر ثالث- بالإضافة إلى القرآن والسنة- وهو آراء رجال الدين بتفسيراتهم ومواقفهم وآرائهم المعصومة من الخطأ (مثل البابا فرنسيس والكرادلة).
بعبارة أخرى، لقد خلقت جهود الأيديولوجيين الغربيين على مدى ثلاثة قرون نسخة سياسية محدثة من الإسلام الزائف، التي سيكون من الأصح تسميتها بالإسلاموية، بالأخذ في الحسبان وظيفتها السياسية التي لا تنفصم عنها، والتي تتمثل في وجود كثير من السياسات والأيديولوجيات القائمة على الإسلام. في الواقع، الإسلاموية ليست إسلامًا، على الرغم من حماسة الدعاة الإسلاميين وادعائهم ذلك. نشأت الإسلاموية وانتشرت نتيجة التدهور العام في المستوى التربوي والروحي في البيئة الإسلامية، وكذلك التجارب السياسية والأيديولوجية التي شهدها القرن العشرون، والتي أدت إلى تحديث المجتمعات الإسلامية ككل تحديثًا كبيرًا، والانحلال العام الذي سببته الحداثة، ونسيان الجذور والتقاليد الإسلامية الأساسية.
ويعد من المفارقات ادعاء كثير من الباحثين في الإسلام السياسي وأتباعه أنهم ينتمون إلى “التيار المحافظ الأساسي”، وأنهم يؤيدون الإسلام “الأصلي” أو “النقي”. يمكن تفسير ذلك بالإشارة إلى أن الأساس النظري للإسلاموية قد نشأ بالكامل بمشاركة مباشرة ونشطة من المنظرين وعلماء الدين الغربيين (بمن فيهم المتعلمون في الغرب). لقد ذكرنا من قبل أن المحافظة تعتمد على السياق، أي إن درجة المحافظة يمكن أن تكون نسبية، اعتمادًا على البيئة والسياق والنقاط المرجعية المتغيرة. لا يمكن لممثلي الجماعات الإسلاموية أن يظهروا كأتباع للتيار المحافظ الأساسي إلا في أعين الأوروبيين، وهذا إقرار لوجهة نظر أوروبا، التي ابتعدت عن الأصل إلى درجة جعلتها تنسب إلى التطرف والتيار الأساسي أي مظهر من مظاهر التدين بصفة عامة. من وجهة نظر النهج المحافظ الأساسي الروسي، فإن أنصار الحركات والطوائف الإسلاموية ليسوا سوى مجددين يخلقون تنوعًا سياسيًّا توفيقيًّا عن موضوع الإسلام لاستخدام الجماهير الإسلامية غير الواعية، وذات التعليم الديني الضعيف لخدمة مصالح الغرب السياسية. بعبارة أخرى، يُعد الإسلاميون بمنزلة البروتستانت في الإسلام، حيث إن كثيرًا من الطوائف البروتستانتية في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة، يدعون كذلك أنهم مسيحيون أصليون وهم الأصل والحقيقيون، لكنهم- في الواقع- مجتمعات شبه دينية بعيدة- كل البعد- عن المسيحية الأصلية.
وهكذا فإن موقف المحافظة الأساسية الروسية تجاه الإسلام هو بالضبط موقفها نفسها تجاه المسيحية بشكل عام، والأرثوذكسية بشكل خاص. إن نسخة الإسلام القريبة من الأصل فقط هي التي تُعد النسخة التقليدية والمحافظة والأساسية، وليست تلك المحدثة والمكملة من “الدعاة” الإسلاميين، التي غالبًا ما تكون ذات أصل غربي وتسمى بـ “الأصلية” في مفهوم الإسلام السياسي، بل النسخة التي بقيت على حالها دون تغيير منذ زمن الرسول، قبل ظهور البدع، والتجديد والتغيير. ولكن لإبراز نسخة الإسلام تلك قبل التعديل، يستخدم الإسلاميون صفات “الصحيح”، و”الأصلي”، و”الأصيل”، و”الأساسي”، كما يفعل جميع الطائفيين في جميع الديانات. أما الإسلام التقليدي فهو فقط الإسلام، دون ألقاب إضافية، هو الأصيل الذي لم يتغير، وتشكل عبر القرون في السياق التقليدي للشعوب على أساس الآيات والعادات.
إن نتيجة تجربة التجديد هذه هي الآلة السياسية والأيديولوجية التي يحتاج إليها الغرب لتنفيذ توسع غربي في العالم العربي. بعد أن بدأ المنظرون الغربيون بإعادة تفسير الأسس الإسلامية، واصلوا هذا الاتجاه حتى أعادوا تفسير جميع ما ترتب على ذلك. هذه هي الطريقة التي شُوِّهت بها فكرة الخلافة الإسلامية تمامًا، وحوِّلَت بالطريقة الغربية إلى دولة قومية كبيرة تتوافر لديها مظاهر الحداثة، في حين لا تُعد الخلافة التقليدية الحقيقية سوى إمبراطورية تقليدية، أي نموذج للدولة التقليدية (ما قبل الحداثة)، التي يتم التعبير عن مبدئها الأساسي- الوحدة الإستراتيجية للتنوع – في التسامح المطلق مع الأديان الأخرى، وتقبل التنوع الطائفي والعرقي والثقافي واللغوي.
وتأكيدًا لهذه الأطروحة، يكفي ذكر الخلفاء الأوائل، مثل الخليفة الراشد عمر، الذي كانت تربطه علاقات وثيقة وودية مع القديس صفرونيوس في القدس، والخليفة معاوية الذي كان يسمي نفسه بـ “أمير المؤمنين”، معتبرًا النصارى من بينهم. كان الخليفة الوليد الذي قضى أيامه الأخيرة في دير مسيحي ودفن فيه، متسامحًا كذلك مع المسيحيين. أما النسخة الحالية مما يسمى بـ “الخلافة الإسلامية”، التي يروج لها الإسلامويون من داعش (منظمة إرهابية محظورة في روسيا) إلى الأب الروحي لها ولكل جماعات التطرف “الإخوان المسلمون”، فهي غير متسامحة تمامًا مع أي معارضة، بمن في ذلك المسلمون المعارضون. إنها نسخة أوروبية، ولكنها وضعت في سياق إسلامي. هكذا يرى الأوروبيون العالم، ينظرون إليه نظرة متغطرسة وعنصرية، ويبنون تسلسلًا هرميًّا للأمم، واضعين أنفسهم على رأسه، غير متسامحين مع أي رأي آخر يختلف عن موقفهم العَقَدي أو الأيديولوجي. ليس هذا نهجًا محافظًا؛ بل هو نهج الغرب الحديث؛ مما يعني أن كل من يصرح به هو نتاج الفكر الغربي، والأيديولوجية الإسلامية المتحولة تحت تأثيره “الإخوان المسلمون” والحركات الإسلامية الأخرى التي تنسب نفسها إلى “التيار المحافظ الأساسي” وتعلن رغبتها في بناء “الخلافة الإسلامية” هي نتاج الفكر الغربي، وأداة للسياسة الغربية، مثلها مثل الحركات والهياكل الغربية المماثلة، ومصطلح “الإسلام” الذي يستخدمونه كثيرًا ما هو إلا خدعة تُقلق المسلمين المخلصين، وتُستَغَل في أغراض تتعارض تمامًا مع تطلعات الإسلام التقليدي.
في النهاية تجدر الإشارة إلى أن هناك شيئًا واحدًا مشتركًا بين جميع فصائل المحافظين الأساسيين؛ وهو أنهم يعترفون بشرعية المجتمع التقليدي. ولكن حتى المحافظة بشكل عام، مع أنها تعتمد على السياق ونسبية، فإن لها سمة مشتركة؛ وهي أن جميع الأفكار المحافظة تشير إلى أن العالم لا يتطور “إلى الأعلى وإلى الأمام”، كما يؤكد التقدميون ولكنه يتراجع، من العصر الذهبي إلى نهاية الزمان؛ مما يعني أن كل فترة لاحقة- ليس في نطاق الحياة العامة، ولكن في النطاق التاريخي- تكون أسوأ من الفترة السابقة؛ لأنها تصبح أكثر بعدًا عن الأصل. تكمن مهمة المحافظ على الأقل في إيقاف هذا التراجع، وعلى الأكثر في العودة بالتاريخ إلى الوراء، والعودة إلى المبادئ الأصلية، ولكن ليس العودة إلى الماضي؛ بل التقدم إلى المستقبل، إلى القيم التقليدية الأولية: الخلود، والروح، والخلاص. المحافظ الحقيقي هو الذي يسعى إلى استعادة العلاقة بين الإنسان والله، ولا شيء يمكن أن يوقفه عن هذا الطريق.
[1] اللابتي: حذاء مصنوع من الألياف كان الفقراء يلبسونه عادة في الأرياف الروسية حتى مطلع القرن العشرين.
ما ورد في المقالة يعبر عن رأي الكاتب، ولا يعبر بالضرورة عن رأي هيئة التحرير.